كتاب (فاجعة الطَّف) للسيد محمد سعيد الحكيم(مد ظله).. قراءة تحليلية

360

555الدكتور محمد محمود زوين / كلية الفقه جامعة الكوفة :

من بين أهم الكتب التي صدرت في نهضة الإمام الحسين(صلوات الله عليه) كتاب (فاجعة الطف أبعادها, ثمراتها,توقيتها) وهو (بحث تحليلي في النهضة الحسينية ودورها في وضوح الحقيقة الدينية) كما جاء في عنوان الكتاب وبياناته للسيد محمد سعيد الطباطبائي الحكيم المرجع الكبير، من مراجع الدين في النجف الأشرف ، وإذا جاز للباحث أن يوجز الحديث في مقدماته فحسبه أن صاحب هذا الكتاب علم من أعلام النجف الأشرف سجل التاريخ الإسلامي أثره فكراً وجهاداً .

وليست بي حاجة لإبداء رأيي في صاحب الكتاب (دام عزه) فهو علم من أعلام الإمامية في هذا العصر وغني عن التعريف . وقبل الشروع في دراسة الكتاب لابد من معرفة :

السمات المنهجية للكتاب والمؤلف

يمكننا الوقوف عند أهم المعالم المنهجية التي بنى المؤلف عليها كتابه ، وأسس لأفكاره الموصلة لتحقيق أهدافه وغاياته من خلال النقاط الآتية :

1ـ يأخذنا السيد الحكيم (دام عزه) في أفق واسع من معالم نهضة الإمام (عليه السلام) , ويسبر أعماق هذه المواطن ليحلل أحداثها , ويقلب بواطن مفاصلها ويوقفنا على عقد وقائعها الحقيقية , وهذا منهج صعب، بأن تجمع بين عدة مساحات من البحث بشكل أفقي , وتمضي مدركاً ملامح حقائقها بشكل عمودي معمقٍ لتحصل على النتائج وتربطها بالمقدمات مشكلًّا فكراً خالصاً .

أقول إن هذا الأمر ليس باليسير مطلقاً ،وغير متاح لمن كتب أو يكتب في نهضة الإمام (عليه السلام) أي أن يعزز هذه القناعة المنهجية بتتبع المصادر والمراجع والوقوف عند جزئيات النهضة , ومسارات الواقعة فيما بين السطور , ولعلي لا أبالغ إن قلت إن من تجتمع فيه القدرة على استثمار المصادر وتوظيفها  بهذا الشكل يلمُّ بمفردات الموضوع الصادر عن معرفة موسوعية لحادثة عاشوراء ومكانتها في التراث الإسلامي المختلف في تصوراته لها.

2ـ الموسوعية والاستطراد سمتان واضحتان في أسلوب المؤلف، ولك أن تنظر المقصد الثاني من الكتاب بفصوله ومباحثه لتجد عناصر الموسوعية والاستطراد واضحة بارزة.

3ـ التلازم الموضوعي بين فصول الكتاب ومقاصده وعنواناته بشكل منطقي ممنهج يعرج بالقارئ من باب إلى آخر  , بربطه للمقدمات بالنتائج والفوائد والثمرات.

4ـ الوقوف عند جزئيات الفاجعة وتتبع حلقاتها وتوظيف كل شاردة ونادرة تتصل بعاشوراء وفي هذا قدرة وافية على معرفة الموضوع وكيفية التعامل مع مفرداته.

5ـ التوثيق الدقيق للحوادث التاريخية والروايات .

6ـ الأسلوب التعبيري من باب (السهل الممتنع) وإظهار المعاني بالصياغات المعتبرة ذات الدلالات العالية الرفيعة.

كتاب فاجعة الطف :

أما الكتاب  فيقع في أكثر من ستمائة وسبعين صفحة من القطع الوزيري، طبع للمرة الثالثة عام (1431هـ – 2010م) وصدر عن مؤسسة الحكمة للثقافة الإسلامية.

ينتظم الكتاب في مقدمة وثلاثة مقاصد وخاتمة توزعت على فصلين فضلًا عن تقديمٍ عرضَ فيه المؤلف منهجه , وستة ملاحق تضمنت خطبًا مهمة وقائمة للمصادر والمراجع زادت على ثلاثمائة وثلاثين عنواناً.

لم يرغب السيد الحكيم (دام عزه) في أن يبتدئ الكلام عن عنوان الكتاب ومنهجه قبل أن يرسخ في الأذهان  ثلاثة أمور  :

الأول: إن هذه النهضة نادرة و فريدة،  في العالم أجمع وقد حظيت بالاهتمام الذي أكسبها المزيد من  الفرادة بشكل غير مسبوق ولا ملحوق.

الثاني: على الرغم من كل ما تميزت به من الاهتمام فما زالت جوانبها المباركة مدار بحث ودراسة، وذلك لأنها كانت بأمر الله تبارك وتعالى ولها من الأهداف والثمرات والفوائد ما لا يدرك إلا في الوقت المناسب لأنها في علم الله تبارك شأنه.

(( ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء)) .

الثالث: إن نهضة الإمام(ع) أحدثت تحولًا إيجابيًّا في المجتمع الإسلامي وتفكيره في قضاياه الدينية والدنيوية, وفجرت فيه روح الإسلام المحمدي الحي, ومازالت إلى الآن منهلاَ يرتوي منه الأحرار ومنارًا يستضاء به في ظلمة الطغيان , وفكرًا يوظف- في كل زمان ومكان – لاسترداد الحقوق ونبذ الباطل , وهذا مصداق من مصاديق الخلود.

والإشارة  إلى كل ذلك  يزيل الشبهات من الأذهان   ويستلزم قبول الحقائق نقية حية , فلا جدلية بين القلة والكثرة في التأليف بشأن عاشوراء الحسين (عليه السلام) , وليس أمر النهضة بعد ذلك من شأن السياسة أو الدنيا كما يتصوره البعض بل هو (عهد معهود منه تعالى) وهذا يفسر سرّ خلود عاشوراء .

