الحكمة – متابعة: في يومٍ ما من أيام المستقبل، ربما ستحافظ جرعة من الفيروسات التي تعرف باسم “فيروسات النينجا” على حياتك.
كان إيرنيست هانكين يدرس حالات تفشّي وباء الكوليرا على ضفاف نهر الغانج في الهند في أوائل تسعينيات القرن التاسع عشر. وبينما كان السكان المحليون يلقون موتاهم في المياه (بحسب العقيدة الهندوسية)، كان من المفترض أن يتحول النهر بسرعة إلى مرتع سامّ لانتشار ذلك المرض، خاصة مع تفشي الوباء بسرعة في البلدات والقرى الواقعة في الوادي.
كان هانكين قد شهد ذلك بنفسه في أوروبا حيث أصبحت موارد المياه مصدراً لانتشار الجراثيم المسبِّبة لأمراض مُعدية. غير أن المرض، هنا على ضفاف نهر الغانج، ظل أقل خطرا نسبياً؛ فقد بدت الأوبئة الجديدة هزيلة لتخمد في النهاية، بدلا من أن تنتشر كالنار في الهشيم.
واستنتج هانكين بأن شيئاً غامضاً يوجد في الماء مما يقضي على الجراثيم قبل أن تعيث فساداً. لكن مرّت 20 سنة أخرى قبل أن يشير عالم فرنسي إلى أن الملاك الحارس في هذه الحالة هو نوع من الفيروسات التي تسمى “العاثيات”، وهي فيروسات غير ضارة للبشر، ولكنها مميتة لجراثيم الكوليرا. ويبدو أن هذه الفيروسات كانت تعقم الماء قبل أن تنتقل عدوى الكوليرا إلى السكان المحليين الذين يستحمون في النهر.
وبعد أن أهمل العلماء تلك الفيروسات لوقت طويل، والتي يُطلق عليها البعض اسم “فيروسات النينجا”، يُعتقد الآن أنها قد تنقذ أرواح الملايين في المستقبل، لبقاع تتخطى حدود نهر الغانج، فهي تقدّم لنا ترسانة جديدة لأسلحة موجهة ضد أمراض فتاكة.
ولا يمكن لأي نهج جديد لعلاج الالتهابات الجرثومية أن يصلنا بسرعة كافية. فقد اعتمدنا، لعقود من الزمن، على المضادات الحيوية مثل البنيسلين. فما لم تكن صغيراً جداً أو طاعناً في السن أو ضعيف البنية، فلا داعي لأن تقلق عند اصابتك بجرح بسيط، أو إصابتك بكدمة أو إجراء عملية بسيطة. غير أن الانتشار الواسع لاستعمال هذه المضادات الحيوية جعل الجراثيم تطور دفاعات جديدة ضدها، وأصبحت العواقب وخيمة.
وحالياً، تتسبب هذه الجراثيم “المقاومة للمضادات الحيوية” فعلاً في وفاة مئات الآلاف من البشر سنوياً – لكن هذا الرقم قد يتصاعد إلى 10 ملايين بحلول عام 2050، استناداً إلى تقرير نشرته الحكومة البريطانية والمؤسسة الخيرية المختصة بالطب الحيوي، “صندوق ويلكم” في عام 2014.
“ذلك هو عدد المتوفين بمرض السرطان في وقتنا الحاضر، ولن يكون هؤلاء فقط من الطاعنين في السنّ – بل أي شخص. لذا، فإن جروحاً طفيفة مثل الخدش، أو إجراء عمليات معينة، مثل الولادة، أو عمليات استبدال مفصل الورك، ستواجه احتمال تعريضنا إلى أصناف من الالتهابات التي تسببها الجراثيم المقاومة للمضادات الحيوية”، حسبما تقول هيذر هيندريكسن، من جامعة ماسي بمدينة أوكلاند في نيوزيلندا.
وتضيف هيندريكسن: “نُعاد إلى عهد ما قبل المضادات الحيوية حيث كان معدل العمر أقصر، والسبب هو أننا لا نستطيع التغلب على الالتهابات الجرثومية.”
إذا أردنا تفادي تلك الرؤية السوداوية للمستقبل، فسنحتاج إلى حلول جذرية – وتعتقد هنيدريكسن أننا بحاجة إلى إعادة النظر في تلك الفيروسات التي أنقذت القرويين على ضفاف نهر الغانج. وشرحت هيندريكسن بحثها في الملتقى الذي نظمته “بي بي سي فيوتشر” بعنوان “أفكار تغيير العالم” في سيدني يوم 15 نوفمبر/تشرين الثاني 2016.
ومقارنة بالكائنات الحية (المتعضّيات) الأكثر تطوراً، تعتبر العاثيات متواضعة بشكل مدهش: فهي تمثل حزمة صغيرة من البروتينات التي يمكنها اختراق البكتيريا والجراثيم واختطاف محركاتها العاملة لخلق مئات من النسخ المشابهة للعاثيات؛ ثم تنطلق هذه من الخلية البكتيرية الميتة. ويستعمل الجسم البشري فعلاً هذه الطريقة في دفاعاته الطبيعية، فأنوفنا مليئة بعاثيات يمكنها القضاء على الجراثيم الموجودة في الهواء الذي نستنشقه.
