سيرة الإمام السجاد (ع) في نشر العلوم الإسلامية
بقلم الشيخ جميل الربيعي – أستاذ في الحوزة العلمية
لقد أجمعت الأمة الإسلامية بكل مذاهبها وفصائلها على أعلمية أهل البيت (ع) في جميع ميادين المعرفة وفروعها إلا المكابرين الذين ختم الله على قلوبهم.
فالميزة الأساسية التي تميز بها أهل بيت العصمة (ع) هي السمو العلمي؛ ولهذا لم يعرف التاريخ أنَّ أحداً من أئمة أهل البيت (ع) جلس تحت منبر عالم تعلم منه، وإنما ورثوا العلم كابراً عن كابر إلى أن يصلوا إلى رسول الله (ص) وبهذا جاء عن رسول الله (ص): (لا تعلموهم فهم أعلم منكم)(1).
ولم يكن علمهم هذا مجرد رأيٍ رأوه، أو فكرةٍ خطرت على أذهانهم فطرحوها على الناس، أو درسٍ تلقوه من عالم، إنما هو علمٌ تلقوه من رسول الله (ص) عن الله جل حلاله ، يقول الإمام الباقر (ع) لجابر الانصاري(رض): (يا جابر لو كنا نفتي الناس برأينا وهوانا لكنَّا من الهالكين، ولكنَّا نفتيهم بآثارٍ من رسول الله (ص) وأصولِ علمٍ عندنا نتوارثها كابراً عن كابرٍ نكنزها كما يكنز هؤلاء ذهبهم وفضتهم)(2).
وعن الإمام الصادق (ع) قال: (والله ما نقول بأهوائنا، ولا نقول برأينا إلا ما قال ربُّنا)(3).
وسأل رجل أبا عبد الله (ع) عن مسألةٍ، فأجابه فيها، فقال الرجل: (إن كان كذا، وكذا ما كان القول فيها، فقال له: مهما أجبتك فيه لشيء فهو عن رسول الله (ص) لسنا نقول برأينا من شيء)(4).
وفي حديث آخر عن فضيل بن يسار عن الإمام الصادق(ع) أنَّه قال: (إنَّا على بينةٍ من ربِّنا، بيَّنَها لنبيِّهِ فبيَّنَها نبيُّهُ لنا، فلولا ذلك كنا كهؤلاء الناس)(5).
وهكذا كانوا يؤكدون إنَّ كلَّ ما عندهم، وما يدلون به من فصول العلم والمعرفة هو ممَّا ورثوه من رسول الله (ص) في الكتاب والسنة، وجميل ما قاله الشاعر الشيخ البهائي:
إذا شئت أن ترضى لنفسك مذهباً وتعرف صدق الناس في نقل أخبار
فدع عنك قول الشافعي ومالك واحمد المروى عن كعب أحبار
ووالِ أناساً قولهم وحديثهم روى جدنا عن جبرئيل عن الباري
ولعلَّ هذا الأمر بما له من دور مهم في ربط الأمة بنبيها كان أئمة الهدى (ع) يؤكدون عليه، وهو ما قلناه أن الإمام السجاد (ع) يحاول أن يرجع الأمة إلى مسار رسول الله (ص) وسنته وسيرته؛ ولهذا نجد الإمام الرضا(ع) وحشود العلماء تستقبله في نيشابور – حين استقدمه المأمون إلى خراسان – نستمع منه حديثاً واحداً عن رسول الله (ص) وإذا بالإمام يخرج رأسه من العمارية(6).
ويقول: (سمعت أبي موسى بن جعفر يقول: سمعت أبي جعفر بن محمد يقول: سمعت أبي محمد بن علي يقول: سمعت أبي علي بن الحسين يقول: سمعت أبي الحسين بن علي يقول: سمعت أبي أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) يقول: سمعت رسول الله (ص) يقول: سمعت جبرئيل (ع) يقول: سمعت الله جل جلاله يقول: لا إله إلا الله حصني، فمن دخل حصني أمن عذابي)(7).
ومن هنا يتبين أهمية ذلك لإعادة الأمة إلى المنبع الصافي المرتبط بالوحي الإلهي، والإمام السجاد (ع) خريج هذه المدرسة الإلهية، أبهر عقول العلماء فضلاً عن بقية الناس بما يملك من فيض علمي وافر، ولهذا قال عنه علماء العصر:
1- محمد بن شهاب الزهري: (ما رأيت هاشمياً قط أفضل من علي بن حسين، وهو أبو الحسينيين كلهم)(8).
ويقول: (ما رأيتُ قرشيّاً أورع منه، ولا أفضل)(9).
