قواعد الإملاء: مهارة أساسية للعمل في عصر “الشاشات الصغيرة”
354
شارك
الحكمة – متابعة: غالباً ما تُنجز الأعمال والأنشطة المهنية في العصر الحديث عبر الكتابة السريعة للغاية على شاشات صغيرة الحجم بشدة. ومن المرجح أن تؤدي الأخطاء التي ترتكبها في الإملاء إلى أن تبدو أقل مصداقية وذكاءً عما أنت عليه بالفعل.
ولّت تلك الأيام التي كانت تخصص فيها الشركات مجموعة من الموظفين للاضطلاع بدور السكرتارية لمد يد العون لمديريهم التنفيذيين. كما مضى العصر الذي كان يوجد فيه في مكاتب تلك الشركات أيضاً قواميس ضخمة يُرجع إليها للتحقق من تهجئة الكلمات.
والآن، صرنا نُنجز الجانب الأكبر من أنشطتنا المهنية اليومية عبر الانهماك في الكتابة بوتيرة سريعة للغاية على شاشات صغيرة الحجم، باستخدام سبابة يدٍ واحدة، أو كلتا اليدين.
لكن تطور التقنيات المستخدمة حالياً في هذا الشأن، والتي باتت أصغر في الفترة الراهنة من أي وقتٍ مضى، بجانب تزايد الضغوط للرد بأسرع وقت ممكن على ما يصلنا من رسائل بفعل ظهور البريد الإلكتروني، يعنيان زيادة احتمالية تسلل الأخطاء المطبعية إلى هذه الرسائل، ناهيك عن إمكانية حدوث ما هو أسوأ، وهو إضافة أنظمة التصحيح التلقائي مفرداتٍ غير تلك التي نريدها، إلى ما نكتبه.
كلنا مر بهذه التجربة. فالمواقع الإلكترونية والنصوص المنشورة على شبكة الإنترنت تزخر بالأخطاء المطبعية، حتى قادة العالم لا يتوقفون في بعض الأحيان لمراجعة نصوص تغريداتهم قبل نشرها. فمن ينسى التغريدة سيئة الصيت التي أرسلها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب قبل شهور قليلة وأورد فيها لفظة لا معنى لها باللغة الإنجليزية؟
وبينما يمكن أن تكون بعض الأخطاء الإملائية عديمة الضرر، بل وذات وقع مضحك لطيف، لا تتصف أخطاءٌ أخرى بذلك. فالتبعات السلبية للخطأ المطبعي البسيط، لا تقتصر فقط على أنه يُظهرنا أقل ذكاء مما نحن عليه، وإنما تمتد إلى التسبب في حدوث حالة من الإرباك، وكذلك إلى إفقاد النصوص وضوحها ومعناها.
وقد يصل الأمر في حالات ذات طبيعة متطرفة إلى تكبيد شخص أو شركة خسائر بالملايين في صورة مبيعاتٍ مُهدرة أو فرص عمل لم يتسن تجسيدها على أرض الواقع. كما أن أضرار ذلك قد تشمل تقويض علاقات شركة ما بعملائها.
ولكن إذا كنا جميعاً غير معصومين من الهِنات الإملائية، وفي ضوء ما تؤدي إليه التقنيات الحديثة من جعل تلك الأخطاء أكثر شيوعاً، فهل يعني هذا أن الالتزام الدقيق بقواعد الإملاء لم يعد ذا قيمة؟ وهل صار من المقبول أن نخطئ في تهجئة الكلمات وكتابتها؟
التدقيق الإملائي جزءٌ من المشكلة
رغم أن الأدوات المستخدمة في التدقيق الإملائي قد تبدو حلاً لهذه المشكلة، فإنها تخلق مشكلة جديدة، حسبما تحذر آن تروبِك الخبيرة في التقنيات الجديدة للكتابة ومُؤسسة ما يُعرف بـ”حزام الكتابة” في ولاية أوهايو الأمريكية.
فبينما كشفت دراسة مقارنة جرت على مدار سنوات طويلة، أن الأخطاء الإملائية كانت أكثر ما يرتكبه الطلاب الجامعيون الأمريكيون في أبحاثهم من أخطاء، فقد اختلف الأمر الآن، وفقاً لما تقوله تروبِك، ليصبح المركز الأول على قائمة الأخطاء هذه من نصيب استخدام المفردات الخاطئة.