ويسترسل المؤلف (دام عزه) في تقديمه المنهجي عارضًا للعنوان وفصول الكتاب محكمًا الصلة بين العنوان والمعنون بعد أن يحدد معالم العنوان و دلالاته المقصودة , وأهدافه المنشودة القائمة على فرضية بحثية تقوم على ثنائية العاطفة والفكر , أو الفاجعة (المأساة) الدينية والإنسانية وملامحها  (الحزن والألم والبكاء) , وقضية الحياة الحرة الكريمة وملامحها (مقاومة الاستعباد والظلم والطغيان) , ليكون العنوان ذا بعدين :

الأول: يستعرض الفاجعة ((وبيان المفردات المأساوية المثيرة التي تجمعت فيها , وجعلتها في قمة المآسي الدينية والإنسانية وبالحجم المناسب لخلودها)) .

الثاني: يظهر الوجه الآخر لها من جهة إحياء الدين وتأسيس قواعد الحياة الحرة وترجمة العواطف إلى مواقف حية توظف وتستثمر في الحياة، لذا جاء البعد الفكري عنواناَ تفصيليًّا (لفاجعة الطف) وهو (أبعادها , ثمراتها, توقيتها) وهذا العنوان التفصيلي قامت على أساسه مقاصد الكتاب الثلاثة التي يقدم لها السيد الحكيم (دام ظله) بمقدمة يؤسس فيها بالأدلة والبراهين لنظرية التخطيط الإلهي لواقعة الطف، بما ينقض تماماَ فرضية النظرية المقابلة لها ومفادها (إن التخطيط لواقعة الطف بشري) فهذا أمر مردود مستنكر معارض بالحجج الدامغة التي لا سبيل إلى رفضها , لكونها حقائق تسالم عليها أهل العلم في مصادر استنادها وثبوت وقوعها بحسب تواتر نقلها , ولا خلاف في هذا بين المسلمين، إنما يوهم بالخلاف أو بالمخالفة بعض من ينظر بعين واحدة ويفكر بلحن خفي.

من هنا يوثق المؤلف هذه الحقيقة بالنصوص الروائية عن النبي وأهل بيته(صلوات الله عليهم) وعن بعض أعلام الصحابة والتابعين ومن خلال الاستدلال بالحوادث التاريخية وفي كل ذلك ينقل عن مصادر عامة المسلمين تفاصيل وافية يدعم فيها نظرية التخطيط الإلهي لواقعة الطف بما لا يدع سبيلًا للمقارنة مع غيرها , ولا مجال للشك في أبعادها , فيأتيك بالشاهد تلو الشاهد والحادثة تلو الأخرى بدءًا من زمن الرسالة حتى شهادته (عليه السلام) , ينتقل بين العناوين المختلفة ليوظفها على أحسن ما يتصور طلبا لإيضاح الحقيقة وبيان المطلب، فلا يدع نصًّا أو حادثة إلا ويستثمرها في اتجاهات مختلفة يخلص منها إلى نتيجة واحدة وهي أن نهضة الإمام الحسين (عليه السلام) عهد معهود من الله تعالى، ولا رأي يصلح غير هذا  يقينًا مع مقام نهضة ما تزال إلى اليوم منبع الثورات ومعتمد الحراك الإنساني ضد الظلم والطغيان .

لقد قطف المؤلف (دام عزه) ثمرة ما قدم من أدلة , وغاية ما أراد من البراهين، فقناعة القارئ وإيمانه بفرضية البحث إنما يتطلبان عرض الحقائق والربط بين أجزائها، وهو عين ما سعى إليه السيد الحكيم (دام عزه)، فقدم أكثر من خمسة وعشرين عنوانًا استدلاليًّا على  فرضية البحث وصولًا  إلى مقاصده التي تشخص أمام القارئ بتراتبية منسقة متواصلة يفضي أحدها إلى الآخر ويستكمل أولها نتائجه في الثاني , ويسطع المقصد الثالث ليميز التناسب الزماني لأحداث وثمار المقصدين .

وعلى أية حال فقد عنون المؤلف (دام عزه) المقصد الأول: (أبعاد فاجعة الطف وعمقها وردود الفعل المباشر لها) وجعل هذا العنوان على فصلين اختص الأول بأبعاد الفاجعة وعمقها , وقام الفصل الثاني على ردود الفعل المباشر لها.

ولا يخفى على قارئ الكتاب أن هذا الفصل تأسيسي  انطلق منه المؤلف ليبني عليه مدارات الكتاب  , فالوجه الدامي للفاجعة أعطاها الأثر الأكبر والمدى الأبعد في الكشف عن الحقائق وتأكيد ملامحها في اتجاهين :

الأول: حقيقة مقام الإمام الحسين (عليه السلام) ومكانته وما له من خصائص إلهية وفرادة إنسانية لا يدانيه فيها أحد ولا يقاربه فيها بشر , فليس على وجه الأرض ابن بنت نبي غيره، فهو وارث النبوة المحمدية قولاً وفعلاً وتقريراً وهي حية شاهدة في قلوب المسلمين، ما زال المسلمون يعيشون أجواءها بلحاظ المكان والزمان، فالعهد من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قريب , وعلى الرغم من كل هذا لم يرعَ بنو أمية مقام الإمام (عليه السلام) ولا أهل بيته وكانوا بذلك معلنين حال واقعهم الحقيقي الذي تجسد في الاتجاه الثاني.