2- سفيان بن عيينة: (ما رأيت هاشميا أفضل من زين العابدين ولا أفقه منه)(10).
3- الشافعي: (هو أفقه أهل المدينة)(11).
4- وحتى ملوك عصره صرحوا بذلك، يقول عبد الملك بن مروان للإمام(ع) : (أوتيت من الفضل والعلم والدين والورع ما لم يؤتَه أحد مثلك، ولا قبلك إلا من مضى من سلفك)(12).
5- ويقول ابن سعد في طبقاته: (كان علي بن حسين ثقةً، مأموناً، كثيرَ الحديث، عالياً، رفيعاً، ورعاً)(13).
6- يقول الشيخ المفيد: (وقد روى عنه فقهاء العامة من العلوم ما لا تحصى كثرة، وحفظ عنه من المواعظ والأدعية، وفضائل القرآن، والحلال والحرام، والمغازي والأيام ما هو مشهور بين العلماء، ولو قصدنا إلى شرح ذلك لطال به الخطاب وتقضى به الزمان)(14).
(وبرز على الصعيد العلمي والديني إماماً في الدين، ومناراً في العلم، ومرجعاً في الحلال والحرام، ومثلاً أعلى في الورع والعبادة والتقوى، وآمن المسلمون جميعاً بعلمه، واستقامته، وأفضليته، وانقاد الواعون منهم إلى زعامته وفقهه ومرجعيته)(15).
لقد كان الإمام السجاد (ع) عَلَماً يؤمه الناس من مختلف بقاع المعمورة حين بدأ يبث العلوم الإسلامية في حلقة (من البحث والدرس في مسجد الرسول (ص) يحدث الناس بصنوف المعرفة الإسلامية من تفسير وحديث وفقه ، ويفيض عليهم من علوم آبائه الطاهرين، ويمرن النابهين منهم على التفقه والاستنباط، وقد تخرَّج من هذه الحلقة عدد مهم من فقهاء المسلمين، وكانت هذه الحلقة هي المنطلق لما نشأ بعد ذلك من مدارس الفقه والأساس لحركته الناشطة.
وقد استقطب الإمام عن هذا الطريق الجمهور الأعظم من القراء، وحملة الكتاب والسنة حتى قال سعيد بن المسيب: (إنَّ القراء كانوا لا يخرجون إلى مكة حتى يخرج علي بن الحسين، فخرج وخرجنا معه ألف راكب)(16).
وهكذا كان العلماء والفقهاء يتخرجون في هذه المدرسة الإلهية التي راحت تبث علوم الإسلام في الآفاق الإسلامية حتى طار صيتها، فصارت تمزق أستار الظلام رغم كل العوائق والسدود التي ضربها بنو أمية، وسخروا كل ما يملكون من قدرات مادية وبشرية لإطفاء نور الله تعالى (وَيَأْبَى اللهُ إِلا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ)(التوبة:32).
ولا غرابة إذا قلنا: إن الإمام السجاد (ع) هو الذي وضع الحجر الأساس للجامعة الإسلامية الكبرى التي واصل بناءها ولده الباقر وحفيده الصادق (ع).
أقول: وضع الحجر الأساس بما حمل من علوم آبائه الطاهرين، والتي حاول تيار الظلام الأموي إخفاءها ودفنها إلى الأبد، وإبعاد الأمة عن هذا المنبع الفياض، بل حاول الأمويون ، وأحزابهم تجفيف هذا البحر الزاخر ليعيدوا البشرية إلى جاهليتها إلا أنَّ حكمةَ الإمام السجاد (ع)، وحركيته، وفاعليته في أحلك الظروف، وأصعب المواقف استطاع أن يبث النور الإلهي ويوصل رسالة الله إلى عباده، يقول الشيخ محمد حسن آل ياسين (قد): (وحسبنا في تصور هذه الحقيقة، ثم إدراكها ، وتصديقها بما لا يقبل الشك أو التردد أن نعلم أنَّ الرواة عن الإمام من طلاب العلم والباحثين من جمهور المسلمين على اختلاف منازعهم ومذاهبهم قد بلغوا المئات، الأمر الذي يدل بقناعةٍ ويقين على أنَّه كان المنهلَ الرويَّ، والغديرَ العذبَ الذي يجد فيه الظامئون ما يحقق رغبتهم في الإطلاع على مسائل الدين، وعلوم القرآن، وأسرار الشريعة، وأبواب المعرفة في مجمل منطلقاتها الإنسانية الواسعة)(17) .
وقد أحصى هذا الشيخ الجليل من روى عن الإمام السجاد (ع) 188 راوياً من علومه في مجال تربية الدعاة العلماء، والفقهاء البصراء، ليحملوا رسالة الله تعالى إلى المجتمع البشري أينما حلّوا وأينما ارتحلوا.