وهناك الكثير من الأسباب التي تجعل مستقبل العاثيات مشرقاً للأطباء الآملين في القضاء على الجراثيم المقاومة للمضادات الحيوية. أحد الأسباب هو أنها تتواجد بوفرة. وتشير هيندريكسن إلى أن عدد العاثيات يفوق البكتيريا بنسبة عشرة إلى واحد، مما يجعلها وفيرة بشكل مذهل لعلاجات جديدة محتملة.
وذكرت في مقابلة مع “بي بي سي فيوتشر” في سيدني: “في كل غرام من التربة، نجد إعداداً من العاثيات يفوق عدد البشر الموجودين على كوكبنا في الوقت الراهن.”
وما يبشر بالخير أكثر هو أن فيروسات “النينجا” هذه لا تهاجم إلا أهدافاً محددة فقط. إن هذا مبعث قلق خاص، حيث توصّل الأطباء إلى أن جراثيمنا المتعايشة في أجسامنا قد تكون مصيرية لصحتنا فتحمينا من الإصابة بالربو. حتى أنها ربما تساعدنا في الوصول إلى حالة من التوازن لإنتاج النواقل العصبية، لما فيه فائدة لصحتنا النفسية.
المضادات الحيوية ليست متخصصة جداً، وقد تقضي على البكتيريا النافعة عند قضائها على الجراثيم الضارة أيضا. “إنها تسري في بدنك مثل قنبلة نووية”، حسب تعبير هيندريكسن . أما العاثيات فتعمل مثل قنّاصين مدرّبين، فتصطاد العدو وتُبقي على حلفائنا سالمين.
إن تنوّع العاثيات، مقروناً بتخصصها الفردي، قد يوفر لنا إمكانيات عظيمة لصنع علاجات جديدة، ولكنها تخلق في نفس الوقت قدراً هائلاً من العمل للعلماء من أمثال هيندريكسن، الذين يسعون جاهدين لإعطاء لمحة عن كل نوع من العاثيات والأوبئة المحددة التي يمكن أن تعالجها. وتقول: “تحتاج إلى مكتبة عامرة من العلاجات المحتملة.”
في ذات الوقت، تعمل هيندريكسن حالياً مع طلبتها لتلخيص خصائص عاثيات موجودة بشكل طبيعي في التربة. حالما يبدأون في بناء مكتبتهم الخاصة عن العاثيات، سيحتاجون أيضاً إلى إيجاد وسائل موثوقة وآمنة لتكثير وتنقية وخزن العاثيات – التي تبدو سريعة الزوال نوعاً ما، وتفقد صفاتها الطبيعية بسهولة بمرور الوقت.
كما يتوجب على فريق عملها أن يتحقق من عدم تسببها في مضاعفات غير مقصودة؛ على سبيل المثال، من المحتمل أنها ستثير الجهاز المناعي للجسم البشري مؤدية إلى حساسية غير مرغوبة.
وحتى هذه اللحظة، لا تزال بلدان أوروبا الشرقية في الطليعة، حسبما تقول؛ فالعديد منها واصل أبحاثه حول العاثيات بعد وقت طويل من لجوء الغرب للمضادات الحيوية.
تقول هيندريكسن: “خلف ‘الستار الحديدي’، استعملت جورجيا وروسيا وبولندا العاثيات كأدوية طيلة ذلك الوقت. وغالباً ما كانت تُستعمل كعلاجات في ميادين القتال. هناك حكايات رائعة عن جنود حملوا معهم عبوات العاثيات في ظل المعارك.”
من المؤسف أن هذا لم يُنشر في مجلات طبية باللغة الانجليزية، وبقي مخفيا عن العديد من العلماء في الغرب، وهو ما يشكل معضلة تأمل هيندريكسن أن تذللها مع متعاونيها الجدد.
فبعد أن شاركت في برنامج المناقشات “ريديت أي.إم.أي.” في الفترة التي سبقت عقد مؤتمر “أفكار تغير العالم” في سيدني، ذكرت أن طبيباً اتصل بها مؤخراً، وكان يستعمل نوعاً من العاثيات للعلاج. وأضافت قائلة: “إن اللقاء بهؤلاء الناس والاستماع الى ما يعرفونه يمثل حقاً فرصا مثيرة للاهتمام.”
ومن بين أولى التجارب السريرية الكبرى التي ستُجرى في الغرب هي ضمادات مليئة بالعاثيات لمعرفة ما إذا كانت قادرة على منع حصول الالتهابات الجرثومية لدى المصابين بحروق.
وتشير هيندريكسن إلى بعض الروايات الفردية المبشّرة. وفي مؤتمر “أفكار تغيير العالم”، شرحت هيندريكسن حالة المصاب ألفريد غيرتلير، الذي تعرض لحادث مروع أثناء التسلق مما أدى إلى “سحق كاحله”.
وقد أصيب غيرتلير على إثرها بالتهاب جرثومي لم يكن يستجيب للعلاج بالمضادات الحيوية، وفي البداية بدا وكأن الخيار الوحيد هو عملية بتر القدم. رغم ذلك، وبعد قرابة 10 أيام من دورة علاجية بالعاثيات، تعافى كليةً.
تقول هيندريكسن: “إنها حقاً وسيلة فعّالة”، مضيفة: “ونكاد أن نميط اللثام عن التنوع الكبير لهذه المجموعة من الكائنات الحية.”