فالوسائل التقنية المُستخدمة في “التدقيق الإملائي” أحياناً ما تصحح أخطاءنا في هذا الشأن عبر وضع مفردة مختلفة تماماً عن تلك التي نقصدها، في النص المكتوب. ويعني ذلك أن هذه الأخطاء التي سببها الكمبيوتر ستبقى إذا لم يخضع النص إلى مراجعة وتدقيق لاحقين.
كما تسهم تقنيات جديدة – مثل تقنية “سيري” التي ابتكرتها شركة “آبل” – في تفاقم حالة اللامبالاة حيال مسألة الاهتمام بالالتزام بقواعد الإملاء. وتقول تروبِك في هذا الشأن إنه إذا نظر المرء إلى تطور تقنيات الكتابة بدءاً من استخدام الريشة مروراً بقلم الحبر السائل وصولاً إلى قلم الحبر الجاف ثم لوحة المفاتيح المتصلة بالكمبيوتر، فسوف “يرى أن الهدف من كل ذاك تمثل في الإسراع (بوتيرة الكتابة) لأنك تريد أن تجاري إيقاع الأفكار التي تموج في رأسك، ويقوم برنامج ‘سيري’ بذلك على أفضل وجهٍ ممكن”.
وربما يكون “التصحيح التلقائي” هو السبب وراء خطأ إملائي جسيم ورد مؤخراً في بيان صحفي رسمي صدر عن البيت الأبيض الأمريكي، كما يقول البروفيسور سايمون هوروبين، أستاذ الأدب واللغة الإنجليزية في جامعة أكسفورد، مُشيراً في هذا الصدد إلى بيانٍ دعت فيه الرئاسة الأمريكية إلى “الخوخ” بدلاً من “السلام” في الشرق الأوسط، نظراً إلى تشابه المفردتين باللغة الإنجليزية.
ويؤكد هوروبين هنا أن المرء سيبقى عرضة لمواجهة مشكلاتٍ شتى ومتنوعة، إذا حَسِبَ أنه توصل إلى تقنيات تكفل الحيلولة دون وقوع أي أخطاء بشكل كامل، وهو ما يعني أنه سيظل مُطالباً بتعلم “كيفية تهجئة الكلمات” بدقة.
ويحذر هوروبين – مؤلف كتابيّ “هل الهجاء مهم؟” و”كيف أصبحت اللغة الإنجليزية على هذه الشاكلة” – من النظرة التي يُكِنُها الناس لمنشوراتهم ذات الطابع قصير الأمد مثل التي ينشرونها على الشبكة العنكبوتية، قائلاً إنهم يعتبرون تلك النصوص عابرةً أو سريعة الزوال “ولكن في حقيقة الأمر، يتمثل جانبٌ من وظائف الإنترنت في جعل هذه النصوص متاحةً دوماً ، لذا سيظل الناس قادرين على قراءتها بعد سنواتٍ عدة”.
يُقيّم المرء من خلال أخطائه الإملائية
في عام 2016 كشف مسحٌ أجراه أحد مواقع المواعدة على شبكة الإنترنت، وشمل 5500 من العُزّاب الأمريكيين، أن 39 في المئة من المستطلعة آراؤهم قيّموا مدى توافقهم مع الراغبين في إقامة علاقة عاطفية معهم، من خلال مدى إلمام هؤلاء واستيعابهم لقواعد اللغة والنحو. وأشار هذا الاستطلاع إلى أن ذلك المعيار كان أكثر أهمية من ابتسامة أولئك الأشخاص في الصور أو ما يبدو من تحليهم بالذوق في انتقاء الثياب، بل وحتى أهم من حالة أسنانهم.
كما أظهر أحد الأبحاث أن الناس غالباً ما يسارعون بإغلاق موقع إلكتروني ما، بمجرد رصدهم لأي خطأ إملائي فيه، وذلك خشية من أن يكون هذا الموقع مُضللاً، وذا أهداف تنطوي على احتيال.
