مسير الركب الحسيني إلى الكوفة

465

مسير ما تبقى من الركب الحسيني بعد فاجعة الطف، وما رافقها من مصائب وآلام وآثام، ابتداء من كربلاء وأحزانها المروعة ومروراً بالكوفة وغصصها الخانقة وانتهاءً بالشام وما أدراك ما الشام! ومن ثم الرجوع إلى العراق والى المدينة المنورة، قد رافق هذا المسير المضني سيل من الرزايا والخطوب، ولولا حضور الإمام السجاد والسيدة زينب وبقية حرم رسول الله، أي لو أن أهل هذه القافلة غير أهل بيت النبوة، لانهارت وانفرط عقدها، لعظيم المحن التي انهمرت عليها، بيد أننا نرى أن هذه الثلة المؤمنة، قد صمدت أمام العواصف الهوجاء، وكانت كالجبل الشامخ في تبدد كل تلك العواصف وامتصاص عظيم الفتن والابتلاءات، بكل شجاعة وبسالة وإيمان.

إن للمرأة مكانة ومنزلة ومقاماً في المجتمع الإسلامي، فهي نصف المجتمع وهي الأم التي تنجب شخصيات وعظماء وأبطالا وعباقرة، وهي التي تقف وراء كل رجل عظيم، وهي المدرسة المعطاء وهي السكن واللباس، وهي الأخت والزوجة والعمة والخالة. فقد كان للمرأة في صدر الإسلام وأيام الدعوة الإسلامية دور مهم وبارز، وكانت زينب بنت أمير المؤمنين شريكة للإمام الحسين في نهضته المباركة والعملاقة، وقد تحملت مسؤولية التبليغ والإعلام للثورة ووقفت بكل شموخ وإباء مرفوعة الرأس، صابرة، متجلدة، تخاطب قتلة الحسين وتقول لسيدهم (يا يزيد كد كيدك واسع سعيك وناصب جهدك، فوالله لا تمحو ذكرنا ولا تميت وحينا فان أيامك إلاّ عدد وشملك إلاّ بدد) فكانت هي المكملة والمتممة لنهضة الحسين، وقد دخلت ساحة الصراع الدائر بين الحق والباطل غير مبالية بالحرب وبأسنة الرماح وقعقعة السلاح، وهي التي حفظت عيال وأولاد و يتامى الحسين، وكانت تمرّض ابن أخيها علي بن الحسين، وتعرّف القوم بعظم الجريمة التي ارتكبوها بحق الحسين ورهطه النجباء.

تداعيات الملحمة الحسينية

لم يكتمل مشهد مأساة الملحمة الحسينية ظهيرة العاشر من المحرم لعام 61 للهجرة النبوية، حتى ظهرت بوادر مرحلة جديدة من الجهاد، والاستثمار الواعي والهادف لكل منجزات الملحمة العاشورائية.

كان أبطال الجهاد المتواصل في خط كربلاء ونهجها، مختلفين عن أبطال معركة الطف، فبدت زينب (عليها السلام) عنواناً متألقاً في قيادة قافلة السبي في ظل توجيهات الإمام السجّاد (عليه السلام)، الذي كان يعد الامتداد الطبيعي للإفصاح عن مكنونات الرسالة المتمثلة بخط الإمامة، وهو حبل الله الممدود بين السماء والأرض، واضطلع الإمام بهذه المهمة الرائدة بعد مجريات أحداث واقعة الطف، وبالتحديد بعد مقتل والده، حيث فوضت الحكومة الشرعية إليه.

ولقد جسدت قافلة الرسول الأعظم، من النساء الأرامل والأطفال الأيتام، مفردات اكتمال مشهد الجهاد المحمدي، الأمر الذي أتاح للتاريخ أن يكتب مجدداً بأحرف من نور، الدمع الثائر، والصرخة المدوية، ومواقف التحدي والمواجهة في قصور الأدعياء ومساجد المسلمين وأسواقهم ودورهم وساحات اجتماعهم، عند مرور قافلة النور في أزقة وطرقات الكوفة، فكانت رحلة السبي جزءاً لا يتجزأ من تاريخ النهضة الحسينية المباركة.

تجليّات الغضب الإلهي

سرعان ما تجلى الغضب الإلهي لمقتل سيّد الشهداء (عليه السلام) في مرايا عوالم الكائنات في تعابير كونية مذهلة متنوعة عديدة.

لقد ظهر هذا الغضب في الأرض والسماء، في النبات والحيوان، في البحر والبر، وعرف بعض الناس علّة هذه الآيات في أقطار، وجهلها آخرون في أقطار أخرى، وقد استفاض بين المسلمين بل أجمعوا على أصل هذه المتغيرات الكونية، وقد نص كثير من المؤرخين على ذلك(1). ومنها: أن السماء – وبعد مقتل الإمام الحسين وأهل بيته وأصحابه في عاشوراء سنة 61هـ – قد أمطرت دماً عبيطاً، وأنه لم يرفع حجر في بيت المقدس إلا وجد تحته دم عبيط، واسوداد السماء وبكاؤها وغير ذلك من الحقائق التي لا يصر على المماراة فيها مسلم.

شلّت يد العدوان والتعدي

لم يكتف جلاوزة بني أمية، أعداء الله ورسوله (صلى الله عليه واله وسلم)، بعد قتل الإمام الحسين (عليه السلام) بسلبه ورضّ جسده الطاهر بحوافر الخيل، بل جاوزوا ذلك فعدوا على المخيم لنهب ما فيه، وذلك بأمرٍ مباشر من عمر بن سعد الذي قال لجنوده: دونكم الخيام فانهبوها، وكان أول المبادرين في النهب شمر بن ذي الجوشن، فدخل الجند وجعلوا يسلبون ما على النساء والأطفال، وفرغ القوم من القسمة، ثم قطعوا الخيام بالسيوف وأضرموا فيها النار، فخرجت بنت أمير المؤمنين (عليها السلام) وقالت: يا ابن سعد! الله يحكم بيننا وبينك، ويحرمك شفاعة جدنا ولا يسقيك من حوضه كما فعلت بنا وأمرت بقتال سبط الرسول (صلى الله عليه واله وسلم)، ولم ترحم صبيانه ولم تشفق على نسائه. فلم يلتفت ابن سعد لها.

وقد روي عن الإمام الرضا (عليه السلام) انه قال: إن المحرم شهر كان أهل الجاهلية يحرمون القتال فيه، فاستُحلّت فيه دماؤنا! وهُتك فيه حُرمنا! وسبي فيه ذرارينا ونساؤنا! وأضرمت النيران في مضاربنا! وانتُهب ما فيها من ثقلنا! وهنا إشارة من الإمام بإضرامهم النار في الخيام ونهب ما فيها من متاع، وبعملهم الشنيع هذا، فإنهم يثبتون للعالم بأسره بتوغلهم من مقدّم رأسهم حتى أخمص أقدامهم بالجريمة وانتهاك حقوق الإنسان، وقد فاقوا بذلك جرائم أهل الجاهلية، فأينها من التعدي على حرم الله، ألا وهي حرم الرسول وعترته الطاهرة. فشلّت يد العدوان والتعدي والنهب والسلب والتهجير والترويع التي مارسها بنو أمية بحق آل الرسول، وما زال يمارسها أتباعهم ضد محبي أهل بيت العصمة والطهارة.

محاولة فاشلة لاغتيال الإمام !

كان الإمام زين العابدين وسيد الساجدين علي بن الحسين (عليه السلام) حاضراً في كربلاء مع أبيه وكان مريضاً، ولم يرد في المصادر التاريخية إلى أي فترة استمر به هذا المرض، لكن المستفاد من بعض الإشارات التاريخية أنه (عليه السلام) كان لا يزال مريضاً ناحلاً ضعيفاً حتى في الشام.

