وهناك عوامل عديدة جعلت الرابطة الروحية بين الناس والعباس (عليه السلام) من خلال ضريحه المقدس في كربلاء، ذات طابع خاص. ومن تلك العوامل أن الطريقة التي استُشهد بها العباس كانت في واقع الأمر طريقة مأساوية هزت وما زالت تهز مشاعر الملايين من الناس، وفي الوقت ذاته فإن التضحية والإيثار اللذين أظهرهما العباس من أجل إعلاء كلمة الدين ومساندة أخيه الإمام الحسين (عليه السلام) والدفاع عن حرائر رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وسعيه إلى إنقاذ الأطفال والنساء بجلب الماء إليهم بأي وسيلة، كل ذلك جعل منه ثائراً وبطلاً قلّ نظيره في التاريخ. ويمكن للمرء أن يلمس مدى ذلك الارتباط الروحي والتعلق العاطفي والوجداني في يوم السابع من شهر محرم الحرام، الذي يوصف بأنه يوم العباس (عليه السلام)، وكذلك عند قراءة مقتل الإمام الحسين (عليه السلام) صبيحة يوم العاشر.
نهر العلقمي
وأنت تتحدث عن كربلاء والحسين لا يسعك إلا أن تذكر العباس والعلقمي، وتروغ بك الذاكرة إلى حيث الكفين القطيعين والجود المهرق ماؤه والعيال العطاشى وقصة وعد السقاية مع سكينة وعهد الكفالة مع زينب.. فكل هذه المفردات ستراود خاطرك وتفيض على روحك من معين القداسة والطهر. الكتب التاريخية تؤكد أن الإمام الحسين اختار مكان معركة الطف على وفق رؤية عسكرية مسبقة، حيث نصب مخيماته بين مجموعة من التلال محاطة بقرى الفاخرية والنواويس ونينوى وكور بابل التي ترجع اليها تسمية كربلاء..
والى الخلف بعيداً عن(التل الزينبي) هناك هور يشكل حماية طبيعية خلفية لمعسكر الحسين (عليه السلام) وفي الأمام يقع نهر العلقمي الذي هو فرع من نهر الفرات القديم وقد اندثر منذ قرون ويبعد مكانه عن مرقد العباس (عليه السلام) بمسافة (150 ـ 200) م قريباً من مقام سقوط الكف الأيسر..
حيث تدل هذه الامكنة على مسار حركته (عليه السلام) عندما أخذ الماء من النهر ومن ثم قطعت يده اليمنى وبعد ذلك قطعت يده اليسرى بمسافة قبل ان يسقط صريعاً في مكانه الحالي. أما العلقمي فلا زال الناس يتساءلون عن مدى صحة جريانه تحت الضريح الشريف ويعتقد البعض ان جثة العباس (عليه السلام) مازالت طافية على مياه النهر ولم تتحرك منذ استشهاده وحتى الآن..
ونشرت بعض الصحف عدة اخبار عن استخراج مياه من قبر العباس (عليه السلام) للاستشفاء، وروى أحدهم أنه نزل الى القبر الاصلي بواسطة احد رجال الدين وشاهد النهر مازال يجري تحت الضريح بل قال إنه شاهد ذراع أبي الفضل (عليه السلام) مازالت طرية تنز دماً على ضفة النهر!!
بينما يعتقد مسؤولون حكوميون وسدنة عاملون في الحضرة العباسية، أن ما يجري تحت القبر إنما هو مياه جوفية، ولقد حاولوا أيام النظام الديكتاتوري سحبها وتم التعاقد مع شركة هندية لهذا الامر، وكان رأي المهندسين ان سحب المياه من تحت القبر سوف يؤدي الى انهيار الضريح، فاستعملت الشركة الهندية تقنية حقن الارض بالاسمنت قبل سحب المياه، إلا أنهم لم ينجحوا.
حديث الكرامات نشر أحد الصحفيين الذين نزلوا إلى سرداب القبر ليكتب عن النهر، محاورة بهذا الشأن جرت بينه وبين محافظ كربلاء إبان الحكم البائد قال الأخير: إن الله قادر على ان يضع آياته في كل شيء، فلماذا نستكثر ان يضع سبحانه وتعالى آياته في هذا العبد الصالح سيدنا العباس (عليه السلام) الذي حرم نفسه من شرب الماء لعطش ابن بنت رسول الله (ص) فكرمه ربنا بأن جعل قبره محاطاً بالماء. ـ لكن يقال بأنها مياه جوفية. ـ صحيح.. لكن لماذا لم تظهر هذه المياه في حضرة الإمام الحسين (عليه السلام) والتي هي بنفس العمق ولا تبعد الحضرة الحسينية عن الحضرة العباسية كثيراً.. أليست هذه كرامة؟!.. أنا شخصياً (المحافظ) كنت شاهداً على كرامة هذه المياه..
