ان الصبر من أكثر الأخلاق التي اعتنى بها دين الإسلام؛ لذا تكرر ذكره في القرآن في مواضع كثيرة.
ونود هنا ان نسلط الضوء على بعض تلك المواضع وليكن قوله سبحانه وتعالى: { إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [الزمر 10].
معنى الصبر لغةً:الصَّبْـرُ نقيض الجَزَع، صَبَرَ يَصْبِرُ صَبْـرًا فهو صابِرٌ وصَبَّار وصَبِيرٌ وصَبُور والأُنثى صَبُور أَيضًا بغير هاء وجمعه صُبُـرٌ.وأَصل الصَّبْر الحَبْس وكل من حَبَس شيئًا فقد صَبَرَه، والصبر: حبس النفس عن الجزع (. ([1]
معنى الصبر اصطلاحًا: هو ترك الشكوى من ألم البلوى لغير الله لا إلى الله ([2]).
وقيل هو: حبس النفس على ما يقتضيه العقل والشرع، أو عما يقتضيان حبسها عنه ([3]).
والصبر كما في كلمات علماء الأخلاق: هو ضد الجزع، وهو ثبات النفس، أو هو احتمال المكاره من غير جزع، أو هو قسر النفس على مقتضيات الشرع والعقل: أوامر ونواهي. وفي الرواية: قال جبرئيل عليه السلام في تفسير الصبر: تصبر في الضراء، كما تصبر في السراء، وفي الفاقة كما تصبر في الغنى، وفي البلاء كما تصبر في العافية، فلا يشكو حاله عند المخلوق ([4]).
روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله في حديث أنه قال: (فاصبر فإن في الصبر على ما تكره خيرا كثيرا، واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، فإن مع العسر يسرا، إن مع العسر يسرا) وعن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال: (لا يعدم الصبر الظفر وإن طال به الزمان)، وعنه عليه السلام أيضا: (الصبر صبران: صبر عند المصيبة حسن جميل، وأحسن من ذلك الصبر عند ما حرم الله تعالى عليك) ([5]).
فالصبر عبادة الضراء، وهو عدة المؤمنين حين نزول البلاء، ولا غنى عنه في هذه الحياة، فلا بد من صبر على الطاعة وصبر عن المعصية وصبر على البلاء.
وشهر رمضان شهر الصبر على الطاعة والصبر عن المعصية, وهو صرح شامخ يستلهم منه الصائمون كثيراً من الدروس والعبر النافعة التي تربي النفوس وتقوِّمها في شهرها هذا وفي قادم أيامها حتى تقوم الساعة, بل هو مدرسة الصبر, فالصوم فيه تعويد على الصبر, وتمرين عليه؛ لأنه الأساس الأكبر لكل خُلُقٍ جميل، والتنزه من كلِّ خُلُقٍ رذيل.
وقد ورد في بعض الأخبار أنَّ الصوم نصف الصبر، لأنه منقسم إلى صبر عن المعصية، وصبر على الطاعة, حيث روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنه قال: « الصوم نصف الصبر ». فالصوم على هذا يصير نصفا.
وقد وصف رسول الله – صلى الله عليه واله – شهر رمضان بشهر الصبر في أكثر من حديث، منها ما ورواه الشيخ الصدوق في الخصال بسنده عن الإمام الصادق عليه السلام, أنه قال: «خطب رسول الله صلى الله عليه وآله الناس في آخر جمعة من شعبان فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس إنه قد أظلكم شهر فيه ليلة خير من ألف شهر، وهو شهر رمضان، فرض الله صيامه، وجعل قيام ليلة فيه بتطوع صلاة كمن تطوع بصلاة سبعين ليلة فيما سواه من الشهور، وجعل لمن تطوع فيه بخصلة من خصال الخير والبر كأجر من أدى فريضة من فرائض الله، ومن أدى فيه فريضة من فرائض الله كان كمن أدى فيه سبعين فريضة فيما سواه، وهو شهر الصبر، وإن الصبر ثوابه الجنة » ([6]).