والمجال الآخر الذي سلكه الإمام السجاد(ع) هو مجال التأليف ولا سيما في مجال الأدعية التي جسد فيها أسمى المعاني الروحية والأخلاقية والاجتماعية، بل وحتى السياسية بأسلوبٍ رائعٍ رصينٍ يأخذ بمجامع القلوب، ويفتحها على الله، لتشعر برقابته، ورعايته، وتستمد منه فيض الرحمة والرضوان، بل إنَّ الإمامّ السجاد (ع) فتح بصيرة الإنسان على ما في نفسه من أسرارٍ إلهيةٍ، وما يعرضها للهلاك والبوار من أمراض القلوب وحدد لها العلاج.
كما رسم من خلال تلك الأدعية قواعد العلاقات البشرية وما تتطلبه من معلومات، وما يكدر صفوها من عوائق، ولهذا يمكن القول بضرسٍ قاطعٍ: إنَّ الصحيفةَ السجاديةَ بما تحمل من أبعادٍ روحيةٍ، ونفسية ، وأخلاقية، لم تدع مجالاً معرفياً إلا وأشارت إليه، ولكن ومع شديد الأسف نرى إهمالاً لهذا السفر الإلهي رغم الشروح التي طرحت على الساحة الفكرية، وقد أحصاها المحقق الفذ (علي أنصاريان) فبلغت سبعين شرحاً لهذه الصحيفة المباركة ثم إنَّه جزاه الله خير جزاء المحسنين وضع فهرساً موضوعياً لهذه الصحيفة وطرح من خلالها تسعة عشر باباً، ووضع تحت كلِّ بابٍ ما تضمنته الصحيفة السجادية من موضوعات عقائدية، وأخلاقية، وسياسية، بل وعسكرية بلغت أكثر من مائتين عنوان له مساس بحياة المجتمع البشري فرداً ومجتمعاً ودولةً.
هذا في الصحيفة السجادية الأولى ولم تضم كلَّ أدعية الإمام (ع) ومناجاته فاستدرك العلماء فيما بعد على هذه الصحيفة الشريفة صحف أخرى ذكرها السيد محسن الأمين (قد) في كتابه (أعيان الشيعة) الثانية، والثالثة، والرابعة، والخامسة، إضافةً إلى أدعية الأيام والمناجاة الخمسة عشر والتي يتضمن كل دعاء فيها مفاهيم روحية عالية، وأخلاقية سامية، وفكرية رائدة…
ولكنَّ السؤال الذي يفرض نفسه لماذا طفحت حياة الإمام السجاد(ع) بالدعاء أكثر من غيره من الأئمة الطاهرين (ع)؟
واختلفت أجوبة العلماء والكتاب في ذلك، فبين مُشَرّق ومُغَرّب، ولم يصب الأكثر منهم عين الحقيقة، فقد ذهب البعض منهم أنَّ أدعيةَ الإمام كان إطارُها سياسياً وهو نوع من أنواع المقاومة السلمية للسلطات الأموية، وذهب آخرون أنَّ الإمام (ع) أراد أن يوصل المفاهيم والمعارف الإسلامية إلى الناس بصورة غير مباشرة لأنَّه كان محاصراً ولا يستطيع أن يصرح بطرح المفاهيم والأفكار الإسلامية الحساسة على أعواد المنابر وفي حلقات الدروس.
وذهب السيد محمد باقر الصدر (قد) إلى أنَّ الإمام السجاد (ع) أراد (أن ينشر من خلال الدعاء جواً روحياً في المجتمع الإسلامي يساهم في تثبيت الإنسان المسلم عندما تعصف به المغريات وشده إلى ربه حينما تجره الأرض إليها وتأكيد ما نشأ عليه من قيم روحية لكي يظل أميناً عليها في عصر الغنى والثروة كما كان أميناً عليها وهو يشد حجر المجاعة على بطنه)(18).
ونحن مع تحفظنا على كل ما طرح من تفسير لهذه الظاهرة الإلهية في شخصية الإمام إلا أنَّنا لا ننكر الآثار الإيجابية التي تركتها تلك الأدعية في نفوس الناس وواقعهم وأثرت تأثيراً كبيراً لتغير الواقع ولا زال تأثيرها جارياً، وهي كما وصفها أديب رسالي: (إنَّها لمن معجزات هذا الإمام (ع) أن يصهر العلم والأدب وهموم الفرد والأمة ومشاكل الإسلام وما يعانيه في بوتقة ثم يصوغ منها نصوصاً فريدة في صيغة دعاء لا يبعد عن روحانية السماء ولا ينسلخ عن حاجات الأرض)(19).