قبل أسابيع اتصل بي هاتفياً رئيس ديوان الرئاسة وأخبرني بوجود برفسور هندي تعاني ابنته من الصرع الدائم وامراض اخرى وفي الرؤيا نصح الأب البروفسور بأن يذهب بابنته الى سرداب قبر العباس (عليه السلام) فبغير هذا لن تشفى، وفعلاً اتصل البروفسور الهندي بصدام حسين وطلب منه السماح بزيارة سرداب القبر والأخذ من مائه.. وجاء البروفسور وابنته ودخلا السرداب وغسلت ابنته بالماء وشفيت فوراً. وفي الباكستان قبل سنوات انعقد المؤتمر الإسلامي، وقد أقامت بناظير بوتو وزوجها دعوة غداء في بيتها للوفد العراقي المشارك..
نقل أحد أعضاء الوفد عن عاصف زاده وكان قد خسر الانتخابات مع زوجته بناظير، قوله: لا نستغرب خسارتنا الانتخابات واتهامنا بالفساد لأننا اعتدينا على حرمة العباس (عليه السلام) فعندما زرناه دخلنا على قبره في السرداب، وهذا لا يجوز.. تصور انك تدخل على رئيس جمهورية وهو نائم، وفي ملابس النوم.. هل يجوز هذا؟! فكيف فعلنا ذلك مع العباس، علماً ان بوتو عندما دخلت السرداب منعت المصورين الذين يرافقونها من تصوير السرداب والقبر احتراماً للعباس (عليه السلام).
وبعد قضية البروفسور الهندي وابنته، يقول محافظ النظام المخلوع في كربلاء: اتصل بي قاسم سلام عضو القيادة القومية مسؤول الحزب في اليمن وطلب مني الدخول إلى القبر، وقد جاءني فعلاً.. ولكنه ما أن نزل درجتين من سلم السرداب حتى اصطكت ركبتاه واجهش بالبكاء ثم انهار واخرجناه قبل ان يصل إلى القبر الشريف. المنظر من الداخل عند الزاوية الشمالية الغربية من الحضرة في مصلى النساء ثمة باب فضي عملاق لغرفة مربعة يظهر في أرضيتها شباك حديدي يغلق بأقفال عدة مدخل السرداب المؤدي إلى بنية القبر المقدس.. تليه ثمان درجات من المرمر الأبيض المزخرف بخطوط سود.. مع كل درجة تهبطها يتسلق الماء إلى ساقيك حتى إذا استقر فوق ركبتيك، تجد نفسك في دهليز يبلغ عمقه نحو مترين وعرضه أكثر من متر يمتد أمامك بعمق متساوٍ، لكنه ينحني مشكلاً دائرة شبه مضلعة، مضاءة بمصابيح كهربائية اعتيادية.. المياه صافية مثل الزلال بحيث ترى من خلالها تفاصيل خطوط أظافر القدم، بالرغم من طبقة الغبار الخفيف المتسلل من فتحات جانبية تشكل نهايتي دهليزين جانبيين ينفتحان خارج مبنى الروضة للتهوية ولكن بمسافة بعيدة عن الدهليز الدائري.
يصف الصحفي الذي زار المكان ذلك الماء فيقول: كان عذباً ونقياً وليس مجاً او مالحاً كما هو شأن المياه الجوفية، وهو محافظ على مستواه حتى وان تغيرت مناسيب المياه الجوفية في أراضي كربلاء. سقف الدهليز الذي يشكل أرضية الحضرة المطهرة في الأعلى مبني من الاسمنت والجانبان من الطابوق، الجانب الخارجي مبني بالطابوق الحديث، أما الداخلي الذي يشكل غلافاً للكتلة الدائرية التي يستدير عليها الدهليز فأغلبها مبني من الطابوق الفرشي القديم يعود إلى عصور ماضية متعددة حسب فترات الترميم، بعضه مبني بالاسمنت، والبعض الآخر بالنورة والرماد حيث لا يوجد اسمنت آنذاك.. الكتلة الدائرية التي يستدير عليها الدهليز تكاد تكون بقدر مساحة الحضرة، حيث يقوم في الأعلى الصندوق او الخاتم المصنوع من الصاج الفاخر ومطعم بالأصداف والزخارف النادرة وعليه الشباك الفضي المغطى بالذهب الخالص المزين بالآيات القرآنية والزخارف النباتية والفنية.. أما الدهليز نفسه فيكاد يكون تحت رواق الطواف على الشباك تماماً. بعد خطوات ينفتح في الكتلة الدائرية دهليز آخر أضيق بقليل ويشكل قطراً للكتلة الدائرية، وفي منتصف القطر الذي هو منتصف الكتلة الدائرية ينهمر ضوء ساطع على فراغ حيث يقوم القبر المطهر الشريف مغموراً بالضوء بشكله المربع الذي تقدر مساحته بحدود (3 × 3) متر.
القمر الهاشمي المضمخ بدماء الشهادة والثبات بلا ذراعين تحوم حوله تلك الهالة العظيمة التي صنعها شرف النسب والمواقف والموت التراجيدي للبطل. فالروايات التاريخية تشير إلى انه عندما صال العباس على الظالمين الذين يحولون بين آل الرسول (صلى الله عليه وآله) والماء، انشقت أمامه الجيوش وانكشفت المشرعة بعد ان انشغل المارقون بالتطلع إلى بهاء طلعته وجمال وجهه الذي منحه لقب (قمر بني هاشم)، إضافة إلى ضخامة جسده، حيث يقال انه (عليه السلام) إذا ركب الفرس خطت قدماه في الأرض وقد استشهد وعمره (34) سنة.