أم كلثوم بنت أمير المؤمنين… جرحٌ من كربلاء (الحلقة الأولى)
ربيبة من ربائب منزل الوحي، وسيدة من سيدات مدرسة النبوة، عاشت وعايشت مسلسل الشهادة بكل حلقاته المأساوية من المدينة المنوّرة وحتى كربلاء مع أخوتها الشهداء وأخواتها المسبيات… رافقتهم خطوة خطوة وموضعاً موضعاً، فوضعت بصمتها واضحة في أحداث ملحمة الحرية والكرامة، ملحمة الدرس الإنساني العظيم الذي سطره أخوها سيد الإباء الإمام أبو عبد الله الحسين في عاشوراء.
ولدت السيدة أم كلثوم بنت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) في المدينة المنورة عام (6هـ)، فاحتضنها حجر أبيها يعسوب الدين، ورضعت من أمها سيدة نساء العالمين صفات الكمال البشري، فنشأت في هذا البيت الذي تستأذنه الملائكة لتشم منه عطر النبوة، فتلقنت فيه وهي صغيرة دروس الوحي، وغُذيت بتعاليم القرآن، واستلهمت نهج جدها الرسول، حتى نشأت وكبرت عليه فأصبحت أنموذج الصلابة في الدين، والقدوة في العقيدة واليقين، والمثل الأعلى للمرأة المؤمنة.
رافقت أخاها سيد الشهداء من المدينة إلى كربلاء حتى استشهاده (عليه السلام) ثم سارت مع سبايا آل محمد إلى الكوفة ومنها إلى الشام في رحلة السبي التي أكملت المسيرة الحسينية عبر إعلامها النسوي الضخم الذي تمثل في حرائر الوحي، فترك هذا الإعلام أثره الكبير والمدوّي في الرأي العام، ومثّل دوراً كبيراً في نشر الهدف العظيم لثورة الحسين (عليه السلام) وإدانة جرائم الأمويين بحق الإسلام والمسلمين، كما أهاجت في أهل الكوفة شعوراً لاذعاً بالحسرة والندم والخزي والعار وهي ترى نساء الكوفة يبكين على الحسين ورجالهن خذلوه وقتلوه…. رأت أم كلثوم أهل الكوفة يناولون الأطفال الذين على المحامل بعض التمر والخبز والجوز، فصاحت بهم وهي في المحمل: يا أهل الكوفة، إنّ الصدقة علينا حرام…
انتبه الناس كلهم لهذا الصوت الذي دوّى في آذانهم وملأ الفضاء كأن صوت رسول الله قد بعث من جديد، فوجموا كأن على رؤوسهم الطير وضاقت بهم الأرض فجلسوا يبكون، ولكن هل ينفع الندم بعد تلك الجريمة الشنعاء؟ وهل وصل الأمر بهم إلى أن يقتلوا سبط الرسول ويسبوا نساءه ثم يتصدّقوا على آله؟
أخذت أم كلثوم الطعام من أيدي الأطفال وأفواههم ورمت به إلى الأرض..
اشتدت عاصفة البكاء والناس تلطم على رؤوسها ندماً على خذلان الحسين، وفداحة الإثم العظيم الذي أرتكب في كربلاء وتحولت المدينة إلى مجلس للعزاء… هنا رأى الناس امرأة تطلع رأسها من المحمل وتقول لهم بلهجة التأنيب الشديد: (صه يا أهل الكوفة، تقتلنا رجالكم، وتبكينا نساؤكم؟ فالحاكم بيننا وبينكم الله يوم فصل القضاء).
