الحكمة – متابعة: هل تشكل هذه القصة تجسيداً واقعياً للقول الشائع الذي يتحدث عن “مكفوفٍ يقود مكفوفاً آخر”؟ ربما يكون الأمر كذلك.
يعتقد عدد من علماء الجيولوجيا أنهم عثروا على دليلٍ يفيد بأن نوعاً من “قمل الخشب” عديم الأعين، يُعرف باسم “ثلاثية الفصوص”، سار عبر قاع المحيط في عصور ما قبل التاريخ، في صفوفٍ خلّفت خطوطاً تبدو وكأنها تصور حركات كوبيةً معروفة باسم “الكونغا”.
وعلى نحو يبدو خارقاً للطبيعة، تشبه هذه الخطوط التي تركت آثارها في الصخور؛ تلك السلاسل المهاجرة التي تشكلها اليوم بعض أنواع سرطان البحر في هجراتها عبر قيعان البحار.
لكن باحثين آخرين يرون أنه من غير المحتمل أن تكون الآثار التي كُشف عنها مؤخرا تعود لصفوف من تلك الكائنات التي سارت تحت البحر قديماً، قائلين إنه لم يكن ليتسنى لسلاسل هشةٍ مثل هذه البقاء حتى يومنا هذا.
ويهوى العديد من صيادي الأحافير العثور على “ثلاثيات الفصوص” هذه، وهي كائنات كانت تعيش في غابر الأزمان، وتجمعها بشكل عام أوجه شبه محدودة بـ”قمل الخشب”.
وقد كانت من بين المخلوقات الشائعة في المحيطات، في الفترة ما بين 520 و250 مليون عام مضت.
بعض أجناس “ثلاثيات الفصوص” هذه كانت صغيرة الحجم للغاية، مثل ذاك الجنس المعروف علميا باسم “أكانثوبلورا ستيبولاي” الذي كان طول مخلوقاته يتراوح بين ميلليمترٍ واحد وميلليمتريّن.
وهناك منها ما كان كبير الحجم، مثل جنس “آيستلس ركس” الذي كان طول كائناته يبلغ 70 سنتيمتراً. وكان البعض من هذه الأجناس يسبح في الماء، مثل “تلِفينا بايكسبيس”، بينما لجأ البعض الآخر إلى الجحور مثل “أغرافلوس سيتيسيفالو”.
كما تفاوتت أجناس هذا النوع، فيما يتعلق بالقدرة على الإبصار؛ فبعضها كان مُبصراً مثل “إربنوكايل إربِني”، بينما لم تتمتع أجناسٌ أخرى منها بذلك مثل “تريمروسِفالوس تشوبيني”.
على كل الأحوال، كان هذا النوع من المخلوقات موضوعاً لأحدث دراسة يجريها الباحثان بواجيه بواجيوفسكي من الأكاديمية البولندية للعلوم في وارسو، وكارلتون بريت من جامعة سينسناتي بولاية أوهايو الأمريكية وزملاؤهما.
ويُعثر على الكائنات المنتمية لهذا النوع بأعداد كبيرة في منطقة محاجر صخرية تقع وسط بولندا، ويعود عمرها إلى نحو 365 مليون عام.
وتبدو هذه الأحافير لافتة للنظر ليس فقط لوفرتها ولكن كذلك للأشكال التي تُكوّنها. فهي تُظهر العديد من “ثلاثيات الفصوص” وهي تنتظم في صفوفٍ قد يضم الواحد منها 19 كائنا منها، وهي مُصطفة رأساً لذيل.
وقد نشر الباحثون ما خلصوا إليه من نتائج في دورية “بليانتولوجي” (علم الحفريات).
ويقول بريت إن هذه الحفريات تشكل إحدى أكثر الأدلة الدامغة التي عُثر عليها حتى الآن، والتي تثبت أن الكائنات مفصليات الأرجل التي عاشت قديماً، كانت تحتشد معاً بشكل متعمد، لتشكيل سلسلة طويلة تزحف في إطارها مُجتمعةً عبر قاع البحر.
