لماذا نشعر بألم شديد عند الإصابة بجرح نتيجة الاحتكاك بحواف الورق؟
550
شارك
الحكمة – متابعة: رغم أن الورق يبدو مادةً لا خطر منها على الإطلاق، فإن أي شخص خدشته ورقة حادة الحواف – سواء وهو يقلب سريعاً للغاية بأصابعه صفحات كتاب، أو خلال إعادته تعبئة آلة لتصوير المستندات بالأوراق – يعلم أن تلك المادة ذات المظهر الوديع والمتواضع تخفي بداخلها سراً.
إذ أن بوسع الأوراق أن تشكل سلاحاً خطيراً إذا “نُشرت” بالشكل الملائم لهذا الغرض. ومع أن الجروح الناجمة عن ذلك تشكل أسوأ الأضرار التي قد تحدث للمرء، لكنها ليست الضرر الوحيد.
في البداية، علينا الإقرار بأنه لم تُبذل جهودٌ علمية مكثفة لفهم طبيعة الآلام الناجمة عن إصابة المرء بجروح إثر احتكاكه بالحواف الحادة للأوراق. وربما يعود ذلك إلى أن أحداً لا يريد أن يكون مسؤولاً عن دراسة عشوائية أو محكومة الظروف، تتضمن إقدام الباحث القائم على إجرائها بإلحاق هذا الضرب من التعذيب – عمداً – بمبحوثيه.
ويتمثل الحل هنا، بحسب هايلي غولدباخ، الطبيب المقيم المختص بالأمراض الجلدية في جامعة كاليفورنيا الأمريكية، في الاستفادة بما نعرفه من معلومات بشأن تشريح الجسم البشري، إذ يرى غولدباخ أن الأمر كله ليس سوى “مسألة تشريح”.
ومن هذا المنطلق، يرتبط الأمر كله بما يسمى “النهايات العصبية”. فأطراف أصابع الإنسان، تحتوي على عدد كبيرٍ للغاية مما يُعرف بـ”مُستقبِلات الألم”، يفوق تقريباً ما هو موجودٌ منها في أي مكان آخر في الجسم.
رغم ذلك، يسارع غولدباخ بالقول إن إصابة المرء بجروحٍ ناجمة عن الاحتكاك بحواف الأوراق في أماكن أخرى مثل الوجه أو الأعضاء التناسلية “سيؤلمه بشدة أيضاً على الأرجح”.
فبينما تبقى هذه الجروح مزعجةً، إذا ما أصيب بها الإنسان في الذراع مثلاً أو الفخذ، أو الكاحل، فإن ذلك سيكون في الغالب أهون كثيراً من تلك الآلام الموجعة الحارقة التي من المرجح أن تُخلفّها جروح مثل هذه إذا ما أصابت الأصابع.
بمقدور كلٍ منّا البرهنة على صحة ذلك، إذا ما أجرى تجربةً يلجأ إليها علماء النفس وأطباء الأعصاب. وتقوم على استخدام مشبكٍ للورق تم بسط طرفيّه المدببيّن ليصبحا في اتجاه واحد. وإذا ما وخزت نفسك بالمشبك، وهو على هذه الشاكلة، في الوجه أو اليدين، فستشعر – على الأرجح – بالوخزة الناجمة عن كل طرفٍ على حده، وهو ما يُعرف طبياً باسم “القدرة على تمييز النقطتين”.
ونظراً لوجود عدد وفير من النهايات العصبية في جلد الوجه واليدين، يبقى المرء قادراً على تمييز وخزتيّهما، ما لم يكونا قريبيّن للغاية من بعضهما البعض، إذ أنهما سيمسان – في هذه الحالة فحسب – النهاية العصبية نفسها، ما يؤدي للإحساس بأثرهما كوخزة واحدة.
لكن الأمر يختلف إذا ما وُخِزْتَ بالمشبك نفسه في الظهر أو الساقيّن. فالإحساس بتأثير كل منهما على حدة يتطلب إبعادهما كثيراً عن بعضهما البعض ليمسا نهايات عصبية مختلفة، نظرا لأن توزيع هذه النهايات في أماكن مثل هذه أقل كثافة بكثير.
الأمر هنا يبدو منطقياً بشكل كبير، إذا نظرنا له من زاوية آليات التطور البشري. ففي هذا السياق، يوضح غولدباخ بالقول إن أطراف الأصابع ترتبط بكيفية استكشافنا للعالم من حولنا، وبأدائنا مهاماً صغيرة ودقيقة في الوقت نفسه.
ويضيف قائلاً: “لذا؛ من المنطقي أن تحتوي (هذه المناطق) على كثيرٍ من النهايات العصبية، فالأمر هنا أشبه بآليةٍ للأمان”.
ومن المنطقي كذلك أن يخصص المخ قدراً كبيراً من قدراته العصبية للمراقبة المستمرة لأي تهديدات محتملة ليديّ الإنسان، في ضوء أنها أداة الجسد الرئيسية للتفاعل مع العالم. فاليدان ستمثلان على أرجح الأحوال وسيلة تفاعل المرء مع الأشياء شديدة السخونة أو المشحوذة الحافة بشدة، على سبيل المثال.
لذا فإن الألم المبرح، الذي يشعر به الإنسان عندما يصاب بجرحٍ في أصابعه، يشكل ببساطة نتيجةً لعمل آليات التطور البشري كما ينبغي أن تكون، وهو ما يعد حافزاً للمرء يحدوه للعمل على الإبقاء على يديّه آمنتين من أي مخاطر.