وقد دخل شمر بن ذي الجوشن إلى الخيمة التي فيها الإمام زين العابدين (عليه السلام)، وهو متمدّد على فراش، فقال شمر: اقتلوا هذا!، فقال له رجل من أصحابه: سبحان الله أتقتل فتىً حدثاً مريضاً لم يقاتل؟!.

فخرجت إليه السيّدة زينب بنت عليّ (عليه السلام) وقالت: والله لا يُقتل حتى أُقتل! فكفّ عنه.

ولا بدّ من الإشارة إلى أن مرضه (عليه السلام) وإن كان سبباً مساعداً في انصراف الأعداء عن قتله، لأنهم كانوا يرونه قاب قوسين من أجله لما به من شدة المرض، ولكنه لم يكن السبب الرئيسي في انصرافهم عنه، بل كان الموقف الفدائي العظيم الذي قامت به عمته السيدة زينب (عليها السلام) حيث تعلّقت به وقالت مخاطبة الشمر: حسبك من دمائنا! والله لا أفارقه، فإن قتلته فاقتلني معه! وقد تكرر منها (عليها السلام) هذا الموقف الفدائي العظيم في عدة حالات.

وأضرمت في مضاربنا النار

بعد فشل شمر بن ذي الجوشن في قتل الإمام زين العابدين (عليه السلام)، قام الجند بإخراج النساء من الخيمة، وأشعلوا فيها النار، فخرجن مسلّبات حافيات باكيات، ولا يخفى أن جميع الخيام قد أُضرمت فيها النار، بدليل قول الإمام الرضا (عليه السلام): وأُضرمت في مضاربنا النار، ولكن الظاهر أن هذا الفسطاط الذي كن النسوة والأطفال فيه جميعاً مع الإمام زين العابدين (عليه السلام) هو آخر الخيام التي أحرقت بعد إخراجهم منه.

فخرجت السيدة زينب (عليها السلام) تنادي بصوت حزين وقلب كئيب: وا محمداه، صلى عليك مليك السماء، هذا حسين بالعراء! مرمّل بالدماء! مقطع الأعضاء! واثكلاه! وبناتك سبايا! إلى الله المشتكى وإلى محمد المصطفى وإلى عليّ المرتضى وإلى فاطمة الزهراء وإلى حمزة سيد الشهداء.

وا محمداه! وهذا حسينٌ بالعراء! تسفي عليه ريح الصبا! قتيل أولاد البغايا! واحزناه! واكرباه عليك يا أبا عبد الله! اليوم مات جدي رسول الله! يا أصحاب محمد! هؤلاء ذرية المصطفى يساقون سوق السبايا!!

وتنافست القبائل على حمل الرؤوس

إن واقعة حمل رأس سبط رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) وسائر الرؤوس الطاهرة جريمة أخرى من الجرائم الفظيعة التي شهدتها كربلاء، وهذه الجريمة كشفت نقاباً آخر عن خبث سريرة النظام الأموي!

وقد سرّح عمر بن سعد من يومه ذلك وهو يوم عاشوراء برأس الإمام الحسين (عليه السلام) مع خِوَلِّي بن يزيد الأصبحي، إلى عبيد الله بن زياد، ثم أمر برؤوس الشهداء الباقين، ما عدا رأس الحر الرياحي الذي منعت عشيرته من قطع رأسه، وسرّح بها مع شمر بن ذي الجوشن، وقيس بن الأشعث وعمرو بن الحجاج، فأقبلوا حتى قدِموا على ابن زياد.

وقد تنافست القبائل منها كندة وهوزان وبنو تميم وبنو أسد، على حمل رؤوس الشهداء.

الأجساد الطاهرة

بقي جسد الإمام الحسين (عليه السلام) مع أجساد الشهداء الآخرين من أهل بيته وأصحابه في العراء لا توارى، تصهرها حرارة الشمس، وتسفي عليها الرياح، وكان اللعين عمر بن سعد قد دفن القتلى من جيشه وصلى عليهم، وترك جسد الإمام الحسين (عليه السلام) وأجساد أنصاره.

ساعات الوداع الأخيرة

اجتمعت حُرَمُ الإمام الحسين (عليه السلام) وبناته وأطفاله في أسر الأعداء، مشغولين بالحزن والهموم والبكاء، وانقضى عليهم آخر ذلك النهار وهم فيما لا يحيط به القلب من الحزن والفجيعة، وباتوا تلك الليلة فاقدين لحُماتهم ورجالهم، غرباء في إقامتهم وترحالهم، والأعداء يبالغون في البراءة منهم والإعراض عنهم، ليتقربوا بذلك إلى عمر بن سعد مؤتّم أطفال النبي محمد (صلى الله عليه واله وسلم) ومُقرّح الأكباد، وثاكل الأمهات، لعلهم ينالوا من عطاء الوالي ابن زياد وخليفته يزيد بن معاوية وما هم بالغيه، وإن بلغه بعضهم فهو نزر يسير لا يرقى إلى عظيم ما ارتكبوا من جرائم يندى لها جبين البشرية.

موقف مقدس إزاء الرأس المقدس

سارع خولي بن يزيد الأصبحي بحمل الرأس المقدس إلى عبيد الله بن زياد، وقد توقف عند منزل في الطريق اسمه (الحنانة)، ولما وصل إلى قصر الإمارة في الكوفة وجد باب القصر مغلقاً، فأتى منزله، ووضع الرأس تحت أجانه، ودخل إلى زوجته النوار ابنة مالك بن عقرب، فسألته عن الأخبار، فأجابها والسعادة تغمره: لقد جئتك بغنى الدهر، هذا رأس الحسين معكِ في الدار، فجنّ جنونها وقالت: ويلك، جاء الناسُ بالذهب والفضة وجئتَ برأس ابن رسول الله صلى الله عليه واله! لا والله لا يجمع رأسي ورأسك بيت أبداً، أبشر فإن خصمك غداً جده محمد المصطفى!.

وقد روي أنها أعانت على قتله يوم أخذ المختار بالثأر من قتلة سيد الشهداء (عليه السلام).

خروج السبايا من كربلاء إلى الكوفة

أقام ابن سعد بقية يوم عاشوراء واليوم الثاني إلى زوال الشمس، ثم ارتحل متجهاً نحو الكوفة بمن تخلّف من عيال الإمام الحسين (عليه السلام)، وحمل نساءه على أقتاب الجمال بغير وطاء ولا غطاء! وهن ودائع خير الأنبياء! وساقوهن كما يُساق سبي الترك والروم في أسر المصائب والهموم.

فأمر ابن سعد لعنه الله أن يمروا بهم على المقاتل لرؤية إخوانهن وأبنائهن ووداعهم، فذهبوا بهن إلى ساحة المعركة، فلما نظر النسوة إلى القتلى صحن ولطمن خدودهن.

وصاحت السيدة زينب (عليها السلام): يا محمداه! صلى عليك ملائكة السماء، هذا الحسين بالعراء! مرمّل بالدماء! مقطّع الأعضاء! وذريتك مقتلة تسفي عليها الصبا! فأبكت بذلك كل عدو وصديق..

ولم تذكر المصادر التاريخية تفصيل ما جرى على الركب الحسيني في الطريق من كربلاء إلى الكوفة.

وقد وصل عسكر ابن سعد وبقية الركب الحسيني إلى مشارف الكوفة في اليوم الحادي عشر ليلاً، وباتوا ليلتهم في منزل من منازل الطريق القريبة جداً من الكوفة أو على مشارفها. وكان الدخول إلى الكوفة نهار الثاني عشر من مقتل الحسين (عليه السلام) وساق حرم رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) كما يساق الاسارى، حافيات مسلبات باكيات يمشين في أسر الذل، حتى إذا وصل الكوفة خرج الناس لاستقباله، فجعلوا يبكون ويتوجعون، وعلي بن الحسين (عليه السلام) مريض قد نهكته العلة، فجعل يقول: إن هؤلاء يبكون ويتوجعون من أجلنا، فمن قتلنا؟!