ويضيف بالقول: “هناك تقارير عن صفوفٍ شكلتها كائنات ثلاثية الفصوص عاشت في حقبٍ زمنية أقدم. (لكن) هذه هي الواقعة الموثقة بشكل أفضل من غيرها حتى الآن”.
كما أن بواجيوفسكي وبريت يعتقدان أن بوسعهما التنبؤ بالغرض الذي شكلت لأجله تلك الكائنات سلاسلها هذه.
فقد أدركا أن الكائنات المنتمية لنوع “ثلاثية الفصوص” تنقسم بشكل متساوي تقريباً إلى فئتين من حيث الحجم. أولاها ذات حجم صغير نسبياً وجسم يتألف من تسعة أجزاء، والثانية أكبر حجماً وجسد يتكون من عشرة أجزاء.
وغالباً ما يرتبط انقسام نوعٍ ما من الكائنات الحية بنسبة 50 إلى 50؛ باختلاف جنسي ما بين القسمين، وهو ما يشير إلى أن “صفوف الكونغا” التي شكلتها كائنات ذلك النوع خلال مسيراتها، كانت مُقسّمة بالتساوي تقريباً بين ذكوره وإناثه.
ويفترض الباحثون أن المخلوقات “ثلاثية الفصوص” كانت ذاهبةً أو آيبةً من مكان تجتمع فيه للتكاثر.
ويقول بريت إنه وزملاؤه الباحثون افترضوا “أن تكون هذه الكائنات قد ارتحلت معاً لتشكل تجمعات كبيرة، ولتطرح عن نفسها أهدابها القديمة ولتتزاوج”.
ويضيف أن هذه الصفوف أو السلاسل ربما تشير إلى أن تلك المخلوقات كانت بصدد عملية هجرة جماعية.
وفي ظل افتقارها للقدرة على الإبصار، كان يتعين أن يكون لدى الكائنات “ثلاثية الفصوص” تلك القدرةُ على البقاء جنباً إلى جنب خلال مسيرة هجرتها.
ويمكن أن تكون قد استخدمت إشارات كيمياوية في هذا الصدد، أو ربما كان كلٌ منها يشعر بوجود نظيره الذي يسبقه في الصف عبر قرنيّ الاستشعار الموجوديّن لديه.
ويبدو بوضوح أن “ثلاثية الفصوص” تلك قابلت خلال هجراتها هذه كارثةً ما. فقد تكون قد هلكت اختناقاً بفعل مرورها في تجويفٍ مملوءٍ بمياه يقل فيها الأكسجين على نحو استثنائي.
اللافت أن أجناساً تنتمي لنوع “سرطان البحر” تشكل في الوقت الراهن سلاسل ذات خصائص مماثلة في قيعان البحار. وتهاجر هذه السرطانات في كثيرٍ من الأحيان بعيداً عن الشواطئ، باتجاه المياه الأكثر عمقاً في الفترة السابقة لحلول الشتاء.
وربما يعود ذلك لرغبتها في تجنب العواصف الشتوية العاتية، التي قد تجتاح المواد المترسبة، في المناطق الأقل عمقاً من المسطحات المائية.
ولكن لا يزال الغموض يكتنف السبب المحدد الذي يحدو بسرطانات البحر هذه إلى الهجرة في سلاسل جماعية، بدلاً من أن تهاجر كلٌ منها على حدة.
ويقول بريت إن الاصطفاف في سلاسل، ربما يقلص إمكانية أن يسير الكائن الواحد من تلك الكائنات على غير هدى، بدلاً من أن يتقدم للأمام.
ويضيف قائلا إن سير تلك المخلوقات على هذه الشاكلة، قد يساعد على أن يحمي كلٌ منها الآخر من أي كائناتٍ مفترسة.
ومن جانبه، يقول ديريك سيفِتَر من جامعة أكسفورد البريطانية إن من النادر نسبياً العثور في السجلات الخاصة بالأحافير على “أمثلة لوجود ضربٍ من السلوك التكاملي” أو للدقة السلوك الاجتماعي بين المخلوقات التي عاشت قديماً.