إلا أنَّنا ننكر أنَّ الإمام السجاد (ع) كان إذا انصرف إلى الدعاء والمناجاة كانت غايته إسماع الناس وإيصال المفاهيم العالية إليهم؛ وذلك لأنَّ الإمامَ السجاد (ع) كما عرف عنه في جميع الأوساط أنَّه كان إذا توجه إلى وضوئه، ومحرابه تغير لونه، وارتعش خوفاً من الله كما يروي المؤرخون، وإنَّه عندما يحرم للحج ويريد أنْ يلبي يغشى عليه ويسقط إلى الأرض، فأين تكون هذه الضمائم الاجتماعية والدعوية والذي اعتقده والله العالم أنَّ الإمام السجاد (ع) ذاب في حبِّ الله عزوجل، ومأنسُه الوحيد هو الذكر والدعاء،حتى صار هذا الحال غالباً عليه في أحواله كلها لا يفارقه ولا لحظة واحدة.
ومن خلال هذه الحالة نستنتج أنَّ الإمامَ (ع) تحولت حياته إلى ذكر متواصل، وعبادة مستمرة واستحضار في ساحة القدس، ولا شك أنَّ هذه الحالة سوف تشيع جواً روحياً، ووهجاً إلهياً، يشغل النفوس ويوجهها إلى بارئها، وإن لم يقصد الإمام ذلك، وهو قطعاً لا يقصد هداية الناس وإرشادهم بالدعاء لأنَّه عندما يناجي ربه لا يفكر إلا برحمة الله ويستشعر بلذة الإقبال، بل التفاني في حب الله، وجميل ما قاله السيد الخميني (قد) في تفسير هذه الظاهرة: (والأمر في ذلك فوق ما نتصوره، فهم بين يديِّ عظمة الحق، فانون من أنفسهم، لا يرون غيره تعالى، وفي تلك الحال ليس هناك كلام أو ذكر أو فكر، وليس هناك ذات. وهذه الأدعية الكريمة والمناجاة إنما صدرت منهم في حال الصحو قبل المحو أو بعد المحو)(20).
ويقول (قد): (تفكر قليلاً في حالة علي بن الحسين (ع) وأدعيته الرقيقة التي تعلم عباد الله آداب العبودية، ولست أقصد من قولي هذا أنَّ مناجاة هؤلاء العظام كانت تهدف تعليم العباد، فهذا كلام فارغ وقول باطل لا ينتج إلا عن الجهل بمقام الربوبية ومعارف أهل البيت، فقد كانوا (ع) أكثر الجميع خوفاً وخشية من الحق تعالى، إذ أن عظمة الحق وجلاله تجلت في قلوبهم بما يفوق ما يتجلى منهما على أيِّ قلب)(21).
وإضافة إلى الأدعية المباركة التي صدرت عنه(ع) فقد كان يكتب لأصحابه وشيعته ومريديه رسائلَ يطرح فيها ما يحتاجه الناس من مفاهيم وأفكار وأحكام وعقائد ومعالجات فكرية وسياسية واجتماعية كما طرح ذلك في رسالة الحقوق والتي عُدَّت أعظم وثيقة إنسانية تجلت فيها كل حقوق الإنسان ما له وما عليه وما يجب أن يسلكه في حياته من مسالك رشيدة تسعده في الدنيا والآخرة.
هوامش:
-
ثقة الإسلام الكليني، الأصول من الكافي: 1/287.
-
محمد بن الحسن الصفار، بصائر الدرجات: 320.
-
المصدر نفسه.
-
المصدر نفسه: 320-321.
-
المصدر نفسه: 321.
-
العمارية: هودج يجلس فيه.
-
الشيخ الصدوق، الأمالي: 306.
-
ابن منظور، مختصر تاريخ دمشق لابن عساكر: 17/235.
-
ابن كثير، البداية والنهاية: 9/122.
-
ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب: 3/297.
-
رسائل الجاحظ: 106.
-
المحدث المجلسي، بحار الأنوار: 46/57.
-
محمد بن سعد، الطبقات الكبرى: 5/222.
-
الشيخ المفيد، الإرشاد: 260-261.
-
من مقدمة للصحيفة السجادية/ السيد محمد باقر الصدر.
-
المصدر نفسه.
-
الشيخ محمد حسن آل ياسين، الأئمة الإثنا عشر سيرة وتاريخ: 1/293.
-
من مقدمة الصحيفة السجادية/السيد محمد باقر الصدر.
-
شرح رسالة الحقوق: 10/السيد طاهر عيسى درويش،.
-
الإمام الخميني ، المظاهر الرحمانية: 87.
-
الإمام الخميني ، آداب الصلاة: 238-239.