الثاني: صورة النهج العدواني الدموي لبني أمية الذين لا يرقبون في المسلمين إلًّا ولا ذمة، فإذا جرى هكذا لمَن هم بمقام الحسين وأهل بيته (صلوات الله عليهم أجمعين )  فكيف بالناس والمسلمين؟

هذان الاتجاهان وظف السيد الحكيم (دام عزه) فيهما كل ما استطاع الحصول عليه من الأدلة والحوادث التاريخية والبراهين على خصوصية الوجه الدموي العدواني على الإمام وحاول أن يظهر – وقد وفق في ذلك- تلازم المشهدين في الطف بما يقدم من خلالهما من صورة الفاجعة التي أخذت أبعادًا مختلفة في التحذير منها وتنبيه المسلمين عليها قبل حدوثها , وفي أحداث وقوعها وبشاعة جزئياتها .

وقد أنتجت آثارًا مختلفة على صعيد الكون والطبيعية والناس والفكر وهي نتيجة ذكية قادنا إليها المؤلف (دام عزه) , منها السماء التي أمطرت دماً والأشجار التي انبعثت منها الدماء أو التي سالت من حيطان القصور ، أو الدم الذي تحت الحجر والصخور، أو ظهور الحمرة في السماء وغير ذلك من تغير الكون والطبيعة.

ويخصص لآثار عاشوراء وفاجعتها في الناس الفصل الثاني من المقصد الأول في حين يناقش باستفاضة ثمرات الطف وفاجعته في الفكر والمنهج الديني والإصلاحي فضلًا عن آثارها في الواقع المجتمعي والسلطوي , ومهما يكن من أمر فقد أوقفنا المؤلف (دام عزه) في الفصل الثاني من المقصد الأول على آثار وردود الفعل المباشرة لفاجعة الطف وقد تمثلت في مقامين :

الأول: رد فعل الناس .

الثاني: رد فعل السلطة.

ولا ريب في أن عملاً إجراميًّا في أبعاده المختلفة يحتم ردود فعل مختلفة , لا تقتصر على الأفراد أو الجماعات بل تتعدى إلى الأمصار والبلدان مما حدا بالقتلة السفاحين من أعلى هرم السلطة إلى أدناها إلى أن يندموا (ولا حين مناص) ،والندم أدنى مصاديق الجرم والكبائر التي لا يجبرها ندم ولا حسرة .

 لقد استوعب السيد الحكيم (دام عزه) جميع الموارد التي أظهرت تحولاً في أفعال أو أقوال الناس والسلطة وجمع بينهما في غاية واحدة تؤكد قصوراً وتقصيراً في حق الإمام (عليه السلام) من جهة المتخاذلين عن نصرته (عليه السلام) , وتجسد تنصلاً عن الجرم العظيم من جهة قاتليه (لعنهم الله)، ولكل جانب منهما مظهر نصت عليه المصادر التاريخية التي تتبعها البحث بدقة وإيجاز وقدّمها في إطار عنوانات صغيرة جمع فيها الدلائل على فوات الأوان على النادمين، فضلاً عن تأييد حقيقة الآثار الكونية والمجتمعية لشهادة الإمام الحسين (عليه السلام) والتي أضحت تقلق السلطة وتهز أركانها، لينطلق بنا إلى المقصد الثاني من الكتاب والذي تناول ثمرات فاجعة الطف وفوائدها، وقبل الحديث عن هذا الجزء المهم من الكتاب لا بد من الإشارة إلى أن المقصد الثاني قد تجاوز نصف الكتاب , وكانت لعنواناته المهمة التي أنبأت عن استطراد موسوعي للمؤلف (دام عزه) ربط فيها بين مطالب البحث وقضاياه الحسينية بسياقاتها وأصولها التاريخية السابقة وعمقها بالنتائج التي أفرزتها عاشوراء الطف بعد شهادة الإمام (عليه السلام) وقدمها في فصلين كانا أهم فصول الكتاب.

وبعبارة أخرى : يقدم المؤلف أطروحة مهمة جدًّا يركز فيها على نتائج فاجعة الطف وفوائدها بالنسبة للدين الإسلامي بشكل عام وللتشيع بوجه خاص , ويرى – باستدلاله الدقيق- أن هذه الواقعة العظيمة لم تكن حادثة عارضة في وقتها منقطعة الصلة بما قبلها من تاريخ الرسالة وأهل البيت عليهم السلام؛ بل كان لها جذور  تاريخية ومسوغات فكرية متراكمة (…) من هذه النقطة المهمة يرصد السيد الحكيم (دام عزه) تلك العلاقة بين عاشوراء وبين ما جرى على المسلمين قبلها من حوادث من بعد شهادة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى عام (60) للهجرة في اتجاهين :

الأول: ما تعرض له الدين الإسلامي من بوادر انحراف عن الجادة التي رسمها النبي صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين , وكيفية انتقال السلطة ومدى شرعيتها فضلاً عن جدلية العلاقة بين السلطة ومستقبل الإسلام .

ويؤكد أن النتائج التي أفرزتها حركية السلطة آنذاك هي التي مهدت لاستيلاء بني أمية وتوليهم رقاب المسلمين وانحرافهم بالإسلام المحمدي إلى مدار آخر وهي امتداد لما سبق ولم تأت النتائج من دون ذلك الأصل.

الثاني: بيان مقام أهل البيت ودورهم في إيقاف وكبح جماح الانحراف وهي مهمة رسالية , تقتضيها الأمانة الإلهية التي حملوها إزاء الدين الإسلامي فقاموا (صلوات الله عليهم) بما كلفهم الله تبارك وتعالى به ونهضوا  بالأمر وذبوا عن حياض الدين وبذلوا ما استطاعوا من أجله , فمواقفهم المؤيدة بالتسديد الإلهي صدرت عن اليقين وهي مواقف في عرفنا المتواضع يظهر لنا وجه الحكمة في بعضها مرة , وقد يخفى عنا في بعضها الآخر .

