أطفال الثقافة الثالثة: النشأة بين عوالم مختلفة ومعضلة الشعور بالانتماء
323
شارك
الحكمة – متابعة: باتساع نطاق العولمة وانتقال الناس للعمل من بلد لآخر، يُثار سؤال مهم لدى أبناء الوافدين، وهو أين هو المكان الذي يمكن أن يعتبرونه وطنا لهم؟ عندما تنتهي فترة الدراسة في مدرسة “غاردن انترناشيونال” في العاصمة الماليزية كوالالمبور، يتسلم التلاميذ حقيبة لتوديعهم يوجد في داخلها قطع من الحامض الحلو، وشريط لتغليف الهدايا وحامل أوراق وقطعة اسفنج ورابطة مطاطية.
وقد وقع الاختيار على هذه الأشياء بغرض إثارة النقاش حول ما تعنيه مغادرة المدرسة، مشاعر الحزن التي تختلط بالفرحة والاستعداد للخطوات المقبلة وتسجيل الذكريات السابقة. وتعقد المدرسة اجتماعا عاما لتكريم كل طفل من الأطفال المغادرين.
تقول ماريلا فيتيتو، وهي معلمة تدرس منهج اللغة الإنجليزية وتشرف على الرعاية النفسية للتلاميذ،: “نريد مساعدتهم على فهم مدى أهمية توديع المدرسة. إذا أصبح هناك شعور بأن إنجازا قد تحقق هنا، فسيكون بإمكاننا الانتقال بسلاسة أكبر لمكان آخر”.
يأتي نحو 65 في المئة من تلاميذ مدرسة “غاردن انترناشيونال” البالغ عددهم 2000 من خارج ماليزيا. ولا تمثل هذه تجربة الانتقال الوحيدة لبلد أجنبي بالنسبة للعديد منهم.
وتضيف فيتيتو وهي من دولة هندوراس: “نشهد حالة انتقال مستمرة. الأطفال يأتون ويذهبون طوال الوقت”.
هؤلاء هم أطفال الثقافة الثالثة، أو (تي سي كي) وهو مصطلح وضعته عالمة الاجتماع الأمريكية روث هيل يوسيم خلال الخمسينيات من القرن الماضي، وأطلقته على الأطفال الذين يقضون سنوات تكوينهم الأولى في أماكن ليست هي موطن آبائهم وأمهاتهم. وقد جعلت العولمة ظاهرة أطفال الثقافة الثالثة أكثر شيوعاً.
وهؤلاء هم في الغالب أبناء العاملين الوافدين، ولكن يمكن أن يكونوا منحدرين من زواج بين رجل وامرأة ينتميان لجنسيتين مختلفتين، أو كما هو موجود بشكل متزايد في آسيا، يلتحقون بمدارس أجنبية في أوطانهم. وغالباً ما تتكون لدى أطفال الثقافة الثالثة ثقافة متجذرة في الناس وليس في الأماكن.
عندما يصبح الأمر صعباً
ويمكن للخسائر المتكررة الناجمة عن الترحال المستمر أن تسبب الشعور بالقلق والتوتر لدى أبناء الثقافة الثالثة، حسبما تقول لويس بوشونغ المعالجة النفسية المقيمة في ولاية إنديانا الأمريكية، وهي متخصصة في العمل مع أطفال الثقافات الثالثة وألفت كتاباً بعنوان: “الانتماء لكل مكان ولا مكان: نظرة فاحصة على المتنقلين حول العالم”.
الكثير من المغتربين لديهم عقود بمدد محددة تصل إلى عامين وهو ما يجبر الأطفال على الافتراق عن أصدقائهم وبناء علاقات صداقة جديدة بصورة منتظمة ومتكررة، ويمكن أن يكون لهذا الانتقال المتكرر عواقب أيضاً على أصدقائهم الذين يتركونهم وراءهم ويغادروا.
وتتذكر ماثيو أن الهزة الأكبر التي حدثت لأطفالها جاءت عندما عادوا لبريطانيا وهم في سن المراهقة، إذ أنه لم يكن لدى مدارسهم الجديدة البرامج الموجودة في المدارس الدولية والتي تساعد المنتقلين الجدد على التكيف مع المكان والثقافة الجديدين، ولم يستطع أبناؤها الحديث عن تجاربهم دون أن ينظر إليهم زملاء الدراسة على أنهم يتفاخرون.
