ولادة النور
السيد مهدي السيد هاشم الحكيم
لمّا كانت قوى الخير والشر ـ منذ القدم ـ كفرسي رهان وكان الإنسان هو مسرح السباق ومضمار اللقاء والفراق، تتجاذب دواعي الخير والشر وقوى الصلاح والفساد، لمّا كان ذلك محلّه: يقف الإنسان خاوي الفكر خائر القوى أمام كل هذه الصراعات والتحديات ليحدد موقفه إزاء كل ما يحدث من تداعيات.
فهو ـ كإنسان ـ يطمح إلى الرُقي والسمو والفضيلة وفي الوقت نفسه هناك من يجذبه إلى مستنقع الانحطاط والرذيلة.
في مثل هذه الساعات الحرجة من عُمُر الإنسان وإذا بصوت الأنبياء المُدوي بالحق يلعلع ويهدر ليدُلّ على الطريق القويم، ذلك الصوت الذي نعرج به إلى سماء الكمال وننأى به عن طريق الغواية والضلال.
نعم لابد للناس من أنبياء، فهم نور الكون وجمال الدنيا وهم رحمة الله التي تمشي على الأرض.
فبهم يُعرف الخبيث من الطيب وبهم تتآلف القلوب وبهم يُعبد الله حق عبادته وهم القدوة الحسنة التي يجب أن تُتبع وهم العلماء الذين بهم تحيى السُنن وتموت البدع.
حيثما رفع السيد المسيح عيسى بن مريم(ع) إلى بارئه بقيت الأرض خالية من صوت الهداية والرشاد والناس في جاهلية ظلماء بأكل اقوي منهم الضعيف حقوقهم مغصوبة وعقولهم عن الحق محجوبة، المرأة تهان والحرمة لا تُصان والبنت عندهم عار لا طريق لها إلا أن تُدس تحت كثبان الصحارى والقفار…
كل هذا يجري والأرض تتطلع إلى السماء بشوق ولهفة ، علّ السماء تجود عليها برسول يزدهر البوادي بطلعته، ويزهو النادي بغُرته وتحيا الأرض الميتة ببركته…
سول من السماء يصرخ في الأرواح الميتة القابعة على ألواح الحجر والخشب متمسحة بأعتابها، يصرخ بها بقوله(لا إله إلا الله) وينفخ فيها بروح الإيمان ليعيد لها الحياة من جديد، بعد ما طوّح بها شيطان الضلالة ورماها في وادٍ سحيق.
الولادة:
في يوم 17 ربيع الأول سنة 570م استجابت السماء لنظرات الأرض فأطل على الدنيا وغمر نوره بواديها محمد بن عبد الله وأضاء نوره النادي وغمر ضياءه الوادي وجاء بعد فترة من الرسل كما قال حسان بن ثابت:
نبي أتانا بعد يأسٍ وفترةٍ من الرُسلِ والأوثان في الأرض تعبدُ
وُلِد هذا النبي المبارك ووُلِدت مع الآيات والكرامات، فقد زلزل إيوان كسرى وسقطت ثلاث عشرة شرفة من قصره إيذاناً بزوال ملكه، ورُجِمت الشياطين وخمدت نار فارس ولم تكن خمدت قب ذلك بألف عام([1]).
النسب:
رفيع الحسب وضّاح النسب فهو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب.
عبد المطلب وما عَبد المطلب: سيد قريش غير مدافع، ذو الشرف الباذخ والعز الشامخ، هو الذي حكّمته قريش بأموالها وهو الذي حفر بئر زمزم وهو الذي وفى بالنذر وسنّ سُنناً نزل القرآن الكريم بأكثرها وأكثر من هذا وذاك فقد كان رافضاً لعبادة الأصنام حتى سمته قريش بـ(إبراهيم الثاني)([2]).
وأما عبد الله فهو فتى قريش وقرة عين أبيه والمحبب إليه، فداه أبوه بمئة من الإبل كما فُدي إسماعيل بكبشٍ عظيم ليكون الرسول فيما بعد(إبن الذبيحين).
استُرضِعَ في ديار بني سعد بن بكر حيث كان الأشراف في مكة يرسلون أولادهم الرُضع إلى البادية لينشأوا نشأةً عربيةً سليمة وليكون ذلك الرضيع أفسح مَن نطق بالضاد.