لقد مثلت السيدة أم كلثوم دوراً تبليغياً عظيماً لنشر الهدف السامي لثورة الإمام الحسين والتنديد بجرائم الأمويين عبر الخطب والأشعار التي أطلقتها فكان مما قالته في خطبتها في الكوفة:
(يا أهل الكوفة، سوأة لكم، ما لكم خذلتم حسيناً وقتلتموه، وانتهبتم أمواله وورثتموه، وسبيتم نساءه ونكبتموه! فتبّاً لكم وسحقاً. ويلكم أتدرون أيّ دواهٍ دهتكم، وأيّ وزر على ظهوركم حملتم، وأيّ دماء سفكتموها، وأيّ كريمة أصبتموها، وأيّ صبيّة سلبتموها، وأيّ أموال انتهبتموها؟ قتلتم خير رجالات بعد النبي، ونزعت الرحمة من قلوبكم، ألا إنّ حزب الله هم الفائزون، وحزب الشيطان هم الخاسرون).
ثمّ قالت:
قتلتم أخي صبراً فويلٌ لأُمّكم *** ستُجزونَ ناراً حرّها يتوقّدُ
سفكتمْ دماءً حرَّمَ الله سفكَها *** وحرَّمها القرآنُ ثمّ محمّدُ
ألا فابشروا بالنارِ إنّكمُ غداً *** لفي سقرٍ حقّاً يقيناً تُخلّدوا
بعد هذه الرحلة الشاقة والعسيرة وبعد أن قدّمت تلك القافلة كل ما لديها من تضحية في سبيل الله، تصل أم كلثوم معها إلى مدينة جدها رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فتخاطبها بحسرة ممزوجة بألم عميق وهي ترى البيوت خلت من رجالها وشبابها، فأفرغت عما انطوى عليه قلبها من أسى وحزن تركتهما فاجعة كربلاء وقالت:
مدينةَ جدِّنا لا تقبلينا *** فبالحسراتِ والأحزانِ جينا
ألا أخبر رسولَ اللهِ فينا *** بأنّا قد فُجعنا في أخينا
خرجنا منكِ بالأهلينِ جمعاً *** وعُدنا لا رجالَ ولا بنينا
لم يطل العمر بالسيدة أم كلثوم بنت أمير المؤمنين بعد استشهاد أخوتها وبني عمومتها وأهل بيتها فقد توفيت بعد أربعة أشهر من فاجعة كربلاء الأليمة التي تركت في قلبها جرحاً لا يشفى وندباً لا يزول وقرحاً لا يندمل.
ومثلما لاحقتها الرزايا في حياتها فقد تعرضت سيرتها العظيمة للتزييف من قبل وعاظ السلاطين من مؤرخي السلطة، حيث راجت أسواق بيع الذمم، وكثر وضع الروايات المكذوبة، العارية من الصحة، وتابعتهم في كذبهم وافتراءاتهم الأقلام المأجورة التي ناقضت تماماً الحقائق التاريخية فدوّنوا تلك الأكاذيب والمفتريات دون تمحيص وتدقيق، أو حتى تأمّل.
ومن أهم ما ألصق بترجمة سيرة السيدة أم كلثوم بنت الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليهما السلام) كذباً وزوراً هو: رواية زواجها من عمر بن الخطاب، والذي كُثر عنه الحديث عند البعض لغايات سياسية ومذهبية، وهو زواج وهمي، أسطوري ابتدعه وعّاظ السلاطين لمقتضى السلطة في ذلك الوقت، وتناوله المؤرخون تناول المسلمات، وأنكره كل من: العقل، والمنطق، والتاريخ.
فكل الحقائق التاريخية بصدد هذا الموضوع تشير إلى أن السيدة أم كلثوم بنت الإمام أمير المؤمنين (عليهما السلام) تزوجت من ابن عمها عون بن جعفر بن أبي طالب ولم تتزوج من غيره لا قبله ولا بعده، كما تزوجت أختها السيدة العقيلة الحوراء زينب بنت الإمام أمير المؤمنين (عليهما السلام) من ابن عمها أيضاً عبد الله بن جعفر بن أبي طالب مصداقاً لحديث رسول الله (صلى الله عليه وآله) عندما رأى بنات علي بن أبي طالب (عليه السلام) وأولاد جعفر بن أبي طالب (عليه السلام) وهم صغار: (بنونا لبناتنا وبناتنا لبنينا).
محمد طاهر الصفار