الحكمة – متابعة: لن تنسى على الإطلاق مشهد طفل ينحني أمام آلة خياطة يحيك ملابس في مصنع ردئ التهوية في ظل أجواء ساخنة.
استرق طفل لا يتجاوز عمره 11 أو 12 عاما، النظر إلينا من بعيد بابتسامة هادئة قبل أن يغوص برأسه مجددا متابعا عمله في انحناءة أشبه بتعرضه للكمة أصابت بطنه.
قيل لي إن عمالة الأطفال في تركيا مرض مستشر، لكنني لم أصدق ذلك.
كانت ورشة العمل التي تقع في قبو تحت البنايات مزدحمة كليا بالأطفال، كثير منهم لم تتجاوز أعمارهم السابعة أو الثامنة، صورة مستوحاة من روايات تشارلز ديكنز المأساوية.
ذهبنا إلى إسطنبول للتحقق من مزاعم تفيد بأن اللاجئين السوريين والأطفال، يتعرضون للاستغلال من جانب قطاع صناعة الملابس.
كان هذا التحقيق السري مغامرة غير عادية. فالتصوير السري يعتبر عملا غير قانوني في تركيا، وعندما أُعلنت حالة الطوارئ في البلاد كنا في منتصف العمل، وكان من الطبيعي أن تستوقفنا الشرطة وتستجوبنا. وكان لابد من وضع معدات التصوير السرية بعيدا عن الأنظار.
اتضحت الأمور إلى حد ما بعد عثورنا على لاجئين سوريين وأطفال يعملون في صناعة ملابس تحمل علامات تجارية للسوق البريطانية.
لم تحصل إلا نسبة صغيرة للغاية من اللاجئين السوريين على تصاريح العمل الضرورية، من مجموع يقدر بنحو ثلاثة ملايين شخص. ويضطر اللاجئون إلى العمل بطرق غير شرعية بدون أي حقوق وبأجور متدنية من أجل كسب الرزق، فكانت ورش حياكة الملابس فرصة للعيش والتغلب على محن الحياة.
استطعنا رصد الكيفية التي يتم بها استغلالهم. كان ذلك قبل حلول الساعة الثامنة صباحا، إذ تجمعت مجموعة من الناس عند ناصية أحد الشوارع في ضاحية باسطنبول، الكل مستميت من أجل يوم عمل.
صورنا المشهد من خلال نوافذ معتمة من عربتنا التي تبعد بضعة أمتار فقط عن ذلك المكان، في حين خرج رجل لاختيار عاملين خلال هذا اليوم. اختارهم واحدا تلو الآخر، ومن وقع عليهم الاختيار اعتلوا حافلة تنقلهم إلى مصنع.
عرفنا أن حوالي سبعة من العاملين ممن اعتلوا الحافلة كانوا من اللاجئين السوريين. كان أحدهم في سن 15 عاما، وشخص آخر سنطلق عليه اسم “عمر” المستعار، حفاظا على أمنه لأنه كان مصدر معلوماتنا في التحقيق الصحفي.
تتبعنا الحافلة حتى توقفت على بعد أميال خارج مصنع في منطقة صناعية. كان هذا المصنع معروفا بالنسبة لنا. قيل لنا إنه يعمل في مجال صناعة الملابس لبعض العلامات التجارية الرائدة في العالم.
بعد ذلك، التقيت عمر في مساء اليوم ذاته، وعرض عليّ العلامات التجارية التي يعملون بها. وتعرفت عليها على الفور. من بينها علامة تجارية شهيرة في بريطانيا.
وخلال الأسابيع التالية تعرفت أكثر على عمر وأصدقائه. كانوا كحال جميع السوريين الذين تحدثت إليهم، يعرفون جيدا أنهم يتعرضون لعملية استغلال، لكنهم يدركون أنه ليس بمقدورهم عمل أي شئ آخر.
يتقاضى بعضهم ما يعادل نحو جنيه استرليني في الساعة، وهو أقل من الحد الأدنى للأجور في تركيا. وقال لي عمر إنه كان يريد الذهاب إلى المدرسة، لكنه لا يستطيع البقاء بدون عمل. لذا فهو يقضي أكثر من 12 ساعة يوميا في كي الملابس التي يجري شحنها وإرسالها إلى بريطانيا.