لقد كانت رسالة نهضة الإمام الحسين (عليه السلام) استنقاذًا للعباد من الجهالة وحيرة الضلالة . إنها الفتح الجديد بالدين الإسلامي بعد أن حرفته السلطة عن مساره وتركته عرضة للتشويه والضياع فلم يبق له إلا الحسين (عليه السلام) .

من هنا يضعنا المؤلف (دام عزه) أمام مسارين آثارهما باقية إلى اليوم :

مسار الانحراف عن الإسلام الذي قاده معاوية بصورة أوضح وبنهج مباشر … يقول (دام عزه):(فإن من الظاهر أن النهضة المباركة لم تمنع من استمرار العمل على نظام ولاية العهد في الخلافة من دون مراعات أهلية المعهود له , واستمر ما سنه معاوية في دول الإسلام المتعاقبة حتى تم إلغاء الخلافة في العصور القريبة , وإذا كان كثير من المسلمين قد استنكروا على معاوية – في وقته – فتح هذا الباب فإنهم قد سكتوا عمن بعده وتأقلموا مع النظام المذكور كأمر واقع , بل أقر فقهاء الجمهور الخلافة المبتنية عليه كما أقروا خلافة الأولين ) .

هذا المسار أدى إلى آثار سيئة على الرغم من كبح جماح جماعة وإيقاف طغيانه بالنهضة المباركة فقد (جرأت الأمويين على الدماء كما توقع الإمام الحسين عليه السلام وجرى على ذلك من بعدهم من الحكام في الدول المتعاقبة) .

أضف إلى ذلك أن هذا المسار حَفّز السلطات المتعاقبة بالاسم الإسلام على الظلم والتعدي على حرماته وأحكامه , وزاد في تفريق المسلمين وتدهور أوضاعهم في كل المجالات دينياً واجتماعياً، وعمق الخلاف بين شيعة أهل البيت وكثير من الجمهور , وعلى الرغم من كل ذلك كان للنهضة المباركة وقعها المؤثر والفاعل في استمرار تقييد طغيان هذا المسار وكبح جماحه وإبطال أكذوبته وتضعيف أركانه، كل ذلك بما تحقق من ثمار المسار الثاني.

مسار الموقف والتضحية للدين التي جسدها الحسين عليه السلام ، فهو المؤتمن على الدين المقوّم لانحرافه الذي أسس قواعده ودعم أركانه بنو أمية، فكان (صلوات الله عليه) يقف بوجه مسار الانحراف بما يتناسب وجسامة الموقف وخطر البدع والحوادث ،فحركته (عليه السلام) تبعاً لتكليفه الإلهي في الصبر مرة، والرفض والإعداد ثانية، والنهضة والتضحية ثالثة، فقد قدّم في سبيل دين الله وحرمته كلَّ ما عنده، ومصداق هذا (الكل) فاجعة الطف بدقائقها وجزئيات أحداثها لتتحول وتثمر عن منهج إلهي مهمته وغايته مصلحة هذا الدين في مقارعة الانحراف وكشف التزييف.

من هنا كان ارتباط(فاجعة الحسين عليه السلام) بإحياء (دين الله) مؤسساً لوعيٍ وإدراكٍ متجددٍ لمرجعية (الدين الحق) الذي يتعدى حدود الزمان والمكان ويستعصي على الطغاة وجبابرة الأرض محوه أو إخماده ما دام في نبض هذا الدين دم الحسين عليه السلام الفاتح , قال عليه السلام في رسالته لبني هاشم ((أما بعد فإن من لحق بي استشهد , ومن لم يلحق بي لم يدرك الفتح والسلام)) .

لذلك يقرر السيد الحكيم (دام عزه) هذا المعنى مراراً بطرائق مختلفة وأساليب شتى وعنوانات متعددة كلها تفضي إلى حقيقة ارتباط عبد الله (الإمام الحسين)عليه السلام المؤتمن بـ(دين الله) المعرض للضياع والمحو والاستبدال بدين جديد (الإسلام الأموي بدلاً عن الإسلام المحمدي) المنهج، وطريق ينقض دين الله تعالى من داخله بتعطيل الحدود والأحكام وتغيير المفاهيم، ليكون الانقلاب من الداخل لأن نسخ الدين يؤدي بالضرورة إلى الضياع , ولا بد من موقف، وتضحية تكون بمستوى المؤامرة على الدين ،وهذا ما لا يقوم به إلا المعصوم صلوات الله عليه المؤتمن الراعي للدين، وهذا المعنى حدده البحث في الموازنة بين الانحراف في الاتجاه من جهة وما من شأنه أن يترتب على الانحراف لو لم يعطل مشروعه وهذا أولاً ، وثانياً : جهود أهل البيت عليهم السلام في مقارعة الانحراف والدفاع عن حياض الإسلام , وكلا الأمرين أجراهما المؤلف (دام عزه) في مبحثين جعلهما قاعدة تأسيسية لواقعة الطف .

ولعل التعرض لبعض عنوانات المبحث الأول تكشف عن مدى صواب وصحة ما ذهب إليه، فالشواهد التاريخية حاضرة والأحداث المترتبة عليها واضحة العلاقة بها .

