ضغط العمل المتواصل قد يتحول لإنهاك تام يدمر حياتك
الحكمة – متابعة: ينبغي عليك ألا تستهين بالقوة الإيجابية الناتجة عن تعرضك لدرجة معينة من الضغوط في حياتك، لكن السر في ذلك هو معرفة النقطة التي تتحول فيها تلك الضغوط إلى درجة الإنهاك الذي يستنفد كل طاقتك.
اعتادت جينيفر ويلكر أثناء عملها في قسم التمريض الخاص بالأطفال حديثي الولادة على أن تواصل مهام عملها بكفاءة تحت الضغوط المختلفة.
وعلى عكس ما هو متوقع من سيطرة ضغط العمل عليها أثناء التعامل مع الأطفال حديثي الولادة ممن يعانون من مشكلات صحية، تمكنت ويلكر من التعامل مع أكثر اللحظات الحرجة في حياتها المهنية بذكاء، والخروج بسلاسة من أكثر المواقف تعقيدا.
وقد أرجعت تلك الكفاءة إلى الخصائص الإيجابية التي اكتسبتها من العمل تحت ضغط..
وتقول ويلكر إن التحكم في الضغوط النفسية الفطرية التي نشأت بسبب مهام عملها تلك، أدى إلى تحسين قدرتها على الإنتاج، وإنجاز العمل. وكان ذلك يمثل حدا دقيقا بين القدرة على التحكم في تلك الضغوط الداخلية، وبين تجاهلها بشكل تام.
وتضيف ويلكر، التي اعتادت على العمل لبعض الوقت في قسم المشرحة بالمستشفى، قائلة: “كنت مميزة جدا في عملي، فقد أصبحت أكثر هدوءا وتبلدا في المشاعر، وذلك لأنه يجب عليك في لحظة معينة أن تنسحب عاطفيا من الموقف الذي أنت فيه”.
لكن تلك الضغوط المتواصلة في عملها خرجت عن مسارها، وتمكنت من السيطرة عليها، فلم تعد قادرة على السيطرة عليها أو حتى تجاهلها.
وقالت ويلكر في تعليقها على ذلك الأمر: “لقد شهدت وفيات عديدة، وأناس في أسوأ الظروف، وكان كل ذلك يتراكم في داخلي”.
وعلى عكس تجربتها السابقة تماما في تحمل الضغوط المختلفة، أصبحت ويلكر تعاني مما يعرف بـ “الإجهاد المزمن”، والذي تظهر أعراضه في كل شيء تقريبا، بدءا من نقص كفاءة جهاز المناعة، ووصولا إلى مشكلات متعلقة بالنوم.
وفيما بعد، افتتحت ويلكر متجرا لبيع المجوهرات كوسيلة علاجية بعيدا عن متطلبات مهنة التمريض.
ومنذ ثلاث سنوات مضت، استقالت من عملها في التمريض بسبب تدهور حالتها الصحية، وتفرغت للعمل الدائم في متجرها لبيع الذهب.
وفي الواقع، يمكن لأي شيء أن يصب في مصلحتك إلى أن يصل إلى مرحلة يتحول فيها إلى عكس ذلك.
فعلى الرغم من فائدة الأوقات التي تواجه فيها ضغوط العمل في تقوية قدرتك على التركيز في مهامّك، وتحسين كفاءتك، يمكن للإجهاد المزمن أن يؤثر سلبا على جودة أدائك للعمل، فيما يعني المخاطرة بوظيفتك، وشؤونك العامة خارج العمل أيضا.
ومن الصعب تحديد اللحظة التي يصل فيها ضغط العمل أو الإجهاد في العمل إلى مرحلة فقدان السيطرة على النفس، ومن ثم البدء في المعاناة من آثار الإنهاك التام.
ففي حين أن الإجهاد في العمل يرتبط بالإرهاق العاطفي أو الذهني، ويصيب الشخص من حين لآخر، فإن درجة الإنهاك التام هي حالة من الإرهاق المتواصل جسديا، وذهنيا، وعاطفيا، يسببها ذلك الإجهاد المزمن. وتتكون حالة الإنهاك التام عبر فترة زمنية طويلة، ويكون الشفاء منها أمرا ليس سهلا.
ويقول ستيفانو بيتي، أحد المساهمين في شركة آستيريس، وهي إحدى شركات التطوير التنظيمي في مدينة روما: “في الواقع، يعاني الكثيرون من النتائج المترتبة على تظاهرهم بعدم المبالاة بشأن الضغوط التي تواجههم في العمل، لكنهم عادة لا يصرحون بذلك.”
وقد أظهر استبيان خاص بصحة وسلامة القوى العاملة في القطاع الإداري بالمملكة المتحدة أن ما يزيد عن 488 ألف شخص أقروا بمعاناتهم من الأمراض المتعلقة بضغوط العمل، وهو ما يمثل 37 في المئة من نسبة الأمراض المرتبطة بالعمل.
استكشاف نقطة التحول
وتفتقر كل محاولات التوصل إلى اللحظة التي يتحول عندها ضغط العمل من تأثيره الإيجابي إلى التأثير السلبي إلى الدقة حتى الآن. ويضيف بيتي قائلا: “تدل مرحلة الإجهاد المزمن على أنك على وشك الوصول إلى نقطة التحول تلك، والتي ستؤثر سلبا على عملك”.
ويوضح بيتي قائلا: “يختلف هذا عن الإجهاد المترتب على الأعمال المرهقة للأعصاب، أو أكثر أوقات العام عملا، والتي تقل حدتها في نهاية الأمر بدون ترك آثار سلبية على الشخص”.