في حاضرة الغدر

تدابير ابن زياد لاستقبال قافلة الرسالة‏

لما وصل إلى ابن زياد خبر عودة جيش عمر بن سعد إلى الكوفة، أمر أن لا يحمل أحد من الناس السلاح في الكوفة، كما أمر عشرة آلاف فارس أن يأخذوا السكك والأسواق والطرق والشوارع، خوفاً من أن يتحرك الناس حميّة وغيرة على أهل البيت (عليهم السلام) إذا رأوا بقيتهم بتلك الحالة من الأسر والسبي، وكان عدد نفوس أهل الكوفة آنذاك يربو على ثلاثمائة ألف نسمة، وأمر أن تُجعل الرؤوس في أوساط المحامل أمام النساء، وأن يُطاف بهم في الشوارع والأسواق حتى يغلُب على الناس الخوف، كما أمر ابن زياد أن يضعوا الرأس المقدس على الرمح ويُطاف به في سكك الكوفة.

وكان رأس الإمام الحسين (عليه السلام) أول رأس رفع على رمح.

الكوفة تخرج عن بكرة أبيها‏

خرجت الكوفة عن بكرة أبيها لتشهد احتفال ابن زياد بقدوم جيشه المنتصر! وقد امتلأت شوارع الكوفة وسككها وأزقتها بالرجال والنساء والأطفال والشيوخ، فلما رأت النساء حال السبايا، وقد حملوا على جمالٍ بغير وطاء، بكين ولطمن خدودهن، فقال الإمام زين العابدين (عليه السلام) لهن بصوتٍ ضئيل وفي عنقه الجامعة، ويداه مغلولتان: إن هؤلاء النسوة يبكين! فمن قتلنا؟

وأشرفت امرأة من الكوفيات فقالت لهن: من أي الأسارى أنتن؟ فقلن: نحن أسارى آل محمد (صلى الله عليه واله وسلم).

وقد روى مسلم الجصّاص أنه فيما كان يقوم بإصلاح دار الإمارة، ضجت الكوفة بالزاعقات، فسأل عن السبب، فأخبروه أنهم أتوا برأس خارجي خرج على يزيد، فلما علم أنه رأس الحسين بن علي، لطم وجهه حتى كادت عيناه أن تُفقأ، ورأى الحُرَم والنساء وأولاد فاطمة (عليها السلام)، وعلي بن الحسين (عليه السلام) على بعير بغير وطاء، وأوداجه تشخب دماً، وهو يقول:

يـا أمّة الســوء لا سقياً لربعكم يا أمّة لم تراع حُرمة جدّنا فينا

وصار أهل الكوفة يناولون الأطفال الذين على المحامل بعض التمر والخبز والجوز، فصاحت بهم بنت أمير المؤمنين علي (عليه السلام) وقالت: يا أهل الكوفة! إن الصدقة علينا حرام!، وصارت تأخذ ذلك من أيدي الأطفال وأفواههم، ثم قالت: صِه يا أهل الكوفة! تقتلنا رجالكم وتبكينا نساؤكم! فالحاكم بيننا وبينكم الله يوم فصل القضاء.

أرادت (عليها السلام) من رد عطايا أهل الكوفة، أن تعرّف الناس بأن سبايا هذا الركب ليسوا من أي الناس بل هم آل رسول الله الذين فرض الله مودتهم واتّباعهم.

لمّا رأت العقيلة زينب (عليها السلام) الحشود الكثيرة من أهالي الكوفة قد ملأت الشوارع، اندفعت تبين ما جرى على أهل بيت النبوة، وأخذت تحمّل أهل الكوفة مسؤولية نقض العهد والبيعة وقتل ريحانة رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم)، وتوخز ضمائرهم وتحرق قلوبهم بتعريفهم عظم ما اجترحوا من جُرم، فأومأت إلى الناس أن اسكتوا فارتدت الأنفاس وسكنت الأجراس، ثم قالت:

خطبة السيدة زينب بنت علي عليهما السلام

قال بشير بن خزيم الأسدي: نظرت إلى زينب بنت علي (عليه السلام) فلم أر خفرة قط أنطق منها كأنما تفرغ من لسان أمير المؤمنين (عليه السلام)، فأومت إلى الناس أن اسكتوا فسكتت الأصوات، فقالت:

الحمد لله، والصلاة على محمد رسول الله وعلى آله الطيبين الأخيار.

يا أهل الكوفة، يا أهل الختل والخذل، أتبكون؟ فلا رقأت الدمعة، ولا هدأت الرنة، فإنما مثلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً، تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم.

ألا وهل فيكم إلا الصلف (الوقاحة) النطف (التلطخ بالعيب)، والصدر الشنف (الكراهة والبغض)، وملق الاماء، وغمز الأعداء؟ أو كمرعى على دمنة، أو كفضة على ملحودة.

ألا ساء ما قدمت لكم أنفسكم أن سخط الله عليكم وفي العذاب أنتم خالدون.

أتبكون وتنتحبون؟ إي والله فابكوا كثيراً، واضحكوا قليلاً، فلقد ذهبتم بعارها وشنارها، ولم ترحضوها بغسل بعدها أبداً، وأنى ترحضون قتل سليل خاتم الأنبياء، وسيد شباب أهل الجنة غداً، وملاذ خيرتكم، ومفزع نازلتكم، ومنار حجتكم، ومدرة ألسنتكم.

ألا ساء ما تزرون، فبعداً لكم وسحقاً، فلقد خاب السعي، وتبت الأيدي، وخسرت الصفقة، وبوئتم بغضب من الله، وضربت عليكم الذلة والمسكنة.

ويلكم يا أهل الكوفة، أتدرون أي كبد لرسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) فريتم؟! وأي دم له سفكتم؟ وأي كريمة له أبرزتم؟! وأي حريم له أصبتم؟! وأي حرمة له انتهكتم؟! (لقد جئتم شيئاً إدّا تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا) (2) إن ما جئتم بها صلعاء عنقاء سوداء فقماء، خرقاء شوهاء كطلاع الأرض أو ملء السماء. أعجبتم أن مطرت السماء دماً؟ ولعذاب الآخرة أشد و أخزى وأنتم لا تنصرون.

فلا يستخفنكم المهل، فإنه لا يحفزه البدار، ولا يخاف فوت الثار، كلا وإن ربكم لبالمرصاد، فترقبوا أول النحل وآخر صاد(3).

قال بشير: فوالله لقد رأيت الناس حيارى يومئذ يبكون وقد وضعوا أيديهم في أفواههم، ورأيت شيخاً من قدماء أهل الكوفة وقد بكى حتى اخضلت لحيته بدموعه وهو يقول: صدقت المرأة، كهولهم خير كهول، وشبانهم خير شبان، ونساؤهم إذا نطقن أنطق النسوان ونسلكم خير نسل لا يخزى ولا يبزى(4).

خطبة فاطمة بنت الحسين

وروى زيد بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليهم السلام)، المتوفى سنة (250 هـ)، قال: حدثني أبي، عن جدي (عليه السلام)، قال: خطبت فاطمة الصغرى بعد أن ردت من كربلاء، فقالت:

الحمد لله عدد الرمل والحصى، وزنة العرش إلى الثرى، أحمده وأؤمن به، وأتوكل عليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً (صلى الله عليه واله وسلم) عبده ورسوله، وأن ذريته ذبحوا بشط الفرات بغير ذحل ولا ترات(5).