يستدل البحث على رعاية المعصومين عليهم السلام علي لهذا الدين بوصفه خاتم الأديان والمصحح لما سبقة ولا يُنتظر أن يصحح بدين أو نبوة إذا اختلفت فيه العلة، لذا كان المعصومون هم الموكلون بحفظه، وعلى ذلك جاءت النصوص الموثقة في وجوب معرفة الإمام والإذعان بإمامته وطاعته وموالاته والنصحية له , ولزوم جماعة المسلمين والمؤمنين وحرمة التفرق , ولهذه المفردات مقام عظيم في نظم أمور الدين وأهله، لأنها محمودة العاقبة تستوجب اللطف الإلهي ،إلا أن ما جرى بعد شهادة النبي صلى الله عليه وآله وسلم على عكس ذلك تماماً، فتعثرت الأمة وانحرفت عن الخط الرسالي , واستبعدت أهل البيت عليهم السلام عن مقامهم المنصوص عليه , وأعطت مقاليد السلطة إلى غيرهم فأصبح معيار الإمامة والولاية بالقسر والقهر بخلاف حكم الله ورسوله فأنكر أهل البيت عليهم السلام (علي والزهراء صلوات الله عليهم) ذلك واضطروا إلى مسالمة السلطة فسلمت أمور المسلمين، وبدأ استغلال السلطة بخصوصيات أهل البيت  عليهم السلام، فوضعت الأحاديث لصالحها ثم ما لبثت حتى تمسكت بأحاديث وجوب طاعة الإمام ونصرته مع تحريف مصداق الإمام إلى غير أهله، من خلال ذلك نما جيل جديد على الطاعة العمياء للسلطة وأخذ التحريف بعدًا بتولي الجهلاء للفتوى والقضاء، وختم المبحث بنماذج من التحريف في زمن بني أمية تجاوزت الثلاثين تحريفاً لينتقل إلى المبحث الثاني الذي اختط المؤلف له فيه منهجاً تراكمياً في الأحداث كانت غايته بيان جهود أهل البيت عليهم السلام في ردّ الانحراف، والتي قامت على ثلاثة مقامات :

اهتم الأول بجهود الإمام علي عليه السلام مع أصحابه والتابعين الذين كانوا معه في صدّ الانحراف مقابل ضغط السلطة المتواصل عليه وعلى أصحابه صلوات الله عليهم وتابعيه .وفي هذا المبحث سردٌ غني للحوادث التاريخية المسكوت عنها وهي مهمة للباحثين عن الحقائق والمتصدين لمعرفة واقع المسلمين آنذاك.

وجاء المقام الثاني على بيان رد فعل السلطة على جهود الإمام علي عليه السلام وخاصته في ردع الانحراف، فكان لإهمال معاوية بالقضاء على خط أهل البيت عليهم السلام أساس في هذا المقام، فقد نكل بالشيعة وحجر نشر السنة النبوية ومنع الروايات المؤيدة لأهل البيت عليهم السلام ووضع الأحاديث المزيفة في فضل الصحابة والخلفاء واستبعادها عن آل البيت وعن علي عليهم السلام خصوصاً مقابل تقديس الخلفاء ,

وانعقد المقام الثالث على أثر فاجعة الطف في الإسلام بكيانه العام، وابتدأ بالإشارة إلى قوة الدولة التي أقامها معاوية بالترهيب والترغيب وبالإعلام والتثقيف المنحرف وإثارة العصبية والنعرات الجاهلية، وكيف تعامل الناس مع واقع السلطة التي تمثل انحرافا دينيا , يستوي مصداقه الأكمل ببيعة يزيد لعنه الله بعد أن أرسى معاوية قواعدها وأحكم بنيانها في أمة متخاذلة أنساها دينها ومثلها .

((واتخذ نهج التدرج في الانحراف والمخالفات بنحو لا يستفز الجمهور, وكلما آلف الجمهور مرتبةً من الانحراف انتقلت للمرتبة الأعلى وهكذا حتى يألف الجمهور حكم السلطة في الدين وتحويرها له )) .وعند ذلك تكون تبعية الدين للسلطة فيضمر وقعه في نفوس الناس وقد ينتهي التحريف بتحول الدين إلى أساطير وخرافات , لذلك لابد من موقف يفقد السلطة توازنها لتقوم بجريمة نكراء تنكشف فيها على حقيقتها وتستفز جمهور المسلمين , وتذكرهم بدينهم وتستثير غضبهم وتفصلهم عن السلطة وتخسر ثقتهم بها , وبذلك تفقد السلطة فاعليتها وقدرتها على التحريف .

لقد كانت التضحية بأوحد أهل الدنيا على وجه الأرض الطريق إلى نقض بناء السلطة مدة عشرين سنة فقد سنحت الفرصة بعد أن وصل الاستخفاف والاستهتار بالدين والناس أعلى مراتبه باتخاذ يزيد الخلافة مرتعًا له ولأمثاله فلم يكن والحال هذه إلا صورة واحدة في مشهدين :

إظهار وجه السلطة السيء البغيض بعد نزع القناع عنه والتجرؤ على حرمة الإمام عليه السلام وبما جرى في فاجعة الطف بكل وحشيته التي لا تمت للإنسانية بجانب ،

والمشهد الآخر :صورة التضحية والفداء للدين بكل ما يملك الإمام عليه السلام والصبر على كل ما يجري عليه وأهل بيته وأصحابه الخلص احتسابًا للأجر عند الله تبارك شأنه وهو إحياء الدين , في إسقاط أكذوبة بني أمية واستحالة هذه التضحية شريعة ومنهاجًا تجدد لحفظ الدين والدفاع عن حياضه حتى صدق (( كل يوم عاشوراء وكل أرض كربلاء)) , وقد حرر المؤلف (دام عزه) عددًا من الدلالات والآثار المباشرة للدين ومنها:

• تشابه حركة وفداء الإمام الحسين عليه السلام مع مواقف الأنبياء والأوصياء وجميع المصلحين .

• التلازم الحيوي بين دعوة النبي الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم وفاجعة الطف بغاياتها وأهدافها .

• ظهور نشاط وحركية الفرقة المحقة التي تلتزم بالإسلام الحق المتمثل بخط أهل البيت عليهم السلام وظهور الاختلاف العميق بين المسلمين بسبب الانحراف.

• قيام بوادر انهيار الدولة القائمة على الظلم والجبروت بعد أن تزعزعت أركانها وبان زيفها وانحرافها .