ويضيف: “فما نحن بصدد الحديث عنه هو الإجهاد طويل المدى، والذي سينتهي به المطاف إلى التأثير السلبي على الصحة الجسدية والذهنية، بما يشمله ذلك من زيادة سرعة نبضات القلب، ومشكلات في الهضم، إلى جانب صعوبة اتخاذ القرارات”.
وهذا الأمر لا يكتشفه معظم الناس إلا بعد فوات الأوان. ويعلق بيتي أيضا في هذا الصدد بقوله: “يميل الكثيرون إلى الاستهانة بحالات الإجهاد طويلة المدى.”
إذاً، فما السبيل إلى معرفة نقطة التحول تلك بمجرد الدخول في مرحلة الإجهاد المزمن؟ ربما تحتاج الإجابة عن هذا السؤال إلى مزيد من الأبحاث.
ويقول رون بونستيتر، نائب رئيس البحث والتطوير في مؤسسة “تي تي آي ساكسيس إنسايت” التي تختص بدراسة كفاءة الأداء في أماكن العمل، ومقرها مدينة سكوتسديل بولاية أريزونا بالولايات المتحدة الأمريكية: “تؤدي الخبرة السابقة دورا كبيرا في كيفية التعامل مع إجهاد العمل، واستنباطك لنقطة التحول الخاصة بك.”
ويفسر بونستيتر ذلك بقوله: “قد يؤدي التعايش مع الإجهاد عبر فترة طويلة من الزمن إلى ضمور في قدرة الجسد على السيطرة على الانفعالات المفاجئة التي تحدث نتيجة للمواقف المثيرة للانفعال.”
وتوصل البحث الذي أجرته مؤسسة “تي تي آي ساكسيس إنسايت” إلى أن مقدار تأثير القلق على العمال يتوقف على خبرتهم السابقة، ويمكن لأعراضه أن تظهر على الجسد أو العاطفة أو الإدراك أو الجانب السلوكي.
ويقول بونستيتر: “نحن لا ننحي الضغوط جانبا أثناء العمل، فلدينا جميعا مشاعر تتراكم لدينا من مختلف جوانب الحياة، ولا يمكن التنبؤ بردود فعلنا عند حدوث مواقف تستفز تلك المشاعر.”
ويعتقد ألان ليفين، مؤسس منظمة “كير فور لويرز” المسؤولة عن الأنشطة العلاجية للمحامين في ولاية شيكاغو، أنه من الأسهل حاليا اكتشاف نقطة التحول بمقارنة الوضع الحالي بالوضع السابق، والذي يحدث على مدار شهور أو حتى سنوات.
ويضيف ليفين أن تلك الحالة ليست مجرد انفعال شخص على زملائه في العمل، لكنها حالة تتطور تدريجيا. ويعتقد أن فكرة نقطة التحول تلك “تمثل اختصارا لما هو في الواقع عملية تعتمد على الخبرة والاستيعاب.”
العلاج
يؤكد بعض الخبراء على إمكانية استعادة الكفاءة البشرية مرة أخرى، سواء على المستوى الشخصي أو المهني، حتى بعد الوصول إلى نقطة التحول السلبية تلك.
ويضيف ليفين أنه في حين سمح لبعض عملائه بتغيير وظائفهم بسبب حالة الإنهاك التام التي تعرضوا لها، لم يضطر آخرون إلى تغيير وظائفهم أو أدوارهم فيها. بل ازدادت قدرة هؤلاء على إدارة عملهم، ويرجع السبب في ذلك إلى استخدامهم لتقنيات تساعدهم على التغلب على ضغط العمل.
وقد استغرق ليفين بعض الوقت لكي يقنع عملاءه بأن “الإجهاد هو حالة إدراكية فقط لا غير. فإذا تغيرت نظرتك للشيء الذي يضعك تحت ضغط، سيتغير حتما تأثير هذا الشيء عليك” على حد تعبيره.
ويضيف: “الإجهاد هو شعور يتولد بداخلنا نتيجة إحساسنا بوجود احتياج أو إلزام معين، لا نملك الموارد الكافية لتحقيقه”.
ويتابع بقوله إن العديد من المحامين الذين أتوا لاستشارته “قرروا في النهاية البقاء في نفس أماكن عملهم”.
وبما أنه متخصص في العلاج النفسي في الأساس، فهو يستخدم تقنيات العلاج السلوكي الإدراكي من أجل مساعدة الناس على فهم وقت وكيفية حدوث تشوه في إدراكهم لحقيقة ما يمرون به.
ويوضح ليفين أنه بعدما تُستبعد تلك الأفكار السلبية من عقولهم، ويدركون تلك “التشوهات المعرفية” التي تحدث لهم، يصبح في مقدور الكثير منهم مواصلة العمل وتجاوز هذه الضغوط، من خلال استخدامهم لرؤيتهم الشخصية المتعلقة بإدراكهم لتجاربهم السابقة.
وهناك آخرون يستفيدون حتما من التعرض لضغوط العمل، ويواصلون حياتهم بعد ذلك وفقا لتلك الاستفادة.
وفي هذا الصدد توضح ويلكر أنها تمكنت من الاستفادة من الضغوط أثناء عملها كممرضة في إدارة عملها الحالي في تجارة المجوهرات، كما استغلت هذا الشعور “كدافع” لها لإنجاز مهامّها اليومية.
وتضيف: “أهم ما في الأمر هو ترتيب الأولويات حتى نضع في مقدمتها أكثر المهام ضرورة. كما يتعلق الأمر باستخدام ذلك الضغط في العمل كدافع لك.”
ألينا ديزيك
صحفية-بي بي سي