اللهم إني أعوذ بك أن أفتري عليك الكذب، وأن أقول عليك خلاف ما أنزلت عليه من أخذ العهود لوصية علي بن أبي طالب (عليه السلام)، المسلوب حقه، المقتول من غير ذنب كما قتل والده بالأمس في بيت من بيوت الله، فيه معشر مسلمة ألسنتهم، تعساً لرؤوسهم، ما دفعت عنه ضيماً في حياته ولا عند مماته، حتى قبضته إليك محمود النقيبة، طيب العريكة، معروف المناقب، مشهور المذاهب، لم تأخذه اللهم فيك لومة لائم، ولا عذل عاذل، هديته يا رب بالإسلام صغيراً، وحمدت مناقبه كبيراً، لم يزل ناصحاً لك ولرسولك (صلى الله عليه واله وسلم) حتى قبضته إليك، زاهداً في الدنيا، غير حريص عليها، راغباً في الآخرة، مجاهداً لك في سبيلك، رضيته فهديته إلى صراط مستقيم.

أما بعد: يا أهل الكوفة، يا أهل المكر والغدر والخيلاء، إنا أهل بيت ابتلانا الله بكم، وابتلاكم بنا، فجعل بلاءنا حسناً، وجعل علمه عندنا، وفهمه لدينا، فنحن عيبة علمه، ووعاء فهمه وحكمته، وحجته على الأرض في بلاده لعباده، أكرمنا الله بكرامته، وفضلنا بنبيه محمد (صلى الله عليه واله وسلم) على كثير ممن خلق تفضيلاً بيناً.

فكذبتمونا وكفرتمونا، ورأيتم قتالنا حلالاً وأموالنا نهباً، كأنا أولاد ترك وكابل، كما قتلتم جدنا بالأمس، وسيوفكم تقطر من دمائنا أهل البيت لحقد متقدم، قرت بذلك عيونكم، وفرحت قلوبكم، افتراء على الله ومكراً مكرتم، والله خير الماكرين.

فلا تدعونكم أنفسكم إلى الجذل بما أصبتم من دمائنا، ونالت أيديكم من أموالنا، فإن ما أصابنا من المصائب الجليلة والرزء العظيم في كتاب من قبل أن نبرأها، إن ذلك على الله يسير، لكيلا تأسوا على ما فاتكم، ولا تفرحوا بما أتاكم، والله لا يحب كل مختال فخور، تباً لكم فانتظروا اللعنة والعذاب، فكأن قد حل بكم، وتواترت من السماء نقمات فيسحتكم بما كسبتم، ويذيق بعضكم بأس بعض، ثم تخلدون في العذاب الأليم يوم القيامة بما ظلمتمونا، ألا لعنة الله على الظالمين.

ويلكم، أتدرون أي أيد طاعنتنا منكم؟ وأي نفس نزعت إلى قتالنا؟ أم بأية رجل مشيتم إلينا تبغون محاربتنا؟ قست والله قلوبكم، وغلظت أكبادكم، وطبع على أفئدتكم، ختم على سمعكم وبصركم، وسوّل لكم الشيطان وأملى لكم، وجعل على بصركم غشاوة فأنتم لا تهتدون.

تباً لكم يا أهل الكوفة، أي ترات لرسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) قبلكم، وذحول له لديكم بما عنتم بأخيه علي بن أبي طالب (عليه السلام) جدي وبنيه عترة النبي الطاهرين الأخيار.

وافتخر بذلك مفتخركم، فقال: نحن قتلنا علياً وبني علي بسيوف هندية ورماح، وسبينا نساءهم سبي ترك ونطحناهم فأي نطاح، بفيك أيها القائل الأثلب والكثكث (الأثلب والكثكث – بكسر الهمزة في الأول والكافين في الثاني -: لفظان مترادفان يعني دقاق التراب والحجر يستعملان في الحقارة والذم)، افتخرت بقتل قوم زكاهم الله وطهرهم تطهيراً، وأذهب عنهم الرجس، فاكظم واقع كما أقعى أبوك، وإنما لكل امرئ ما اكتسب وما قدمت أوائله، حسدتمونا – ويلا ً لكم – على ما فضلنا الله به.

فما ذنبنا إن جاش دهراً بحورنا وبحرك ساج ما يواري الدعامصا(6).

(ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم)(7) (ومن لم يجعل الله نوراً فما له من نور)(8).

قال: فارتفعت الأصوات بالبكاء، وقالوا: حسبك يا ابنة الطيبين، فقد أحرقت قلوبنا، وأنضجت نحورنا، وأضرمت أجوافنا، فسكتت.

خطبة أم كلثوم

قال: وخطبت أم كلثوم بنت علي (عليه السلام) في ذلك اليوم من وراء كلتها، رافعة صوتها بالبكاء، وقالت:

يا أهل الكوفة، شوه لكم، ما لكم خذلتم حسيناً وقتلتموه، وانتهبتم أمواله، وورثتموه، وسبيتم نساءه ونكثتموه؟ فتباً لكم وسحقاً.

ويلكم أتدرون أي دواه دهتكم؟ وأي وزر على ظهوركم حملتم؟ وأي دماء سفكتموها؟ وأي كريمة اهتضمتموها؟ وأي صبية سلبتموها؟ وأي أموال نهبتموها؟ قتلتم خير رجالات بعد النبي (صلى الله عليه واله وسلم)، ونزعت الرحمة من قلبوكم، ألا إن حزب الله هم الغالبون وحزب الشيطان هم الخاسرون.

ثم قالت:

قتلتم أخي صبراً فويل لأمكم ستجزون ناراً حراً يتوقد، سفكتم دماء حرّم الله سفكها وحرّمها القرآن ثم محمد، ألا فابشروا بالنار إنكم غداً لفي سقر حقاً يقيناً تخلدوا، وإني لأبكي في حياتي على أخي على خير من بعد النبي سيوجد بدمع غزير مستهل مكفكف على الخد مني دائماً ليس يحمد.

قال: فضج الناس بالبكاء والحنين والنوح، ونشرت النساء شعورها ووضعن التراب على رؤوسها، وخمشن الوجوه، وضربن الخدود، ودعون بالويل والثبور، وبكى الرجال، ونتفوا لحاهم، فلم ير باكياً ولا باكية أكثر من ذلك اليوم.

خطبة الإمام السجاد

ثم إن زين العابدين (عليه السلام) أومأ إلى الناس أن اسكتوا فسكتوا، فقام قائماً فحمد الله وأثنى عليه، ذكر النبي بما هو أهله فصلى عليه، ثم قال: أيها الناس، من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا أعرفه بنفسي: أنا علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، أنا ابن المذبوح بشط الفرات من غير ذحل ولا ترات، أنا ابن من انتهك حريمه، واستلب نعيمه، وانتهب ماله، وسبي عياله، أنا ابن من قتل صبراً، وكفى بذلك فخراً.

أيها الناس، ناشدتكم بالله هل تعلمون أنكم كتبتم إلى أبي وخدعتموه، وأعطيتموه من أنفسكم العهد والميثاق والبيعة وقاتلتموه وخذلتموه؟! فتباً لما قدمتم لأنفسكم، وشوهاً لرأيكم، بأية عين تنظرون إلى رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) غداً إذ يقول لكم: قتلتم عترتي، وانتهكتم حرمتي، فلستم من أمتي؟!

قال الراوي: فارتفعت أصوات الناس بالنحيب من كل ناحية، ويقول بعضهم لبعض: هلكتم وما تعلمون.

فقال صلوات الله عليه: رحم الله امرءً قبل نصيحتي، وحفظ وصيتي، في الله وفي رسوله وآهل بيته، فإن لنا في رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) أسوة حسنة.

فقال الناس كلهم باجمعهم: نحن كلنا يا ابن رسول الله سامعون مطيعون، حافظون لذمامكم، غير زاهدين فيك، ولا راغبين عنك، فمرنا بأمرك يرحمك الله، فإنا حرب لحربك، وسلم لسلمك، لنأخذن يزيد ونبرأ ممن ظلمك وظلمنا.