• فقدان السلطة شرعيتها وإسقاط فرضياتها في أنها من القضاء والقدر , وكسر حالة الخوف منها , وتهيئة المناخ الصحيح للثورات عليها والخروج على ظلمها وجبروتها , ومنها قامت ثورة أهل المدينة وخروج ابن الزبير , والتوابين , والخوارج وغيرهم فالخروج على السلطة لم يعد مقتصراً على جهة دون أخرى.

• البراءة من أعمال السلطة بل البراءة منها ، لأنها حق مغصوب وهو ما قام به معاوية الثاني بعد أن عهد إليه يزيد بولاية العهد , فأعلن البراءة من جده وأبيه ورفضه لها .

• وضوح فكرة عزل الدين في الصراع على السلطة.

• وضوح فكرة أن بيعة الخليفة لا تقتضي شرعية خلافته , وأن وجوب الطاعة والجماعة لا يعني الانصياع للسلطة لأنها لا تمثل الشرعية الدينية.

• تعاظم التوجه الديني في المجتمع الإسلامي نتيجة فاجعة الطف , وظهور طبقة الفقهاء والمحدثين وشياع الاتفاق على مرجعية الدين بالكتاب والسنه واستبعاد السلطة عنها ما أدى إلى تعامل السلطة مع الواقع بشكل آخر تمثل في إقدامها على تدوين السنة والتقرب من بعض الفقهاء طلبًا لكسب الشريعة منها .

هذا وغيره من أهم مكاسب الإسلام  بعد فاجعة الطف التي وقف عندها السيد الحكيم (دام عزه) مدققا مستدلاً ببصره وبصيرته جامعًا لأهداف الفاجعة  وتلازمها مع النتائج التي حققتها في واقع الأمة، ومنها :

1ـ انحصار مرجعية الدين بالكتاب والسنه إنما هو انتصار لمباني التشيع، ولهذا الأمر أبعاد أخرى في الحد من أثر المباني الفكرية للشيعة على تحولات الأفكار الإسلامية إليهم نظرا لطبيعة مصدرهم ولقوة استدلالهم ومواردهم.

2ـ الاستدلال على رفض الإمام الحسين عليه السلام لنظام الخلافة وإسقاط شرعيته المصطنعة , ولاسيما أنه صلوات الله عليه قد رفع شعار الإصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مزعزعًا نظام الخلافة عند الجمهور ، وكانت فاجعة الطف العقبة أمام نظام الخلافة وعقدة السلطة دائماً.

3ـ فوز التشيع بشرف التضحية في أعظم ملحمة دينية , وهو ما حدا بالظالمين والسلطويين في النقمة على الشيعة في إحياء فاجعة الطف مما أدى إلى تجذرها بنحو يؤكد ظلامتهم على نهج ظلامة إمامهم وهو – ولاشك ـ يعود في صالحهم على الأمد البعيد , وما إلى ذلك من المكاسب التي يستثمرها السيد الحكيم (دام عزه) .

المقام الثالث يعرض بقية المكاسب فيها من خلال الإعلام والإعلان عن فاجعة الطف التي تعني الدعوة إلى التشيع ونشر ثقافته من خلال رثاء الإمام الحسين عليه السلام أو زيارته أو التأكيد على ظلامته وإحياء مراسيم المناسبات المتعلقة بأهل البيت عليهم السلام، وإذا كان التشيع مرتبطاً بأهل البيت ففيه استثمار له لنشر ثقافته والتأكيد على حقوقهم مما أدى إلى تجذر مناسبات أهل البيت عمومًا من خلال إحياء عاشوراء وهي على مدار عام تجدد كل عام وهذا يعطي – للشيعية ـ زخماً من الحيوية والنشاط والتواصل من جهة ويجمع كلمتهم ويثبت وحدتهم من جهة ثانية , ولا يخفى ما في ذلك من تثبيت الهوية الشيعية ونشر الثقافة الدينية الحقة .

ويصل بنا المقام إلى الفصل الثاني (في العبر التي تستخلص من فاجعة الطف) من المقصد الثاني في مقامين نطل منهما في الحديث عن آلية العمل العظيمة الشريفة العالية التي اتبعها الإمام الحسين عليه السلام في نهضته المباركة المتناسبة في الدعوة إلى الإصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في كل مواقفه التي أعلن فيها عن نهضته بدءًا من خروجه من المدينة حتى شهادته في كربلاء , ويلاحظ المؤلف (دام عزه) أن سلامة الآلية في العمل والصبر وانتظار أمره تعالى والشهادة بين يديه عز شأنه وعدم البدء بالقتال، كل ذلك من آليات العمل عند المصلح الآمر بالمعروف الناهي عن المنكر , وهي مواقف سايرت طريق الحسين عليه السلام ولم تنفك عن نهضته حتى صارت من معالمها العامة وطريقة أدائها الرسالية.

وفي المقام الثاني يتوقف السيد الحكيم (دام عزه) عند نتائج فاجعة الطف ويحدد أهمها مشيرًا لإمكانية الاستفادة منها في وقتنا المعاصر , وقد لا تكون بعض هذه النتائج في أبعادها العملية صورة مرضية للمجتمع الإسلامي آنذاك لكنها ترصد بشكل واقعي حقيقي، وقد كشفت فاجعة الطف عن إكمال مشروع أمير المؤمنين عليه السلام في إيضاح معالم الدين ,وسلب شرعية السلطة التي كانت تتحكم فيه تعذر إصلاح المجتمع بالوجه الكامل وهذه النتيجة امتداد لنتيجة تجربة علي (عليه السلام) مع المجتمع الإسلامي، لذا ينحصر الأمر في شأن الإصلاح بمحاولة الإصلاح النسبي وعدم الاغترار باندفاعات الناس العاطفية وهذا نهج أهل البيت وما هم عليه في شأن تعاملهم مع السلطة وما يظهر من مسالمتهم لها .

