الحكمة – متابعة: يغادر آخر اثنين من الصحفيين شارع فليت، الذي اشتهر بكونه مركز الصحافة في المملكة المتحدة.
الصحفيان هما غافين شيريف وداريل سميث، وعملا في جريدة “صنداي بوست”، التي تغلق مكتبها في لندن يوم الجمعة.
وعلى مدار عقود، ضم شارع فليت مكاتب أكبر الصحف البريطانية.
ويقول رئيس التحرير السابق لجريدة “صنداي إكسبريس”، روبن إيسر، إن الشارع “كان شديد الأهمية”، إذ أنه المكان الذي يحصل منه العامة على معلوماتهم.
ونُشرت أول جريدة يومية بريطانية، واسمها “دايلي كورانت”، في شارع فليت في 11 مارس/آذار عام 1702.
وأطلق البعض على الشارع اسم “شارع الفضائح”، وكان مركزا هاما للمشوار المهني لأي صحفي، إذ تقع فيه مكاتب العديد من الصحف المحلية والهامة.
وعمل سميث، وعمره 43 عاما، كاتب تحقيقات في جريدة “صنداي بوست”، وكان مقره عمله في شارع فلييت على مدار 25 عاما.
وسريعا ما أشار سميث إلى أن عنوان الجريدة هو نفسه عنوان شخصية خيالية لحلاق يُدعى سويني تود، كان يذبح زبائنه.
ويقول سميث أن موت الصحافة الورقية أُعلن على ألسنة المرشدين السياحيين في لندن قبل وصوله إلى شارع فليت. “كنت أقف بجانب النافذة منذ عدة سنوات، حين توقفت إحدى الحافلات السياحية. وسمعت المرشد السياحي يقول للركاب إنه لم يعد أي صحفي يعمل في شارع فليت. فأخرجت رأسي من النافذة وصرخت “ما زلنا هنا”.
وعُرف الشارع بوجود الكثير من المقاهي، وامتلأ بالصحفيين الذي يعملون أو يبحثون عن قصص. ويذكر سميث أنه أراد التحدث إلى زميل في مقهى “إل فينو”، ويقول إنه لم يُسمح له بالدخول حتى ارتدى معطفا بمقاس لا يناسبه.
وتابع: “ثمة الكثير من التاريخ هنا، وكوني من بين آخر الصحفيين في هذا المكان يجعلني أشعر بعدم الاستحقاق للمسئولية التي على عاتقي”.
أما شيريف، ويبلغ من العمر 54 عاما، فقد عمل في شارع فليت على مدار 32 عام، وترقى ليصبح كبير محرري جريدة “بوستس لندن”. ويقول إنه في أول يوم عمل، دخل غرفة أخبار مليئة بالدخان، على أصوات النقر على الآلة الكاتبة.
وتابع: “لم تكن الهواتف تعمل جيدا، وكنت أدهش إذا اتصلت الخطوط من أول محاولة للاتصال بشخص”.
وعن ذكرياته عن الشارع في أوج مجده، يقول: “كنت أرى الشاحنات المحملة بلفائف الورق الضخمة وهي تحاول الدخول إلى الشوارع الجانبية لتوصيل شحناتها إلى المطابع. وامتلأت المقاهي بالصحفيين وأصحاب المطابع. أما الآن، امتلأ الشارع بمحال السندوتشات. كان يصعب مجرد التفكير في هذا الأمر منذ 30 عام”.
وعن الأجواء في الشارع، يقول شيريف إنها “كانت ترقي لكل التصورات التي تخطر بالبال قبل المجيء إلى الشارع. لكنك لا تستطيع إصدار الجرائد بنفس الطريقة التي كان يتم بها الأمر من قبل.”
وبعد التسريح من العمل، يصبح سميث صحفي حر، في حين يتفرغ شيريف لكتابة مذكراته.
وامتد المشوار المعني للصحفي روبن إيسر في شارع فلييت على مدار 60 عاما، أصبح خلالها مدير التحرير التنفيذي لجريدة “دايلي ميل”.
ويقول إيسر: “في أوج ازدهار شارع فليت، كان التليفزيون ما زال وليدا، ولم يكن لمواقع التواصل الاجتماعي أي وجود. واستقى العامة 85 في المائة من معلوماتهم من الجرائد. لابد من تخليد لحظة مغادرة آخر الصحفيين، لكن لابد أيضا من النظر إلى المستقبل، وليس الماضي”.
وكحال كل الكيانات الكبرى، انكمشت سطوة شارع فليت على عالم الصحافة بمجرد رحيل الجرائد التي يمتلكها روبرت موردوخ، وهي “ذا صن”، و”أخبار العالم” التي أُغلقت حاليا، و”تايمز”، و”صنداي تايمز”، ونقلها جميعا إلى مقر واحد عملاق في شرق لندن عام 1986.
وأدى الأمر إلى خلاف شرس على مدار عام، تحول إلى العنف في بعض الأحيان، وانتهى بهزيمة الاتحادات المهنية.
وفي عام 1988، نُقلت كل الصحف الوطنية من شارع فليت إلى منطقة دوكلاندز، واعتمدت على طرق الطباعة الحديثة بالكمبيوتر، بدلا من الألواح المعدنية الساخنة، وأصوات الآلات الكاتبة.
وتدريجيا، استُخدمت المباني التي خلفتها هذه المؤسسات إلى استخدامات أخرى. بعضها أصبح محالا تجارية أو مطاعم.
والآن، ينتهي جزء آخر من قصة شارع فليت، ووصل هذا العهد الشهير من التاريخ البريطاني إلى نهايته.
ويقول سميث: “أردت دائما أن أكون صحفيا، ولدي شغف بالتاريخ، ومجرد النظر إلى هذه المباني يثير وجداني. أبتسم كلما تذكرت أن هذا المكان أصبح من التاريخ”.