فقال (عليه السلام): هيهات هيهات، أيها الغدرة المكرة، حيل بينكم وبين ما تشتهي أنفسكم، أتدرون أن تأتوا إلي كما أتيتم إلى آبائي من قبل؟! كلا ورب الراقصات، فإن الجرح لما يندمل، قتل أبي (صلوات الله عليه) بالأمس وأهل بيته معه، ولم ينسني ثكل رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) وثكل أبي وبني أبي، ووجده بين لهواتي، ومرارته بين حناجري وحلقي، وغصصه تجري في فراش صدري، ومسألتي ألا تكونوا لنا ولا علينا.

ثم قال (صلوات الله عليه):

لا غـرو إن قتل الحسين فشـيخه قد كـان خيـراً من حسين وأكـرما

فإن تفرحوا يا أهل كوفان بالذي أصاب حســـيناً كـان ذلك أعظما

قتيـل بشط النهر روحي فداؤه وإن الـذي أرداه يــجزى جهنــم

ثم قال (عليه السلام): رضينا منكم رأساً برأس، فلا يوم لنا ولا يوم علينا.

الرأس بين يدي ابن زياد

جلس ابن زياد في قصر الإمارة، وأذّن للناس أذاناً عاماً، وأمر بإحضار الرأس، ثم أمر ابن زياد برأس الحسين (عليه السلام) فوضع في طشت بين يديه فجعل ينكت بقضيب في وجهه وقال: ما رأيت مثل حسن هذا الوجه قط، وكان يشبه وجه رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم).

وقيل: إن ابن زياد أرسل إلى أبي برزة صاحب رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم)، فقال: كيف شأني وشأن الحسين؟

قال أبو برزة: الله أعلم، فما علمي بذلك؟

فقال: إنما أسألك عن علمك؟

قال: أما إذا سألتني فإن الحسين يشفع فيه رسول الله جده (صلى الله عليه واله وسلم) ويشفع لك زياد.

فقال: اخرج، لو لا ما جعلت لك لضربت عنقك.

وروى محمد بن خالد الضبي، عن إبراهيم قال: لو أني كنت ممن قاتل الحسين ثم أتيت بالمغفرة من ربي فأدخلت الجنة لاستحييت من محمد (صلى الله عليه واله وسلم) أن أمرّ عليه فيراني.

وعن زيد بن أرقم: قال: كنت جالساً عند عبيد الله بن زياد، إذ أتى برأس الحسين (عليه السلام) فوضع بين يديه، فأخذ قضيبة فوضعه بين شفتيه، فقلت: إنك تضع قضيبك في موضع طالما لثمه رسول الله (صلى الله عليه وآله!) فقال: قم إنك شيخ قد ذهب عقلك.

ثم رفع زيد صوته يبكي وخرج وهو يقول: ملك عبد حراً، أنتم – يا معشر العرب – العبيد بعد اليوم، قتلتم ابن فاطمة، وأمرتم ابن مرجانة حتى يقتل خياركم، ويستعبد شراركم، رضيتم بالذل فبعداً لمن رضي.

وخاطب اللعين السيدة أم كلثوم بنت علي (عليه السلام) فقال: الحمد لله الذي قتل رجالكم! فكيف ترون ما فعل بكم؟.

فقالت: أي ابن زياد! لئن قرّت عينك بقتل الحسين (عليه السلام) فطالما قرّت عين جده به، وكان يقبله ويلثم شفتيه ويضعه على عاتقه! يا ابن زياد أعدّ لجده جواباً فإنه خصمك غداً!.

زينب تتحدى الطاغية

قال الراوي: ثم إن ابن زياد جلس في القصر للناس، وأذن للناس إذناً عاماً، وجيء برأس الحسين (عليه السلام) فوضع بين يديه، وأُدخِلَ عيالُ الحسينِ (عليهِ السّلامُ) على ابنِ زيادٍ، فدخلتْ زينبُ أُختُ الحسينِ في جُملتِهم مُتنكِّرةً وعليها أرذلُ ثيابها، فمَضَتْ حتّى جلستْ ناحيةً منَ القصرِ وحفَّتْ بها إِماؤها، فَقالَ ابنُ زيادٍ: مَنْ هذه الّتي انحازتْ ناحيةً ومعَها نساؤها؟ فلم تجُبْه زينبُ، فأعادَ ثانية وثالثةً يَسألُ عنها، فقالَ له بعضُ إمائها: هذه زينبُ بنتُ فاطمةَ بنتِ رسولِ اللهِ، فأقبلَ عليها ابنُ زيادٍ وقالَ لها: الحمدُ للهِ الّذي فضَحَكم وقتلَكم وأكْذَبَ أحْدُوثَتَكم.

فقالتْ زينبُ: الحمدُ للهِ الّذي أكرمَنا بنبيِّه محمّدٍ (صلى الله عليه واله وسلم) وطهَّرَنا منَ الرِّجْسِ تطهيراً، وإنما يفْتَضحُ الفاسِقُ ويكذبُ الفاجرُ، وهو غيرُنا والحمد لله.

فقالَ ابنُ زيادٍ: كيفَ رأَيتِ فعْلَ اللهِ بأهلِ بيتِكِ؟

قالتْ: كتبَ اللهُّ عليهم القتلَ فبرزوا إِلى مضاجعِهم، وسيجمعُ اللّهُ بينَكَ وبينَهم فتحاجُّونَ إِليه وتختصمُونَ عندَه.

فغضبَ ابنُ زيادٍ واستشاطَ، فقالَ عمْرُو بنُ حُريثٍ: أيُّها الأميرُ، إِنّها امرأةٌ والمرأة لا تؤاخذُ بشيءٍ من مَنطقِها، ولا تُذَمُّ على خطابها. فقالَ لها ابنُ زيادٍ: لقد شفى اللهُ نفسي من طاغيتِكِ والعُصَاةِ من أهلِ بيتِكِ.

فَزَقَت (صاحت)، زينبُ (عليها السّلامُ) وبكَتْ وقالتْ له: لَعمري لقد قَتَلْتَ كَهْلي، وأبَدْتَ أهلي، وقَطَعْتَ فرعي، واجْتَثَثْتَ أصلي، فإنْ يَشْفِكَ هذا فقدِ اشْتَفَيْتَ.

فقالَ ابنُ زيادٍ: هذه سجّاعةٌ، ولَعمري لقد كانَ أبوها سجّاعاً شاعراً.

فقالتْ: ما لِلمرأةِ والسجاعةَ؟ إِنّ لي عن السجاعةِ لَشغلاّ، ولكن صدري نفثَ بما قلتُ.

وعُرِضَ عليه عليُّ بنُ الحسينِ (عليهما السّلامُ) فقالَ له: مَنْ أنْتَ؟ فقالَ: أنا عليُّ بنُ الحسينِ.

فقالَ: أليسَ قد قَتَلَ الله عليَّ بنَ الحسينِ؟.

فقالَ له عليّ (عليهِ السّلامُ): قد كان لي أخٌ يسمّى عليّاً قتلَه النّاسُ.

فقالَ له ابنُ زيادٍ:بلِ اللهُ قتلَه.

فقالَ عليُّ بنُ الحسين (عليهِ السلامُ): (اللهُ يَتَوَفّىَ الأنفُسَ حيْنَ مَوْتِهَا)(9).

فغضبَ ابنُ زيادٍ وقالَ: وبكَ جُرأةُ لجوابي وفيكَ بقيّةْ للرّد علي؟! اذهبوا به فاضربوا عُنقَه. فَتعلّقتْ به زينبُ عمتُه وقالتْ: يا ابنَ زيادٍ، حَسْبُكَ من دمائنا؟ واعْتَنَقَتْه وقالتْ: واللهِ لا أُفارِقُه فإنْ قتلتَه فاقتلْني معَه، فنظرَ ابنُ زيادٍ إليها واليه ساعة ثمّ قالَ: عجباً للرّحمِ! واللهِّ إِنِّي لأظنُّها ودّتْ أنِّي قتلتُها معَه، دَعُوه فإِنِّي أراه لمِا به.