وناقش السيد (دام عزه) دعوى أن هذه الرؤية لا تتناسب مع قابلية الإسلام للتطبيق وخلص إلى أن الإصلاح الكامل يتعذر بعد حصول الانحراف وقد زاد الأمر تعقيدًا في زمن الغيبة ومع كل هذا لا يسقط الميسور من الإصلاح بالمعسور.

وفي آخر مقاصد الكتاب – الثالث في الترتيب الأول في اعتبار الأهمية- حيث يثير السيد الحكيم (دام ظله) أمراً مقصوداً في الأذهان وهو أن أهل البيت عليهم السلام بأجمهم يشتركون في مسؤولية رعاية الدين والجهاد في سبيل صلاحه وحمايته , فلا بدّ ان يكون لانفراد الإمام الحسين عليه السلام من بينهم بنهضته التي انتهت بفاجعة الطف لاختصاصه بظروف ودواع ألزمته بذلك لم تتحقق لهم عليهم السلام، لذا حاول السيد الحكيم (دام عزه) أن يقدم لنا رؤيته عما تميزت به نهضة الإمام الحسين عليه السلام بحيث ألزمه النهوض ولم يسعه القعود، وقد فصلّ السيد الحكيم (دام عزه) الإجابة عن هذا الإشكال بطريقة جمعت مقاصد أهل البيت عليهم السلام في اتجاه واحد , على الرغم من تعدد أساليب تعاملهم مع أحداث عصرهم فلكل إمام منهم (صلوات الله عليهم) ظرفه الخاص ،لذا كان الحديث في فصول ثلاثة تخصص الأول في الإمام أمير المؤمنين عليه السلام والثاني في موقف الإمام الحسن عليه السلام والثالث في الأئمة من ذرية الحسين صلوات الله عليهم، ومن خلالهم سوف نجد فارق التكليف واختلاف حيثيات الأحداث التي توجب النهضة والقيام أو المسألة والمصالحة أو المهادنة والانتظار والصبر.

في الفصل الأول :عرض المؤلف (دام عزه) أولويات الإمام بعد خروج السلطة وانحرافها عن أحكام الدين وهي الحفاظ على كيان الإسلام العام والحفاظ على حياته وحياة الثلة الصالحة من شيعته، فهذه المهمة التأسيسية لابدّ منها في وقتٍ الدينُ أحوج ما يكون فيه إلى (الإسلام الحق) الذي يحمله هؤلاء من دون تشويه وتحريف لتثبيت دعائم الدعوة المحمدية على وجه الأرض، وهذا يختلف عن وقت الإمام الحسين عليه السلام حيث كان هناك كيان إسلامي أثبت انتشارًا أوسع .

لذا فإن القيام أو النهضة يعرض حياة الإمام عليه السلام وأصحابه للخطر وضياع الدين والمذهب معاً.على الرغم من ذلك كان لأمير المؤمنين عليه السلام الكثير من المحاولات في تعديل مسار السلطة لكنه افتقد الناصر ولم تغب عنه صلوات الله عليه تفاصيل الأحداث وخصوصيات عصره وكانت على ذلك خارطة حركته الإصلاحية.

وفي الفصل الثاني طاف بنا السيد الحكيم (دام عزه) في مواقف الإمام الحسن المجتبى وأحداث عصره وبيان مظلوميته صلوات الله عليه. فعرض لصلح الإمام الحسن عليه السلام مع معاوية وأسبابه وتناسبه مع الأحداث التي زامنها , وكيف كان خروج الإمام عليه السلام من الصراع بصلحٍ خيرًا من الهزيمة العسكرية والذي سوف يحصد شيعته المخلصين وشيعة أبيه عليهما السلام، ومهما يكن من أمر فقد استدل المؤلف (دام عزه) بأحاديث أهل البيت والأحداث التاريخية وأقوال الإمام الحسن عليه السلام حول صواب وصحة رأي الإمام صلوات الله عليه في الهدنة والصلح مع معاوية ومن هنا يفرّق (اعزه الله) بين موقف الإمام الحسن عليه السلام (( في دفاعه العسكري عن خلافته التي ثبتت له ببيعة أهل الكوفة كما هي بنظر جمهور المسلمين . وموقف الإمام الحسين عليه السلام في الامتناع عن البيعة والإنكار للباطل من دون أن يسعى للحرب وإنما فرضت عليه فرضًا , والإمام الحسن عليه السلام كان يقود حربا خاسره بنظر الناس لا يبررها إلا الإصرار الانفعالي والعناد , وليس كالإمام الحسين عليه السلام في موقف حرب ظالمة تريد أن تفرض عليه بيعة يأباها , ولا مبرر لإلزامه بها)) .

وفي الفصل الثالث : دار الحديث في موقف الأئمة من ذرية الحسين عليهم السلام من السلطة وهو امتداد لموقف الإمام عليه السلام، وقد فتح باب استنكار السلطة وتعريتها عن أية شرعية اصطنعتها لنفسها وزيفتها للتسلط على رقاب الناس , فكان من مهامهم عليهم السلام الحفاظ على شيعتهم وتقوية كيانهم , وقد أثمر ذلك بعدم التفريط بطاقات شيعتهم فضلاً عن التركيز على فاجعة الطف وظلامة أهل البيت عليهم السلام , وتقوية صلات الشيعة بالإمام الحسين (عليه السلام) بمختلف الوجوه وتأكيد صلتهم بشيعتهم وحثهم على إحياء دينهم والتفقه فيه , وبث تعاليمهم السامية وثقافتهم في العقائد والفقه والأخلاق والأدعية والزيارات إلى غير ذلك حتى قامت الحوزات الشيعية العلمية فهذه معالم وآثار موقفهم عليهم السلام وهو – ولاشك- قد أثمر عن هذا التواصل والترابط بين منهجهم ومنهج الإمام (عليه السلام) في غاياته ومقاصده على الرغم من اختلاف الأساليب والأزمان .