ووصفه كذلك أمير المؤمنين عليه السلام بقوله: «صيام شهر الصبر وثلاثة أيام من كل شهر يذهبن بلابل الصدور، وصيام ثلاثة أيام من كل شهر صيام الدهر، من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها» ([7]).
ففي شهر رمضان تتعدد الطاعات فمنها الصيام، ومنها القيام، ومنها تلاوة القرآن، ومنها البر والإحسان, ومنها إطعام الطعام, ومنها الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار وغير ذلك من أنواع الطاعات، وكل المذكورات وغيرها من الطاعات والقربات تحتاج إلى صبر ليقوم بها الإنسان على أكمل الوجوه وأفضلها.
صور من صبر الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم:
أن الصبر من خلق الأنبياء – صلوات الله وسلامه عليهم – فقد صبروا على أذى أقوامهم في دعوتهم إلى الله وإرشادهم إلى طريق الحق والصواب، يقول الله جلَّ وعلا: {وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنْ الصَّابِرِينَ} [الأنبياء: 85]. ويقول سبحانه آمرًا نبيه محمد – صلى الله عليه وآله وسلم – بالصبر: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف:35]، حيث صَبَر أولو العزم من الرسل على مشاقِّ الدعوة إلى الله وتقوية الاعتقاد بالمبدأ والمعاد، ونشر الفضيلة، وقمع الرذيلة، فأبلوا بلاءً حسنا، إذ صبر نوح – عليه السلام – وقضى ألف سنة إلا خمسين عامًا كلها في الدعوة الى الله سبحانه، وصبر إبراهيم – عليه السلام – على كل ما نزل به فجُمع له الحطب الكثير، وأوقدت فيه النار العظيمة، فألقي فيها، فكانت بردًا وسلامًا.
وموسى – عليه السلام – إذ صبر على أذى فرعون وجبروته وطغيانه.
وصبر عيسى – عليه السلام – على تكذيب بني إسرائيل له، ورفض دعوته، فصبر على كيدهم ومكرهم حتى أرادوا أن يقتلوه ويصلبوه، إلا أن الله سبحانه وتعالى نجاه من شرهم.
وأما سيد الأنبياء والمرسلين محمد – صلى الله عليه وآله وسلم – فما أكثر ما لاقاه في سبيل نشر هذا الدين، فصبر صلوات الله عليه وعلى آله وسلم.
صبر أيوب – عليه السلام – على البلاء:
فنبي الله أيوب – عليه السلام – كان غاية في الصبر، حتى صار مضربا للمثل في ذلك واصبح الجميع يحكي قصة صبره، قال الله عزّ وجلّ: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ} [الأنبياء:84].
فقد دلت الآيات تصريحا وتلويحا هنا وفي سورة (ص) على ان أيوب كان في عافية وهناء، ثم تراكم عليه البلاء، وأحاط به من كل جانب، حتى صار مضرب الأمثال، فأصيب بنفسه وأهله، فصبر صبر الأحرار، وبقي على ثقته ويقينه باللَّه لا يشغله عن طاعته حزن ولا ألم، ولما طال عليه الأمد، واشتدت وطأة الآلام، ولم يجد منها مخرجا شكا أمره إلى اللَّه بكلمتين: مسني البلاء، وأنت رحيم وكريم.. قال: مسني، ولم يقل: تفاقم وتراكم كيلا تشعر شكواه بالضجر وعدم الصبر، فاستجاب سبحانه إلى شكواه، وكشف بلواه، وأعاده إلى أحسن مما كان.
{وآتَيْناهُ أَهْلَهُ ومِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وذِكْرى لِلْعابِدِينَ}، حيث رزقه اللَّه من الأولاد والأحفاد ضعف من فقده منهم رحمة به وجزاء على صبره، وتذكيرا بأن من صبر كما صبر أيوب تكون عاقبته تماما كعاقبته، وخص سبحانه العابدين بالذكر للإشارة إلى ان اللَّه مع الصابر المحتسب المخلص له في أقواله وأفعاله ([8]).
