من خطباء المنبر الحسيني… الشيخ صالح الدجيلي

345

88

  حيدر المالكي

تنوعت الأدوار التي مر بها المنبر الحسيني فمن رخاء إلى شدة يعقبها رخاء، إلا أن السمة التي سادت كل الأدوار هو اضطلاعه بعملية تثقيف المجتمع والتركيز على نشر مبادئ أهل البيت التي تنصب على التربية الصالحة للفرد لكي يصبح عضواً فاعلاً في بناء حياة أفضل تكفل المعيشة الطيبة في الدنيا والفوز برضا الله تعالى في الآخرة.

وكان على المنبر أن يجد أشخاصاً يدركون خطورة ارتقائه ويؤمنون بمبادئه وتتوفر فيهم مقومات الخطابة كي يستطيع التواصل مع الناس بما يريد أن يوصله إليهم ضمن عملية متعاقبة تُخرّج في كل فترة خطباء جدد، يحافظون على الموروث الخالد ويسايرون بنفس الوقت التطور في العالم الذي يتحرك بخطوات متسارعة في سباق علمي متعدد الملامح والنتائج.

وقد برز من الخطباء المرحوم الخطيب الشيخ صالح الدجيلي الذي عاش ضمن بيئة علمية ودينية وتخرج من مدرسة النجف المنبرية المعروفة برصانتها وخطها الإسلامي الأصيل مع الإثراء المعرفي في ظلال المرجعية الدينية الرشيدة، وها نحن نسلط الأضواء على حياته اعترافاً منا بفضله وإشادةً بدوره الفعال في خدمة أهل البيت وإحياء أمرهم الذي أمرنا به الإمام الصادق(ع) بقوله: (أحيوا أمرنا رحم الله من أحيا أمرنا).

هو الشيخ صالح بن الشيخ حسن بن الشيخ محسن بن الشيخ أحمد الدجيلي بن الشيخ عبد الله الخزرجي، هاجر جدهم الأكبر الشيخ أحمد الدجيلي من مدينة الدجيل (عكبرا التاريخية) الواقعة على بعد 60 كم شمال بغداد أوائل القرن الثالث عشر إلى النجف الأشرف طلباً للدراسة ومجاورة أمير المؤمنين(ع) وهو أبن الشيخ عبد الله الخزرجي أحد شيوخ قبيلة الخزرج القاطنة في الدجيل.

ولد في النجف الأشرف في محلة العمارة التي كانت تعج بالبيوت العلمية والأسر العلمائية سنة (1345هـ/1928م)، وكان لوالده الشيخ حسن دوراً بارزاً في تنشئته وتعليمه فقد شب محباً للعلوم والدرس، راغباً في الانخراط بسلك الدراسة الدينية، وبعد وفاة والده أخذ أخوه الأكبر الشاعر المعروف الشيخ أحمد الدجيلي على عاتقه تدريسه والاهتمام به وكان قد درس عليه علوم العربية ثم التحق بمدرسة منتدى النشر وواصل دراسته وبنفس الوقت كان يحضر الدروس الحوزوية فقد حضر درس الفقه عند آية الله الشيخ عباس المظفر الذي كان يلقي بحوثه في مدرسة الإيرواني بمحلة العمارة، ثم جعل يختلف إلى درس البحث الخارج عند آية الله العظمى زعيم الحوزة العلمية السيد أبو القاسم الخوئي في جامع الخضراء.

أما خطابته فقد بدأ مشواره مع المنبر الحسيني بمعية الخطيب اللامع السيد جواد شبر الذي كان معروفاً في الأوساط الشعبية بمقدرته العالية وقابليته الخلاقة على إدارة المجلس بحيث يشد الأسماع إليه منذ صعوده أعواد المنبر وحتى انتهائه من إلقاء المحاضرة.