فإذا انتهينا من مقاصد الكتاب وفصوله يخلص بنا السيد الحكيم (دام عزه) إلى خاتمة الكتاب الذي أراد أن يوظف معالمها في فصلين كان الأول منهما في أثر فاجعة الطف في تعديل مسار الفكر الديني والإنساني عامة, وإيضاح الضوابط التي ينبغي أن ينهجها طالب الحقيقة .

فقد أكد هذا الفصل على أن وضوح معالم الإسلام بعد استبعاد أثر السلطة المنحرفة عليه أدى بالضرورة إلى الحيلولة دون تحكمها في الدين وقيام الحجة على (الدين الحق) المبتنية على إمامة أهل البيت (عليهم السلام) وثقافتهم الرفيعة المنكرة للظلم والطغيان وتشويه الحقائق وتحريف مفاهيم الدين، فساءهم ذلك بأن دافعت ثقافة (الإسلام الحق) عن الأديان السابقة ونبهت لتحريفها وذهبت بتنزيه رموز تلك الأديان عن الانحراف فيها بوصفه الإسلام ديناً خاتماً للأديان، ولو فتح المجال والباب لانحرافه لضاعت معالم الحق ومعالم الرسالات الإلهية على البشرية، فكان الفداء والتضحية في صد الانحراف إنما هو إقامة للرسالة الإلهية في تثبيت الحقيقة الدينية الداعية إلى الله تعالى وفقاً للفطرة الإنسانية السليمة على اختلاف الرسالات والديانات السماوية , أما الفصل الثاني من الخاتمة فقد جاء في غاية مهمة جداً وهي (إحياء فاجعة الطف) وبهذا الختام للكتاب يعود السيد الحكيم (دام عزه) إلى مطابقة بدء الكتاب مع خاتمته لأنه افتتح الكتاب بالبعد الدامي لعاشوراء وجانبها المفجع، وهنا يعود ليتواصل مع ما بدأ به في الحديث عن ضرورة إحياء فاجعة الطف مع تأكيد أهل البيت (عليهم السلام) عليها واختلاف الناس في مظاهر التعبير عنها تبعاً لعواطفهم وشعورهم إزاء الأحداث، لذا كان لكل بيئة وبلد طريقة خاصة في الاحتفاء بعاشوراء تتناسب مع مداركها وأحاسيسها وخصوصياتها، وترك الحرية لكل فئة في أن تختار لنفسها الطريقه التي تناسبها في التعبير عن شعورها وعواطفها ما لم يتجاوز الحد المشروع .

ويؤكد المؤلف على أهمية مشاركة عامة الناس في الحفاظ على الشعائر، فبهم تحفظ هذه الشعائر، حيث لا يسهل بسبب كثرتهم القضاء عليها من أعداء الدعوة , ولا يستطيعون تجميد وإيقاف مدهم، وعليه فلا بدّ للخاصة من أفراد المجتمع دعمها وتهيئة الظروف المناسبة لها، ولا مانع فيما يرى السيد الحكيم (دام عزه) من الممارسات الصارخة لشعائر الإحياء، لأنها تلفت الأنظار وتعرف بالفاجعة، وهي الأحرى بإظهار عواطف الجمهور ،وتجذرها في أعماقهم واستنكارهم للظلم الذي تعرض له الإمام (عليه السلام)، كما تعرض له شيعتهم تبعاً لهم على امتداد التأريخ، وهي كذلك مدار السؤال والاستفسار من الآخرين لأنها تنبّه على الحدث وتظهر الفاجعة .

أما قضية تطوير طريق إحياء المناسبة فيرى السيد الحكيم (دام عزه) أن إيجاد وسائل تناسب التطوير المذكور يجب أن يكون مصاحباً لهذه الشعائر بواقعها المعهود المأمون لا بدلاً عنها، ويشير السيد الحكيم (دام ظله) إلى أنه قد تختلف وجهات النظر حول بعض الممارسات لاختلاف الحكم الشرعي اجتهاداً أو تقليداً , أو قد يدور الاختلاف في حصول ما يؤكد رجحانها ويقتضي التثبت بها أو يوجب مرجوحيتها ويقتضي الإعراض عنها من العناوين الثانوية، فالحل المفترض واللائق واللازم على كل طرف من أطراف الخلاف الاقتصار على بيان وجهة نظره , أو محاولة الإقناع به بالتي هي أحسن , ولا ينبغي تجاوز ذلك إلى الإرغام على تقبل وجهة نظره أو الصراع الحاد أو التهريج والتشنيع والتوهين , والهدف من كل هذا هو أن تكون هذه المراسم في المناسبات والإحياء موجبة للتوحد ونبذ الصراعات والاختلافات غير الموضوعية، فإحياء الفاجعة ليس مسرحاً للنزاعات، و إنما هو مقام لطلب الأجر العظيم وثبوت  منهج الإمام (عليه السلام) الذي قدم نفسه وأهل بيته فداءً للدين الحق، والذي تستوجب منا الالتزام به في وحدة الكلمة والمشاركة الفاعلة في سبيل ذلك.

هذه إطلالة سريعة على ما خطته أنامل مخلصه لقضية الإمام الحسين(عليه السلام) جمعت بين أبعاد الفاجعة التاريخية والفكرية فضلاً عن العاطفية والشعائرية , تتبع فيها ذلك التلازم والتفاعل الحقيقي فيما بينهما إلى الحد الذي تركت أثراً يصح بل يجب توظيفه واستثماره في واقعنا المعاصر، فنهضة الإمام (عليه السلام) إنما هي متجددة فاعلة في الحياة لا يحدها زمان ولا يقيدها مكان و(كل أرض كربلاء وكل يوم عاشوراء).

(مجلة ينابيع / عدد 48)

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

*