ثم أقبل الإمام على بن زياد، فقال: أبالقتل تهددني يا ابن زياد؟ أما علمت أن القتل لنا عادة وكرامتنا الشهادة؟

فقال ابن زياد: دعوه ينطلق مع نسائه، أخرجوهم عني، فأخرجوهم إلى دار في جنب المسجد الأعظم، فقالت زينب: لا يدخلن علينا عربية إلا أم ولد أو مملوكة، فإنهن سبين وقد سبينا(10).

الركب الحسيني في زنزانة ابن زياد

أمر ابن زياد بسجن السبايا في سجن على بُعدٍ من القصر ومن المسجد، فكان الحاجب الذي يسوقهم يقول: فما مررنا بزقاق إلا وجدناه امتلأ رجالاً ونساءً يضربون وجوههم ويبكون.

وبعد وقوع المحاورات الجريئة بين السبايا وابن زياد، خشي ابن زياد انقلاب الأمر عليه، بعدما بدأ الناس يلومونه، فأمر بردهم إلى حبسٍ مطبق في دار جانب المسجد أو في القصر، وضيق عليهم بحيث لا يمكن أن يدخل عليهم داخل باختياره.

لا يجهز الإمام إلاّ الإمام

إن طريقة دفن الإمام الحسين (عليه السلام) وأهل بيته وأصحابه المستشهدين بين يديه (صلوات الله عليهم أجمعين) على النحو والتوزيع المعروف من خلال قبورهم، ينفي أن يكون بني أسد من أهل الغاضرية، وهم من أهل القرى الذين لم يشهدوا المعركة قد حققوا ذلك بدون مرشد عارف تماماً بهؤلاء الشهداء، خصوصاً وأن الرؤوس الشريفة كانت قد قطعت، إذاً كان لا بدّ من مرشد مطّلع يعرف صاحب كل جسد، وإلا لما كان هذا التوزيع المدروس بين القبور.

وإذا كان الإمام لا يلي أمره إلا إمام مثله، فإن جسد الإمام الحسين (عليه السلام) قد واراه إمام، والإمامة من بعده قد صارت إلى ولده الإمام زين العابدين (عليه السلام)، وبذلك يكون هو المرشد الذي ساعد بني أسد على دفن الشهداء.

ولكن كيف حصل ذلك وقد كان الإمام زين العابدين (عليه السلام) محبوساً في الكوفة؟

كان خروج الإمام زين العابدين (عليه السلام) من محبسه بمعجزة أوصلته إلى كربلاء، فدفن جسد أبيه والسلطة لا تعلم، ولكن خروجه لم يكن في اليوم الحادي عشر حتماً، لأنه لم يدخل إلى الحبس إلا في اليوم الثاني عشر، إذ أن عمر بن سعد لم يدخل الكوفة بالسبايا إلا صبيحة اليوم الثاني عشر، وإذا علمنا أن جل نهار الثاني عشر قد انقضى على بقية أهل البيت (عليهم السلام) في عرضهم على الناس، وعلى ابن زياد، فإنه يتضح لنا أن ابن زياد أمر بحبسهم عصر أو أواخر نهار اليوم الثاني عشر، ثم استدعاهم ثم أعادهم إلى الحبس مرة أخرى، وبذلك تكون أول ليلة لهم في السجن حيث بقوا فيه إلى اليوم الذي أرسلهم ابن زياد فيه إلى يزيد.

وإذا كان قد خرج من حبسه دون أن ينتبهوا إليه، نستنج أن خروجه كان من الحبس في وقتٍ كان قد فرغ الطاغية من التحقيق معهم فلا يعود إلى استدعائهم، أي في وقت كان الإمام زين العابدين (عليه السلام) قد اطمأن إلى انه إذا غاب عن الأنظار فإنه لا يفتقد في الفترة التي يشتغل فيها بدفن أبيه (عليه السلام) وأنصاره رضوان الله تعالى عليهم.

وعليه فالمرجح أنه (عليه السلام) كان قد خرج إلى كربلاء بالأمر المعجز في يوم الثالث عشر لدفن الأجساد.

وبالعودة إلى كربلاء ومصارع آل بيت النبوة، فقد خرجت نساء بني أسد إلى حيث الجثث، باكيات ناحبات، وقلن لأزواجهن: بماذا تعتذرون من رسول الله (صلى الله عليه و اله)، وأمير المؤمنين (عليه السلام)، وفاطمة الزهراء (عليها السلام)، إذا أوردتم عليهم حيث إنكم لم تنصروا أولاده ولا دافعتم عنهم بضربة سيف ولا بطعنة رمح ولا برمية سهم؟!

فقالوا لهن: إنا نخاف من بني أميّة!

فبقيت النسوة يجلن حولهم ويقلن لهم: إن فاتتكم نصرة تلك العصابة النبوية، فقوموا الآن إلى أجسادهم الزكية فواروها…

قالوا: نفعل ذلك..

وصار همهم أولاً أن يواروا جثة الإمام الحسين (عليه السلام) ثم الباقين، فجعلوا ينظرون الجثث في المعركة، فلم يعرفوا جثة الإمام من بين تلك الجثث لأنها بلا رؤوس وقد غيرت الشمس لونها، فبينما هم كذلك وإذا بفارس أقبل إليهم حتى إذا قاربهم قال: ما بكم؟

قالوا: إنا أتينا لنواري جثة الإمام الحسين (عليه السلام) وجثث ولده وأنصاره ولم نعرف جثته.

ثم قال لهم: أنا أرشدكم..

فنزل عن جواده، وجعل يتخطى القتلى، فوقع نظره على جسد الإمام الحسين (عليه السلام) فاحتضنه، وهو يبكي ويقول: يا أبتاه! بقتلك قرّت عيون الشامتين! يا أبتاه! بقتلك فرحت بنو أميّة! يا أبتاه! بعدك طال حزننا! يا أبتاه! بعدك طال كربنا!

ثم مشى قريباً من محل جثته فأهال يسيراً من التراب، فبان قبر محفور ولحد مشقوق، فأنزل الجثة الشريفة وواراها في ذلك المرقد الشريف، فبسط يديه تحت جسد الإمام الحسين (عليه السلام): بسم الله، وفي سبيل الله، وعلى ملّة رسول الله، صدق الله ورسوله، ما شاء الله، لا حول ولا قوة إلا بالله العظيم…

وأنزله لحده، ولم يشاركه بنو أسد فيه، وقال لهم: إن معي من يعينني. ولما أقره في لحده، وضع خدّه على منحره الشريف قائلاً: طوبى لأرض تضمنّت جسدك الطاهر، فإن الدنيا بعدك مظلمة، والآخرة بنورك مشرقة، أما الليل فمُسهد! والحزن سرمد! أو يختار الله لأهل بيتك دارك التي أنت بها مقيم! وعليك مني السلام يا ابن رسول الله ورحمة الله وبركاته.

ثم كتب على القبر: هذا قبر الحسين بن عليّ‏ِ بن أبي طالب الذي قتلوه عطشاناً غريباً.

ثم مشى إلى عمّه العباس (عليه السلام) فراه بتلك الحالة التي أدهشت الملائكة بين أطباق السماء! وأبكت الحور في غرف الجنان! ووقع عليه يلثم نحره المقدس قائلاً: على الدنيا بعدك العفا يا قمر بني هاشم، وعليك مني السلام من شهيد محتسب ورحمة الله وبركاته.

وشق له ضريحاً، وأنزله وحده كما فعل بأبيه، وقال لبني أسد: إن معي من يُعينني!

ثم عطف على جثث الأنصار وحفر حفيرة واحدة ووارهم فيها، إلا حبيب بن مظاهر حيث أبى بعض بني عمِّه ذلك، ودفنوه ناحية عن الشهداء.