وقالت جميع شركات العلامات التجارية التي اتصلنا بها بشأن هذا التحقيق إنهم يراقبون بصفة دورية المصانع التي تخيط لهم الملابس لضمان سلامة المعايير، وأحيانا تكون تلك الرقابة بشكل غير معلن. لكن الأطفال شرحوا لي كيف تتغلب المصانع على مشكلة الرقابة تلك.
عندما يصل المراقبون، يختفي هؤلاء الأطفال عن الأنظار، وعندما يغادر المراقبون يعود الأطفال إلى عملهم من جديد ببساطة شديدة.
واعترفت بعض العلامات التجارية بوجود تقصير في عملية المراقبة وأنها تسعى حاليا إلى تنسيق الجهود مع النقابات والمنظمات غير الحكومية لمكافحة أي انتهاكات.
وثمة مصانع أخرى قد لا يزورها المراقبون لأنها، بحسب علمهم، لا تصنع ملابسهم. إنها من بين سلسلة من الورش الفرعية لصناعة الملابس في تركيا.
فهذه المصانع تأخذ أوامرها من مصانع يطلق عليها مصانع رئيسية، وهي جهات التوريد المعتمدة لدى العلامات التجارية، وعادة تكون بدون علم من العلامات التجارية في حد ذاتها.
وهذا هو ما يمكن رصده من أسوأ انتهاك للاجئين والأطفال السوريين. لذا قررنا تتبع شاحنات تسليم منتجات خرجت من أحد مصانع التوريد الرئيسية على أمل أن تقودنا في النهاية إلى سلسلتها الفرعية.
نجحنا في ذلك، وصورنا خارج إحدى الورشات الفرعية صبيا صغيرا، لا يتجاوز 12 عاما، يحمل ويسحب أكياس تحتوي على مواد تعادل حجمه إلى إحدى الشاحنات.
دخلنا المكان متظاهرين بأننا أصحاب شركة جديدة لبيع الملابس. وفي مكتب المدير شاهدنا على الفور سترة مصنوعة لحساب تاجر تجزئة للملابس في بريطانيا. سرعان ما سحبوها على الفور. وبعد إلحاح على أصحاب المصنع كي يسمحوا لنا بتفقد المصنع، رأينا الصبي الصغير مرة أخرى أثناء جولتنا.
كان الطفل يطوي الملابس بعناية في مكان مخصص للكي، يرفع بصره سريعا ثم يعاود النظر لأسفل لمتابعة عمله، ولم يكن بمفرده، بل كان يحيط به ستة أطفال من السوريين في مثل سنه.
وتبذل حاليا الجهود لإلحاق هؤلاء الأطفال بالتعليم، لكن ثمة تقديرات تشير إلى أن نحو 400 ألف منهم يعملون، معظمهم في قطاع صناعة الملابس.
تحدثت مع بعض آباء هؤلاء الأطفال، كانوا غير راغبين في عمل أطفالهم، لكنهم قالوا إنه لا خيار أمامهم.
وقال لي طفل، 13 عاما، إنه يبحث عن عمل. قضى صباحه يبحث عن عمل، وسألته ماذا يفعل حاليا، سالت الدموع على وجنتيه وقال لي إنه إن لم يحصل على عمل، فلن يستطيع العيش.
تأكدت أدلتنا وأظهرت أن شركات العلامات التجارية الكبرى في صناعة الملابس تستفيد من عمالة اللاجئين والأطفال، في حين قالت جميع العلامات التجارية المعنية إنها ترفض تماما عمالة الأطفال وممارسة أي نوع من الاستغلال على اللاجئين السوريين.
ويظهر تحقيقنا أنهم أحيانا لا يعرفون كيف أو أين يجري تصنيع الملابس لحسابهم. وإلى أن تعلم تلك الشركات على وجه التحديد من يصنع تلك الملابس لهم، سيستمر هذا النوع من الاستغلال على نحو شبه مؤكد.