ويضيف سيفِتَر بالقول إن “هذا النموذج الخاص بالكائنات ‘ثلاثية الفصوص’ من جنس تريمروسِفالوس يزيد من معارفنا بمثل هذه الوقائع على نحو مفيدٍ للغاية”.
وفي دراسة نُشرت عام 2008، أورد سيفِتَر وزملاؤه دليلاً مُستقى من سجلات أحفورية يشير إلى تسجيل سلوكٍ مماثل قبل 525 مليون عام؛ إذا رُصدت كائناتٌ غريبة الأطوار وقادرة على السباحة من شعبة “مفصليات الأرجل”، وهي تشكل سلاسل خلال سباحتها في مياه البحار.
وفي الوقت الحاضر، تشكل لا فقاريات ذات مظهر غريب يُطلق عليها اسم “الغلاليات” أو “بَخّاخ البَحْر” سلاسل مشابهة من حيث الشكل. رغم ذلك، لا تبدو فرضية الهجرة الجماعية لـ”ثلاثيات الفصوص” مُقنعةً للباحثين كافة.
ومن بين من يتبنون رؤى متحفظة في هذا الشأن براين تشاترتُن من جامعة ألبرتا بمدينة إدمونتون الكندية، الذي يقول إنه من الممكن بالفعل أن تكون حفريات “ثلاثيات الفصوص” التي عُثر عليها في بولندا بقايا هجرات جماعية شهدتها قيعان البحار قديماً، ولكنه يحرص على الإشارة إلى أن إثبات هذا الأمر غير محسومٍ حتى الآن بأي شكل من الأشكال.
ويمضي تشاترتُن قائلاً: “أفضل أن يكون بوسعنا إصدار حكم على هذا الأمر، بصيغةٍ ما بين صيغتيّ ‘غير محتمل’، و’غير مُثبت'”، وهي الصيغة التي يُتاح للمحاكم الاسكتلندية البت بها في بعض القضايا.
وقد سبق لهذا الباحث دراسة سلاسل مشابهة لـ”ثلاثيات الفصوص”.
ويرى أنه من غير المرجح أن يتسنى لشيءٌ هشٌ – مثل سلسلة من تلك الكائنات يفترض أنها مضت مُتثاقلة عبر قاع البحر يوماً ما – أن يبقى قائماً ومتماسكاً على سطح الأرض كل هذه الأعوام بعد الهلاك المفاجئ لتلك المخلوقات.
فبنظر هذا الباحث؛ بمقدور أي تيار بحري ضعيف القوة من التيارات الموجودة في المحيطات تشتيت جيف هذه الكائنات وجرف بعضها بعيداً.
ويقول تشاترتُن إن الاحتمال الأرجح هو أن تكون هذه الآثار ناجمة عن حفرٍ أحدثتها تلك المخلوقات المفصلية في قاع البحر.
وفي حالة صحة هذا الافتراض، ربما تكون السلاسل التي عُثر على بقاياها، هي تلك الخاصة بالأنفاق التي كانت مُكتظةً بـ”ثلاثيات الفصوص”، حينما غمرتها فجأة كميةٌ من المياه قليلة الأكسجين، كانت كافية لإهلاك ما فيها من كائنات.
ويقول الرجل إن كل هذه الآثار تشير إلى اتجاه واحد، لأن ما كان يقطن هذه الأنفاق من مخلوقاتٍ كان يدخلها من الاتجاه نفسه.
ويرى تشاترتُن أن مما يضيف ثقلاً لفرضيته هذه، كونه قد رصد خلال دراسته لسلاسل مماثلة لحفريات من “ثلاثيات الفصوص” في المغرب، بعض كائنات هذا النوع، وهي تقف في اتجاه معاكس لأترابها.
ويقول في هذا الصدد إنه إذا كان الأمر يتعلق بهجرة تلك المخلوقات في شكل سلاسل متصلة، فإن وقوف بعضها في اتجاه معاكس لبعضها البعض، كان سيخلق “تشوشاً وارتباكاً كبيريّن في الصفوف” التي كانت تنتظم فيها.