كان يدعو ـ وهو في بواكير عُمُره الشريف ـ إلى نصرة المظلوم ومساندته على الظالم ولذلك نراه حينما أراد أن يشترك في حرب الفجار عمه أبي طالب(رضوان الله عليه) يشترط على قومه بأنهم:
إذا اجتنبوا الظلم والعدوان والقطيعة والبهتان فإنه لا يغيب عنهم. ولم يجدوا محيصاً من الرفض لشرطه لأنهم قالوا له (يا إبن مطعم الطير وساقي الحجيج لا تغب عنّا فإنّا نرى لحضورك الغلبة والظفر). كان ذلك والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لم يتجاوز عمره العشرين عاماً.
وما أن تخطى العشرين عاماً إلا وهو مشترك في حلف الفضول ذلك الحلف الذي كانت غايته مناسرة المظلوم والوقوف بوجه العدوان من أي مصدرٍ كان، فكان لهذا الحلف الصدى الطيب والأثر البليغ في نفوس العرب حتى بعد بزوغ شمس الإسلام حيث أن بنوده كانت تلتقي كثيراً مع تعليم ومباديء الدين الحنيف وخصوصاً مبدأ ترك العنف ونبذ القساوة وعدم التعرض لأموال وأرواح الأبرياء، وقد طُبقت تعاليمه في حينه إلى حدٍ ما بحيث استطاع هذا الحلف الحد من تجاوزات واستهتار الكثير من أبناء قريش ـ وخصوصاً فتيانهم ـ تجاه الوافدين على مكة([3]).
وتمر السنين وتمضي الأعوام والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يرفع للناس في كل يوم علماً ويوقد لهم مشعلاً من مشاعل العلم والمعرفة والأدب والفضيلة فهو أمين لا يخون وصادق لا يكذب ومتواضع لا يتكبر وشجاع لا يُقهر… سمته قريش (الصادق الأمين) لما عُرف عنه من خُلُقٍ طيب وسلوك جميل.
كانت السيول تنحدر على مكة المكرمة بين الحين والآخر فتُدَّمِر وتُكسِر ما يعترض طريقها ويقف أمامها، وذات مرةٍ انحدر سيل عنيف ضعضع بنيان الكعبة المشرفة وزلزل أركانها ولم تجد قريش بداً إلا أن تهدم الكعبة وتعيد البناء من جديد وكما أرادت فقد أُعيد البنيان وشُيّدت الأركان حتى وصلت قبائل قريش إلى موضع الحجر الأسود فاختلفوا فيما بينهم على الذي يُعيد الحجر إلى موضعه لأن الجميع يريد ينال ذلك الشرف الباسق وكسب الفخار السامق، وكثر الجدال وطال السجال واحتدم القيل والقال وإذا بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يقبل عليهم فلما رأوه مقبلاً قالوا: قد رضينا بحكم محمد بن عبد الله فلبى النبي دعوتهم لأنه صاحب القلب الكبير الذي ينبض بالحب والمودة، لذلك نراه يُسرع إلى فض الخصومة بين قومه بصورة أرضى بها الجميع، بسط رداءه ثم وضع الحجر في وسطه وقال:( لتحمل كل قبيلة بجانب من جوانب الرداء ثم ارفعوا جميعاً) ففعلوا ذلك فلما بلغ الموضع أخذه رسول الله ووضعه بموضعه الي هو به([4]) وانتهى الخصام وساد الوئام ببركة حبيب الله وخير خلقه محمد بن عبد الله.
وهكذا كانت حياة هذا الرجل العظيم قبل بعثته وبعدها، حياة كلها عطاء وخير حاول أن يُركز في النفوس حب الخير والإحسان إلى الناس، أراد أن يجعل من القبائل المتفرقة أمة واحدة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، كان يسعى أن تكون روح الحوار هي السائدة في المجتمع لا روح العنف والوحشية القبلية.
وختاماً نقول: (اللهم آتِ محمداً الوسيلة والفضيلة وابعثه المقام المحمود الذي وعدته إنك لا تخلف الميعاد).
( [1] ) راجع تاريخ اليعقوبي ج2 ص14.
( [2] ) راجع تاريخ اليعقوبي ج2 ص8.
( [3] ) راجع البداية والنهاية لإبن كثير.
( [4] ) راجع تاريخ اليعقوبي ص14.
المصدر: مجلة ينابيع – العدد 5