صبر إبراهيم وابنه إسماعيل – عليهما السلام – على طاعة الله:
انَّ رؤيا الأنبياء ليست إلاّ حقيقة، ولو احتمل الخطأ فيها لم يكن وحياً، فقد روي عن الإمام الرضا، عن آبائه، عن عليٍّ – عليهم السلام – أنه قال: «رؤيا الأنبياء وحي» ([9]).
فالرؤيا التي رآها نبي الله إبراهيم – عليه السلام – انما هي وحي من الله حيث أُمر بذبح ولده كما قال: {إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} فأخبر ابنه بذلك، وعرض عليه الأمر بقوله: { فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى } أي فتفكر فيما قلت وعين ما هو رأيك فيه، وهذه الجملة دليل على أن إبراهيم عليه السلام فهم من منامه أنه أمر له بالذبح مثل له في مثال نتيجة الأمر ولذا طلب من ابنه الرأي فيه وهو يختبره بماذا يجيبه؟
فأجابه إسماعيل – عليه السلام – صابرًا محتسبًا، مرضيًا لربه، وبارًّا بوالده: {قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} تطييب منه لنفس أبيه أنه لا يجزع منه ولا يأتي بما يهيج وجد الوالد عن ولده المزمل بدمائه، وقد زاد في كلامه صفاء على صفاء إذ قيد وعده بالصبر بقوله: ” إن شاء الله ” فأشار إلى أن اتصافه بهذه الصفة الكريمة أعني الصبر ليس له من نفسه ولا أن زمامه بيده بل هو من مواهب الله ومننه إن يشأ تلبس به وله أن لا يشاء فينزعه منه.
وقوله تعالى: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ } أي فلما استسلما إبراهيم وابنه لأمر الله ورضيا به وصرعه إبراهيم على جبينه، وجواب (لمَّا) محذوف؛ إيماءً إلى شدّة المصيبة ومرارة الواقعة.
وقوله تعالى: {وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} معطوف على جواب لمّا المحذوف، وقوله: {قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} أي أوردتها مورد الصدق وجعلتها صادقة وامتثلت الامر الذي أمرناك فيها أي إن الأمر فيها كان امتحانياً يكفي في امتثاله تهيؤ المأمور للفعل وإشرافه عليه فحسب.
وقوله تعالى: {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاء الْمُبِينُ} الإشارة بـ (كذلك) إلى قصة الذبح بما أنها محنة شاقة وابتلاء شديد، والإشارة بـ (هذا) إليها أيضا وهو تعليل لشدّة الأمر.
والمعنى: إنا على هذه الوتيرة نجزي المحسنين فنمتحنهم امتحانات شاقة فإذا أتموا الابتلاء جزيناهم أحسن الجزاء في الدنيا والآخرة، وذلك لان الذي ابتلينا به إبراهيم لهو البلاء المبين ([10]).
باعث الصبر:
قال تعالى: {وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ} [الرعد:22], ان الباعث على الصبر لابد وان يكون وجه الله عزّ وجلّ، والتقرب إليه ورجاء ثوابه، لا غير ذلك من المقاصد والأغراض الفاسدة.
يقول الشيخ الطبرسي في تفسيره جوامع الجامع: «{وَالَّذِينَ صَبَرُوا} على القيام بأوامر الله ومشاق التكليف، وعلى المصائب في النفوس والأموال، وعن معاصي الله {ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ} لا لغرض من الأغراض الدنيوية، أو ليقال: ما أصبره وأوقره ولئلا يشمت به الأعداء، كقوله:
وتجلدي للشامتين أريهم *** أني لريب الدهر لا أتضعضع» ([11]).
وقال تعالى: {وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ}, أي لوجه ربك، والصبر مطلق يشمل الصبر عند المصيبة والصبر على الطاعة والصبر عن المعصية، والمعنى ولوجه ربك فاصبر عندما يصيبك من المصيبة والأذى في قيامك بالإنذار وامتثالك هذه الأوامر واصبر على طاعة الله واصبر عن معصيته ([12]).
ثمار الصبر ونتائجه:
1- يثمر محبة الله عزّ وجلّ، يقول تعالى: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [آل عمران 146].