وكان من الطبيعي أن يتأثر الشيخ صالح بأستاذه المفوه والمحبوب، فسار على نهجه جاعلاً من المنبر أداة للإصلاح في المجتمع العربي، الذي كان رهين الماضي المتخلف بما افرزه الاستعمار من جهة والمتطلع إلى العالمين الشرقي والغربي، حيث الأفكار الشيوعية والرأسمالية من جهة أخرى.

وما أن تكاملت قدرات الدجيلي المنبرية حتى انفرد بنفسه، خطيباً متكلماً يدير المجلس وفق عرض ديني تاريخي أدبي يستسيغه الجميع، مع أمكانية هائلة في تحريك العواطف اتجاه كربلاء.

إلى جانب ذلك فقد دخل في المجال التربوي فصار معلماً مختصاً بتدريس اللغة العربية ومادة التربية الإسلامية وقد حدثنا ممن تتلمذ عنده قائلاً: (كان لا يتقيد بالمنهج المحدد في تدريسه التربية الإسلامية، بل كان يتوسع في ذلك فيعلمنا كيفية الصلاة، ويقوم بتحفيظنا أسماء الأنبياء أولي العزم والأئمة(ع)، وقد يطلب منا حفظ مقطوعات من خطب نهج البلاغة، كذلك كنا يحثنا على حفظ من وصية الإمام علي(ع) لأبنه الحسن(ع)).

ولما اشتهر اسمه وطار صيته في جميع محافظات العراق صار يتنقل بين المدن واعظاً وخطيباً ليرشد الناس إلى ما فيه الصلاح والإصلاح، ولم ينس مدينته النجف الأشرف التي صقلت مواهبه وشحذت فهمه وهيأت له أسباب النجاح، فكانت مجالسه فيها معروفة، إذ قرأ في أغلب البيوت النجفية، التي كانت تقيم المآتم على العترة الطاهرة طيلة أيام السنة إضافة لموسمي عاشوراء ورمضان.

كما قرأ في المواكب والهيئات الحسينية.

أما في باقي المدن العراقية فقد قرأ في الشامية، والشنافية، والديوانية، والكوفة، والمشخاب وأبي صخير، وفي البصرة مجلس الحاج طوينة، وفي القرنة أيضاً.

كما قرأ في سلطنة عمان خلال الدعوات التي كانت توجه إليه من أهل مسقط.

 وقد تحدث لنا الخطيب الشيخ شاكر القرشي عنه باعتباره من أقرب أصدقائه وقد زامله في الحضور عند السيد جواد شبر قائلاً: (عرفنا المرحوم الشيخ صالح بالاستقامة والدين والالتزام، فقد كان أميناً في إرشاده، عاملاً على إبراز مظلومية أهل البيت(ع)، ساعياً في حل المشاكل الاجتماعية وإصلاح ذات البين).

ومع ما حباه الله من موهبة خطابية فقد نظم الشعر، ومما قاله في ولادة الإمام المهدي(ع):

وفي ليلةٍ غابتْ نحوسُ نجومِها                فأَشْرَقَتْ الدّنُْيا بطلعتِهِ الغَرّّا

ونرجسُ جاءتْ نَحْوَ والدِهِ لكيْ                يُقَبّلُ خَدّاً مُشْرِقّاً له والثّغْرَا

فأَنْطَقَهُ الرّحْمَنُ وهو ابن ساعتِهِ                           فَعَدّدَ آبَاءً لَهُ وتَلَا الذّكْرَا

لك الحمدُ يا ربَّ العِبَادِ فإنّنا                             نَرُوُمُ ظُهُوراً بَعْدَ غَيْبَتِهِ الكُبْرَى

ليَمْلأها قِسْطَاً وعَدلاً فأنها                        وحقّكِ يا طُهْرُ قد مُلِئَتْ جَوُرَا

أتنسى هجومَ القومِ في عُقْرِ داركِمْ                    وقد أسقطوا طفلاً لجدتك الزّهْرا

أتنسى بناتِ الوحي سِيْقَتْ حواسِراً                  وقد ضربوا بالسّوطِ عَمتَكَ الحَوْرا

وما أن حل العقد الثمانيني من القرن المنصرم حتى أصبح المنبر الحسيني برجاله وأنصاره ومريديه هدفاً للسلطة الحاكمة آنذاك، حيث لاقى الخطباء أشد المخاطر التي قد تصل للموت في كثير من الأحيان، لذا فقد رأى عدد منهم ترك الخطابة والتخفي في الدور خوفاً من بطش الحكم البعثي الذي وجد في المنبر دوراً رسالياً واضحاً فأراد بشتى الوسائل سحقه وتدمير قواعده المنبرية والشعبية.