فلمّا فرغ الأسديون من مواراتهم قال لهم: هلمّوا لنوار جثة الحرّ الريا حي. فمشوا معه حتى وقف عليه فقال: أما أنت فقد قبل الله توبتك وزاد في سعادتك ببذلك نفسك أمام ابن رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم). وأراد الأسديون حمله إلى محل الشهداء فقال (عليه السلام): لا، بل في مكانه واروه.

فلما فرغوا من مواراته، ركب الإمام زين العابدين (عليه السلام) جواده، فتعلق به الأسديون قائلين: بحق من واريته بيدك؟ من أنت؟.

فقال (عليه السلام): أنا حجة الله عليكم، أنا علي بن الحسين (عليه السلام)، جئت لأواري جثّة أبي ومن معه من إخواني وأعمامي وأولاد عمومتي وأنصارهم الذين بذلوا مهجهم دونه، وأنا الآن راجع إلى سجن بن زياد لعنه الله، وأما انتم فهنيئاً لكم، لا تجزعوا ولا تضاموا فينا.

عبد الله الأزدي وانتفاضته الخالدة

قال: ثم خرج ابن زياد لعنه الله ودخل المسجد، فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: الحمد لله الذي أظهر الحق وأهله، ونصر أمير المؤمنين يزيد وأشياعه، وقتل الكذاب ابن الكذاب!!

قال: فما زاد على هذا الكلام شيئا حتى وثب إليه عبد الله بن عفيف الأزدي، وكان من رؤساء الشيعة وخيارهم، وكانت عينه اليسرى قد ذهبت يوم الجمل، والأخرى يوم صفين، وكان لا يكاد أن يفارق المسجد الأعظم يصلي فيه إلى الليل، ثم ينصرف إلى منزله، فلما سمع مقالة اللعين وثب إليه قائماً وقال: يا ابن مرجانة، إن الكذاب وابن الكذاب أنت وأبوك، ومن استعملك وأبوه، يا عدو الله، أتقتلون أبناء خير النبيين وتتكلمون بهذا الكلام على منابر المسلمين؟

فغضب ابن زياد، ثم قال: من المتكلم؟

فقال: أنا المتكلم، يا عدو الله، أتقتل الذرية الطاهرة التي أذهب الله عنها الرجس في كتابه، وتزعم أنك على دين الإسلام؟ واغوثاه، أين أبناء المهاجرين والأنصار، ينتقمون منك و من طاغيتك اللعين بن اللعين على لسان محمد نبي رب العالمين؟

قال: فازداد غضب عدو الله، ثم قال: علي به، فوثب إليه الجلاوزة، فأخذوه فنادى بشعار الأزد وعبد الرحمن بن مخنف الأزدي في المسجد، فقال: ويحك أهلكت نفسك وقومك، وكان في الكوفة يومئذ سبعمائة مقاتل من الأزد، فوثبوا إليه وانتزعوه منهم، وانطلقوا به إلى منزله، ونزل ابن زياد عن المنبر ودخل القصر، ودخل عليه أشراف الناس، فقال: أرأيتم ما صنع هؤلاء القوم؟

فقالوا: قد رأينا أصلح الله الأمير، وإنما الأزد فعلت ذلك فشد يدك على ساداتهم فهم الذين استنقذوه من يدك، فأرسل ابن زياد إلى عبد الرحمن بن مخنف الأزدي فأخذه، وأخذ معه جماعة من أشراف الأزد فحبسهم، وقال: لأخرجتم من يدي أن تأتوني بعبد الله بن عفيف، ثم دعا بعمرو بن الحجاج الزبيدي ومحمد بن الأشعث وشبث بن ربعي وجماعة من أصحابه، وقال لهم: اذهبوا إلى هذا الأعمى الذي أعمى الله قلبه كما أعمى بصره فائتوني به.

وانطلقت رسل اللعين، يريدون ابن عفيف، وبلغ ذلك الأزد فاجتمعوا، واجتمع معهم قبائل اليمن ليمنعوا صاحبهم عبد الله بن عفيف. وبلغ ذلك ابن زياد فجمع قبائل مضر وضمهم إلى محمد بن الأشعث، وأمره بقتال القوم.

قال: فأقبلت قبائل مضر نحو قبائل اليمن فاقتتلوا قتالاً شديداً، وبلغ ذلك ابن زياد فأرسل إلى أصحابه يوثبهم ويضعفهم، فأرسل إليه عمرو بن الحجاج يخبره باجتماع اليمن عليهم، وبعث إليه شبث بن ربعي: أيها الأمير، إنك أرسلتنا إلى اسود الآجام فلا تعجل.

قال: واشتد قتال القوم حتى قتل بينهم جماعة من العرب.

ووصل القوم إلى دار عبد الله بن عفيف، فكسروا الباب واقتحموا عليه، وصاحت ابنته: يا أباه، أتاك القوم من حيث تحذر.

فقال: لا عليك يا ابنتي ناوليني سيفي، فناولته السيف، فأخذه وجعل يذب عن يمينه وشماله بسيفه ويقول:

أنا ابن ذي الفضل عفيف الطاهر عفيف شــيخي وابــن أم عامـــر

كــم دارع مـن جمعكــم وحاســـــر وبطــــــــل جـــندلـتـه معـــــــاور

وجعلت ابنته تقول: القوم عن يمينك، القوم عن يسارك، يا ليتني كنت رجلاً فأقاتل بين يديك هؤلاء الفجرة، قاتلي العترة البررة.

وجعل القوم يدورون حوله عن يمينه وشماله ومن ورائه وهو يذب عن نفسه بسيفه وليس أحد يقدم عليه، ثم تكاثروا عليه من كل ناحية حتى أخذوه.

فقال جندب بن عبد الله الأزدي صاحب رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم): إنا لله وإنا إليه راجعون، اخذ والله عبد الله بن عفيف، فقبح العيش من بعده، وقام ثم قاتل من دونه فاخذ أيضاً، وانطلق بهما إلى ابن زياد لعنه الله وعبد الله يقول:

اقسم لو يكشف لي عن بصري ضاق عليكم موردي ومصدري

فلما ادخلا على ابن زياد قال لعبد الله: الحمد لله الذي أخزاك.

قال عبد الله: وبما أخزاني، يا عدو الله؟

والله لو يكشف لي عن بصري ضاق عليكم موردي ومصدري

فقال له ابن زياد: يا عدو نفسه، ما تقول في عثمان؟

فقال: يا ابن مرجانة، ويا ابن سمية الزانية، ما أنت وعثمان أساء أم أحسن، أصلح أم أفسد؟ والله تعالى ولي خلقه، يقضي بينهم وبين عثمان بالعدل، ولكن سلني عنك، وعن أبيك، وعن يزيد وأبيه.

فقال ابن زياد: لا أسألك عن شيء إلا أن تذوق الموت.

فقال ابن عفيف: الحمد لله رب العالمين، أما إني كنت أسأل ربي أن يرزقني الشهادة قبل أن تلدك مرجانة، وسألته أن يجعل ذلك على يد ألعن خلق الله وأبغضه إليه، فلما ذهب بصري أيست من الشهادة، والآن الحمد لله الذي رزقنيها بعد اليأس منها، وعرفني الإجابة منه لي في قديم دعائي.

فقال ابن زياد لعنه الله: اضربوا عنقه، فضربت وصلب رحمه الله.

ثم دعا ابن زياد لعنه الله بجندب بن عبد الله (رضي الله عنه)، فقال: يا عدو الله، ألست صاحب علي بن أبي طالب يوم صفين؟

قال: نعم، وما زلت له ولياً، ولكم عدواً ولا أبرأ من ذلك إليك ولا أعتذر ولا أتنصل.

فقال ابن زياد: أما إني أتقرب إلى الله بدمك.

فقال جندب: والله ما يقربك دمي إلى الله تعالى، ولكن يباعدك منه، وبعد فلم يبق من عمري إلا أقله، وما أكره أن يكرمني الله بهوانك.