ويقول كريس عن هذه التجربة “بالتأكيد ..من السهل كثيراً الانتقال إلى مدرسة دولية لأن جميع من فيها ينتمون إلى مستويات متقاربة. وكان بناء صداقات مع أقراني عند العودة إلى أبردين شمالي بريطانيا في سن السادسة عشرة أمرا صعبا بالنسبة لي لأن الجميع كانوا في نفس المدرسة معا منذ المرحلة الابتدائية”.
وكانت هذه تجربة مماثلة لجيليان تاب التي تبلغ الآن الثامنة عشرة من عمرها، وهي الآن طالبة في جامعة :”نورث ايسترن”، عندما عادت إلى موطنها الولايات المتحدة بعد قضاء ثلاث سنوات في أمستردام.
وتقول: “لقد انتقلت من مدرسة تتبنى برنامجا ترحيبيا للغاية بالتلاميذ الجدد إلى أخرى كنت أنا فيها التلميذة الجديدة الأولى منذ سنوات. الجميع يعرفون بعضهم البعض، لكن لا يعرفني أحد. لقد كان بيني وبينهم حاجز ولم يكن من أولوياتهم بناء علاقة صداقة مع فتاة جديدة من أمستردام لا تفهم بالضرورة التقاليد الأميريكية”.
التأقلم مع الانتقال
يحاول أولياء الأمور في أغلب الأحيان التقليل من حالة الاضطراب والتشويش عبر اختيار توقيت الانتقال لكي يكون متوافقا مع مواسم محددة مثل بداية الفصل الدراسي والامتحانات الرئيسية والمراحل الدراسية الحاسمة (من المرحلة الابتدائية إلى الإعدادي على سبيل المثال).
ويلاحظ المشرفون التربويون أن المشاكل تظهر على الأرجح في سن التاسعة أو العاشرة، عندما تصبح الصداقة أمراً محورياً في رسم ملامح هوية الطفل، وبشكل خاص خلال فترة المراهقة، إذ يلجأ الأطفال إلى الانطواء والانعزال عن زملاء دراستهم أو يصبحون متوترين وعدوانين مع أقرانهم.
ترعرعت بوشونغ في أمريكا اللاتينية وتتذكر حفلات وداع متكررة قائلة: “شعرت وكأن جزءا من قلبي ينفطر في كل مرة أودع فيها أصدقائي مدركة أنني على الأرجح لن أراهم مرة ثانية”.
ودعت بوشونغ إلى إطلاق نقاش داخل الأسر لفهم كيفية تأقلم كل فرد مع عملية الانتقال إلى مكان جديد، وتضيف: “راقب أطفالك، فإذا رأيتهم لا يتصرفون بطريقة طبيعية أو يميلون إلى الانطواء فتحدث إليهم لمعرفة ما يزعجهم، واستمع وتفهم شعور الأسى الذي يساورهم، فهذا يساعدهم على المضي قدماً”.
وربما يكون ذلك صعباً في ظروف معينة فالأطفال الذين نشأوا في بيئات صعبة، مثل تلك التي قد تشهد حوادث عنف وجريمة واختطاف أو اضطراب سياسي، قد يكونون عرضة لخطر الإصابة بمرض اضطراب ما بعد الصدمة. وقد يؤدي إهمال المشاكل المحتملة إلى تخزين المشاكل لوقت لاحق عندما يصل الطفل الذي تربى وسط ثقافة ثالثة إلى سن البلوغ.
وتحذر كيت بيرغر من مدينة نيويورك والتي انتقلت من هولندا للدراسة وتدير الآن ناديا للأطفال الوافدين بقولها: “إذا تعرض شخص لتجربة صعبة في طفولته ولم يستطع استيعاب ذلك أو تفهمه، فإن من شأن ذلك أن ينتقل معه إلى مرحلة البلوغ”. ويعمل النادي الذي تديره بيرغر مع المدارس والعائلات للتعامل مع حالات الانتقال من دولة لأخرى. وتحرص كيت على التأكيد على أن غالبية أطفال الثقافة الثالثة يستفيدون بشكل كبير من تجارب طفولتهم.