الآن ننتقل للحديث عن السلاح في حد ذاته؛ ألا وهو الورق. بدايةً، يمكن للمرء أن يقتنع – بعد عملية بحث قصيرة على شبكة الإنترنت باستخدام محرك البحث غوغل – أن الورق يشكل، نظراً لطبيعته المسامية، معقلاً لـ”حديقة حيوان بكتيرية”، تقف ميكروباتها على أهبة الاستعداد لاستيطان الجروح الناجمة عن الاحتكاك بحواف الأوراق.
ولكن بعيداً عما إذا كان ذلك صحيحاً أم خاطئاً، فإن وجود البكتريا وغيرها من الجراثيم المجهرية، لا يفسر ما نشعر به من آلامٍ حارقة جراء “جروح الأوراق”؛ على الأقل في لحظة حدوث الجرح نفسه.
فالبكتريا يمكن أن تؤدي إلى حدوث تلوث والتهابات لهذه الجروح إذا ما تُركت دون علاج، ما يمكن أن يسبب ألماً بدوره في حد ذاته، لكن الوصول إلى هذه المرحلة يتطلب بعض الوقت. لا يمنع ذلك – في كل الأحوال – من أن هناك وجاهةً ما لفكرة كون الورق سلاحاً مؤلماً ليس له نظير.
فحافة الأوراق قد تبدو للعين المجردة، مستقيمةٌ ومصقولة وملساء تماماً. ولكن إذا ما نظرنا إليها عبر منظار مكبر، سنرى أنها أشبه بمنشار منها إلى نصل شفرة. لذا فعندما تشق حافة ورقة ما جلدك، تترك وراءها جرحاً فوضوي الملامح، تتمزق فيه الخلايا، بدلاً من جرحٍ أملس الحواف مستقيمها.
بعبارة أخرى، تؤدي حواف الأوراق شديدة الحدة إلى شق الجلد وتمزيقه إلى نُتْفٍ صغيرة، بدلاً من إحداث قطعٍ “نظيف” كذاك الذي يحدثه نصل الشفرة أو حد السكين.
ومما يزيد الأمر سوءاً، أن الجروح التي تُحدثها حوافُ الأوراق تكون سطحيةً عادةً، ولكن ليس كثيراً. فهي، وفقاً لما يقوله د.غولدباخ، عميقةٌ بما يكفي لتجاوز الطبقة السطحية الخارجية من الجلد، فما لم يحدث ذلك لم تكن لِتُسبب آلاماً، نظراً لعدم وجود نهايات عصبية على الإطلاق في هذه الطبقة”.
لكن الأمر المحير المرتبط بهذه الجروح، أنها لا تبلغ ذاك العمق من الجلد، الذي قد يفسر ما ينجم عنها من ألمٍ مبرح. المفارقة هنا، أن هذا السبب تحديداً، هو ما يجعل “جروح الأوراق” مزعجةً لنا بهذا القدر الكبير.
فتوغلها لأعمق من ذلك في الجلد، كان سيسبب نزيفاً، وهو ما سيعقبه بالتبعية تجلطٌ للدم، تتكون على إثره قشرة، تسمح لطبقات الجلد المصابة بأن تتعافى مما أصابها، آمنةً من أي تدخلات غير مرغوب فيها من العالم الخارجي.
لكن احتمالا مثل ذلك غير وارد للأسف في حالة “جروح الأوراق” السطحية نسبياً، التي لا يحدث على إثرها نزيفٌ أو تجلط أو قشرة ما يترك الجلد دون حماية. فما لم يضع المرء عليها ضمادة وربما قدراً من المرهم الذي يحتوي على مضاد حيوي، ستبقى النهايات العصبية – التي جردتها حافة الورقة من الطبقة الحامية لها عندما مزقت الجلد – عرضةً لأي تلوث أو ميكروبات خارجية، وهو ما يزيد من التهابها والألم الناجم عنها.
ومن شأن افتقار “مُستقبلات الألم” لبطانة دموية، جعلها مكشوفةً أمام أي عناصر خارجية، وهو ما يوجب على المرء المسارعة بربط الجرح بضمادة. ففي حالة عدم حدوث ذلك، ستواصل هذه الخلايا العصبية قرع نواقيس الخطر، مُحذرةً المخ من أنه بصدد مواجهة كارثة وشيكة. وهو أمر ليس بالمفاجئ، إذ أن هذه مهمتها من الأصل على أي حال.
الخلاصة أن ما سبق يشكل تفسيراً للآلام المبرحة الناجمة عن “جروح الأوراق”. ورغم أن صحته لم تُثبت علمياً قط، فإن غولدباخ يرى أنه يشكل فرضية منطقية.
ولسوء الحظ، سيواجه كلٌ منّا إمكانية المرور بهذه التجربة المؤلمة بضع مرات، خلال حياته اليومية. لكننا محظوظون، فبعكس القول الشائع الذي يفيد بأن “كثيراً من الطعنات الصغيرة قد تقتل في نهاية المطاف”؛ يمكن التأكيد على أن إصابة المرء بآلافٍ من “جروح الأوراق” قد يؤلم بحق كثيراً، ولكنه لن يقود على الأرجح إلى هلاكه.