فقال لعنه الله: أخرجوه عني فإنه شيخ قد خرف وذهب عقله، فاخرج وخلي سبيله.

ثم دعا بعبد الرحمن بن مخنف الأزدي، فقال: ما هذه الجماعة على بابك؟

فقال: ليس على بابي جماعة وقد قتلت صاحبنا، وأنا لك سامع مطيع وإخوتي جميعاً، فسكت ابن زياد، وخلى سبيله وسبيل أصحابه.

وقد حاول ابن زياد كسب مودّة الأزد وبعض العشائر ذات الثقل الاجتماعي في الكوفة، وعدم إثارتها ضده بعدم مقتل بعض وجوههم الموالية لآل البيت (عليهم السلام)(11).

ابن زياد يأمر بتحرك القافلة صوب الشام

لمّا وصل كتاب يزيد بن معاوية إلى ابن زياد، يأمره فيه بحمل رأس الإمام الحسين (عليه السلام) إليه ورؤوس من قُتل معه، وبحمل أثقاله ونسائه وعياله.

ولما فرغ القوم من التطوف بالرأس المقدس، دفعه ابن زياد إلى زحر بن قيس، ودفع إليه رؤوس أصحابه، وسرحه إلى يزيد بن معاوية، وأنفذ معه أبا بردة بن عوف الأزدي، وطارق بن أبي ظبيان، في جماعة من أهل الكوفة حتى وردوا بها على يزيد بدمشق.

وعن الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) قال: قال لي أبي محمد بن علي: سألتُ أبي علي بن الحسين عن حمل يزيد له، فقال: حملني على بعير بغير وطاء! ورأس الحسين (عليه السلام) على عَلم! ونسوتنا خلفي على بغال… إن دمعت من أحدنا عين قُرع رأسه بالرمح! حتى إذا دخلنا دمشق صاح صائح: يا أهل الشام هؤلاء سبايا أهل البيت المعلون!

وبذلك تكون مدة بقاء الركب الحسيني في الكوفة اثني عشر يوماً(12).

إشارات مضيئة في مواقف بطولية

(1) رباطة الجأش والإقدام والشجاعة التي يتمتع بها أهل البيت (عليهم السلام) في مجموعة من الردود الصاعقة التي صدحت عنهم في أقوالهم، منها على لسان السيدة زينب (عليها السلام) موجهة كلامها إلى أعتى طاغية: وإنما يفتضح الفاسق ويكذب الفاجر، وفي قول السيدة أم كلثوم: يا ابن زياد أعد لجده جواباً فإنه خصمك غداً.

(2) التوكل المطلق بالله سبحانه في كل صغيرة وكبيرة يقدمون عليها، إذ أنه من كبر الخالق في ذاته صغر ما دونه أمامه، لذا فإنهم لا يعبئون من الحاكم مهما تفرعن وتجبر، ولا يخافون في الله لومة لائم.

(3) تجلي مبدأ التوحيد في موقف السيدة زينب (عليها السلام) وردها على ابن زياد: ما رأيتُ إلا جميلا. ولم تقل ما رأيت في كربلاء إلا جميلا! بل صرّحت بإطلاق رؤية الجميل! أي أنها منذ أن رأت لم ترَ من الله إلاّ جميلا!! في كربلاء وقبلها وبعدها، وفي هذا غاية الرضا بقضاء الله، وغاية الشكر له، والنظر إلى عواقب الأمور دون الغرق في تفاصيل الراهن.

(4)التضحية بالغالي والنفيس في سبيل المبدأ والقيادة الرسالية الحكيمة، فقد تجسد هذا مراراً عند السيدة زينب (عليها السلام) في مواصلتها إلقاء نفسها إلى الموت والقتل دفاعاً عن حجة الله على عباده الإمام زين العابدين (عليه السلام).

(5) تبيان أن حرمة الحسين (عليه السلام) هي ذاتها حرمة الرسول الأعظم، فقاتله قاتل لرسول الله، وهو خصمه يوم القيامة. هذا ما أكده الإمام نفسه في خطبه ومواعظه قبل وإبان الحرب، وما أكده السجاد والحوراء في أماكن متعددة.

(6) نسف مبدأ الجبرية الذي أشاعه الأمويون وكان قد أصر ابن زياد على ترسيخه في أذهان الناس في المجلس، في قوله للسيدة زينب (عليها السلام): كيف رأيتِ فعل الله بأهل بيتك؟ وفي قوله للإمام زين العابدين (عليه السلام): أليس قد قتل الله علي بن الحسين؟ والمقصود بالمنطق الجبري: أن الأمويين كانوا يريدون أن يوهموا الناس بشبهة أن كل ما يجري من وقائع وأحداث وظلم وقتل هو تجسيد لإرادة الله وتحقيق لأمره، فلا يحق لأحد أن يعترض على إرادته. وفي مواجهة هذا المنطق حرص أهل البيت (عليهم السلام) على نشر هذه العقيدة وهي أن كل ما يجري على يد الطغاة الظالمين من قتل وظلم وجور وفساد لا يمثل إرادة الله، لأن الله تعالى فيما صرّح به في كتابه الحكيم لا يريد الظلم، ولا الفساد، ولا الجور، والله تبارك وتعالى قد دعا عباده المؤمنين إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومنع الظالمين من أن يظلموا.

وقد ردّت زينب (عليها السلام) على دعوى ابن زياد أن ما جرى على أهل بيتها هو من فعل الله سبحانه بقولها: هؤلاء قوم كتب الله عليهم القتل، أي على نحو الأمر الشرعي في القيام ضد الحكم الأموي، وإن أدى هذا القيام إلى استشهادهم، فبرزوا إلى مضاجعهم امتثالاً للأمر الشرعي.

(7)التعالي والتشفي والتهكم هي من علامات الطغاة دائماً، وقد تجلّى ذلك في مجلس ابن زياد في قوله مستنكراً على الإمام زين العابدين (عليه السلام) جرأته وشجاعته في الرد عليه قائلاً: وبك جرأة لجوابي؟ لقد شفى الله نفسي من طاغيتك والعصاة من أهل بيتك!! وهو أسلوب دنيء يلجأ إليه عادة أولئك الذين ليس لهم نصيب في العلم والفهم والحجة والبرهان.

(8) خطب آل الرسول في طرقات الكوفة والشام تتجلّى فيها معطيات الرفض للظلم والحقد والطغيان الأموي، والحقيقة التي لا غبار عليها أن قافلة النور هي رفض الضغائن في مسير الظعائن.

الهوامش

(1) المصادر: تاريخ ابن عساكر، شرح المواهب اللدنية للزرقاني، صحيح البخاري، المعجم الكبير، مجمع الزوائد، الصواعق المحرقة، تاريخ الخلفاء، ينابيع المودة، تاريخ ابن عساكر، تهذيب التهذيب، الحدائق الوردية، فتوح ابن الأعثم الكوفي، الكشف والبيان للثعلبي، دلائل النبوة، ذخائر العقبى، تاريخ مدينة دمشق.

(2) سورة مريم: الآيتان 89 و 90.

(3) أي قوله تعالى في سورة النحل: 1: (أتى أمر الله فلا تستعجلوه)، وقوله تعالى في سورة ص: 88: (ولتعلمن نبأه بعد حين).

(4) كتاب الملهوف للسيد بن طاووس، ص193- 194.

(5) الحقد والعداوة يقال: طلب بذحله، أي بثأره. الصحاح.

(6) الدعموص: دويبة تغوص في الماء. الصحاح.

(7) سورة الحديد: الآية 21.

(8) سورة النور: الآية 40.

(9) سورة الزمر: الآية 42.

(10) الملهوف على قتلى الطفوف: 194 – 202.

(11) الملهوف على قتلى الطفوف: 203 – 207.

(12) كامل الزيارات ومقتل الحسين (عليه السلام) للخوارزمي.

(موقع يا زهراء)

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

*