الاحتفاظ بعقلية متفتحة
قضت فيليبا ماثيو 14 عاما من السفر المتواصل، وترعرع أبناؤها، الذين بلغوا الآن سن الشباب، بينما كانت تتولى وظائف عدة انتقلت خلالها الأسرة من بريطانيا إلى الولايات المتحدة ثم أندونيسيا والنرويج. وتقول ماثيو إن ابنها وابنتها استمتعا بميزة السفر والترحال التي منحتهم فهماً أفضل للعالم.
وتوضح ذلك وهي تتناول فنجانا من القهوة في كوالالمبور التي انتقلت إليها مع زوجها العام الماضي: “التنقل من مكان لآخر يجعل الأطفال مختلفين عندما يعودون إلى موطنهم الأصلي، لكن عليهم التعايش مع ذلك الأمر. (وطريقة تربيتهم) تهيئهم ليكونوا أكثر مرونة وأكثر قدرة على التكيف مع التغيير”.
وقد توصل استطلاع عبر الانترنت أجرته في عام 2011 مجلة “دينيزن” المتخصصة في الشؤون المتعلقة بأصحاب الثقافة الثالثة إلى أن غالبية المشاركين في الاستطلاع وعددهم 200 شخص قد انتقلوا من موطنهم الأصلي للمرة الأولى قبل سن التاسعة وعاشوا في أربعة بلدان في المتوسط، وكان غالبيتهم يحمل شهادات جامعية إذ أن 30 في المئة كان لديهم شهادات عليا، كما أن 38 في المئة منهم يتحدثون لغة أجنبية أو اثنتين. وهذه المؤهلات تجعل من تخرجوا من مدارس الثقافة الثالثة جاذبين للباحثين عن موظفين.
ومن بين أبرز أبناء الثقافة الثالثة الرئيس الأمريكي المنتهية ولايته باراك أوباما، الذي ولد لأب كيني وأم أمريكية، وانتقل إلى جاكرتا بعد أن تزوجت أمه من رجل أندونيسي. وهناك أيضا الممثل البريطاني كولن فيرث الذي عاش في نيجيريا حيث عمل والده في مجال التعليم، وكذلك في الولايات المتحدة.
وقد نشر عالما الاجتماع الأمريكيان ديفيد بولوك وروث فان ريكين كتاباً عام 1999بعنوان أطفال “الثقافة الثالثة: النشأة بين العوالم”. ورغم أن بولوك توفي عام 2004، فإن ريكين واصلت نشاطها البحثي وإلقاء المحاضرات حول هذا الموضوع. وتقول ريكين إن أبناء الثقافة الثالثة على الأرجح يتحدثون أكثر من لغة ولديهم نظرة أوسع للعالم وأكثر وعياً من الناحية الثقافية. لكنها تحذر من أن حياة هؤلاء الأطفال يمكن أن تخلق شعوراً بعدم الارتياح وعدم الانتماء، إذ أن الوطن “موجود في كل مكان وليس موجوداً في أي مكان”.
دعم متزايد
ولحسن الحظ فإن أطفال الثقافة الثالثة من أبناء القرن الواحد والعشرين يتمتعون بدعم ورعاية أكبر من ذي قبل، فعلى مدار العقدين الماضيين زادت المدارس من خدمات الإشراف التربوي وبدأت تقدم بشكل متزايد مساعدة للأطفال منذ بداية وصولهم للمدرسة إلى وقت مغادرتهم.
التحق جاك رايس، الذي يبلغ من العمر 13 عاماً، بمدرسة “غاردن انترناشيونال” منذ شهرين بعد أن بدأ والديه العمل بالمدرسة كمعلمين. ولد جاك في الإمارات العربية المتحدة، وعاش في المملكة العربية السعودية وتايلاند وقطر، لكنه يحمل جنسية بريطانية كندية مشتركة ويرى نفسه مواطناً كندياً. واعترف جاك بأنه استغرق وقتا طويلا ليشعر بالاستقرار حتى مع وجود من يساعده على ذلك، لكن مخيماً مدرسياً أقيم في غابة قرب كوالالمبور ساعده أخيراً على التكيف مع زملائه في المدرسة.
ويقول بلكنة أمريكية: “غالبية زملائي مروا بتجربة مشابهة لتجربتي. لقد اضطروا للانتقال من مكان لآخر مرة تلو المرة”.