وكان الشيخ صالح من الذين شملتهم المطاردة والملاحقة، ومع ذلك فقد آلى على نفسه إن لا يترك المنبر بل واصل عطائه وخدماته لسيد الشهداء، خصوصاً أيام المحرم حيث كانت الأجواء مشحونة بالتوتر، فمنع إقامة الشعائر الحسينية أصبح هاجساً للدولة وبأي ذريعة، فكان رحمه الله يتنقّل من مجلس لآخر وكله ثقة بالله تعالى غير آبه بملاحقة رجال الأمن والحزب، إلى أن كثرت حالات اغتيال الخطباء، بحيث فقدت النجف الأشرف ثلة من رجال المنبر الذين اعتادت عليهم الناس وألفت محاضراتهم، وعندها قرر الشيخ التخفي عن العيون التي باتت ترصده أينما يذهب، وكان لهذا القرار وقع مؤلم وشديد على نفسه لأنه لم يترك خدمة أهل البيت(ع) طيلة سني حياته.

ولما وضعت حرب الخليج الأولى أوزارها أصبحت الساحة المنبرية خالية تقريباً من الخطباء، فمن مغيّب بالسجون أو مقتول بالدهس أو السم أو الاغتيال الدموي، أو متغرب عن الوطن بالإكراه أو الرضا، ثم بدأت الأمور تنفرج نسبياً مع استياء الناس جراء الحصار الاقتصادي الخانق وتلويح الإدارة الأمريكية بالسلاح مما أدى إلى تغاضي السلطة عن أقامة المجالس وعندها سارع الشيخ صالح بالحضور في المجالس وعاود نشاطه في خدمة أهل البيت(ع)، ولهذا انبرى السيد عبد الستار الحسني مادحاً إياه بقوله:

قدْ قُلْتُ لما قَامَ صَالحٌ خاطِبَاً                    ما في ذُرَى النّجَف المشرّف منبرٌ

فوقَ المنابرِ كالهَزارِ الصادحِ                 إلا ويفخر بالخطيب الصالحِ

وعندما حل المحرم عام 1422هـ، أضطلع الشيخ كعادته بدوره المنبري فحضر مجالس النجف في العشرة الأولى من المحرم ومنها مجلس السادة آل بحر العلوم الذي يعد من أقدم وأضخم المجالس العاشورائية في النجف، وما كاد اليوم العاشر أن يحل حتى استدعاه رجال الأمن إلى مديريتهم وحققوا معه حول توجيهاته الحسينية التي كان يلقيها على مسامع مرتادي مجلسه، فلم يلبث بعد هذا الاستدعاء سوى شهرين حتى أخذت بوادر المرض الخطير تظهر على جسده بصورة متسارعة حتى انتقلت روحه الطاهرة إلى بارئها في السابع والعشرين من شهر ربيع الأول سنة 1422هـ المصادف 20/6/2002، فدفن بمقبرة وادي السلام في النجف الأشرف وقد أرخ وفاته السيد محمد مهدي الموسوي الخرسان بقوله:

يا نكبةَ المنْبرِ في أُسْتَاذِهِ                قَدْ غَابَ عَنْهُ صالحٌ مُغَادرُ

خطيبُ وَعْظٍ أَرّخُو( لفقْدِهِ                 تبكي شَجَاً صلاحَهُ المنابِرُ)

المصدر: مجلة ينابيع – العدد (34)

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

*