ومن جانبها، تقول روزلين بتلين الأستاذة الجامعية المشاركة في علم الكتابة بجامعة كوينزلاند الاسترالية إن الشركات تدرك أن جزءاً من صورتها يعتمد على مدى دقة النصوص الصادرة عنها وسلامتها إملائياً.
وتضيف بتلين بالقول إن ارتكاب الأخطاء الإملائية، بما في ذلك وضع الفواصل العليا المرتبطة بالملكية وغيرها في اللغة الإنجليزية، هو أسرع ما يفقدك المصداقية ويجعلك تبدو مُفتقراً للتعليم أو الثقافة.
وتشير إلى أن هناك العديد من القضايا التي نُظرت أمام المحاكم حول مسائل متعلقة بالإملاء والتهجئة. ومن بين هذه الدعاوى، قضية سُويت مؤخراً تتعلق بشركة من المملكة المتحدة تحمل اسم “تايلور أند سَنز”، وبلغت قيمة التعويضات المطلوبة فيها ملايين من الجنيهات الإسترلينية، بسبب خطاً إملائي ناجم عن حرفٍ واحد ناقص.
وفي واقع الأمر، قد يشكل افتقار المرء إلى قدرٍ معين من الكفاءة والبراعة في هذا الشأن عاملاً يحول دون حصوله على وظيفةٍ من الأصل. فبحسب روزلين بتلين؛ يطلب الآن الكثير من أرباب العمل في استراليا من المتقدمين لنيل وظيفةٍ ما، خوض اختبارات لتحديد مستواهم في الكتابة.
وتضيف هذه السيدة بالقول إنه قد تكون لدى الشبان المتخرجين من الجامعات كل المهارات المطلوبة على صعيد القدرة على التواصل مع الآخرين، ولا يحصلون على وظائف في نهاية المطاف، وذلك لأن أصحاب المؤسسات والشركات يقررون عدم منحهم فرص عمل “إذا كانوا عاجزين عن الكتابة بشكلٍ متماسك”.
وفي السياق نفسه، شهدت المملكة المتحدة عام 2015 دراسةً مسحية أُجريت على رؤساء شركات توظف مجتمعةً أكثر من 1.2 مليون شخص، وذلك لحساب اتحاد الصناعات البريطانية، وهو جماعة ضغط تمثل الشركات والمؤسسات الاقتصادية في هذا البلد. وقد كشفت الدراسة النقاب عن أن 37 في المئة من أرباب العمل غير راضين عن مستوى معرفة القراءة والكتابة والقدرة على استخدام اللغة الإنجليزية بين خريجي المدارس والجامعات في بريطانيا.
وتضيف مورغان أن المهارات الخاصة بالقدرة على الكتابة دون ارتكاب أخطاء إملائية باتت مطلوبة الآن أكثر من أي وقت مضى. وتضرب مثالاً على ذلك بالقول إنه “إذا كان المرء يتعامل مع الاستفسارات الواردة إلى خدمة العملاء عبر موقع تويتر، فربما سيكون (تواصله مع العميل من خلال هذه الوسيلة) هو التفاعل الوحيد بين ذاك العميل والشركة، ولذا فإن نوعية تلك الرسالة التي سيوجهها (للعملاء) وطبيعة استخدام اللغة فيها، يكتسبان أهميةً فائقة”، تماماً كحرص العاملين في متجرٍ ما على رسم الابتسامة على وجوههم خلال التعامل مع الزبائن أو اهتمام موظفين آخرين بالتواصل الكفء مع العملاء عبر الهاتف.
عندما يكون التنويع في طرق الكتابة مقبولاً
رغم ذلك، فمن المقبول في بعض الأوقات وجود أخطاء إملائية أو استخدام اختصارات لعبارات أو أسماء مؤسسات أو منظمات أو حتى اللجوء إلى صيغٍ مختصرة من المفردات. وتضرب مورغان مثالاً في هذا الشأن باستخدام المغردين مفردة Biz، بديلاً عن كلمة Business في تغريداتهم.
وهنا تشير توربِك إلى أن بعض السياقات تتطلب استخدام لغة غير رسمية. وتسوق مثالاً على ذلك بأن المرء قد يصبح في مشكلة “إذا استخدم قواعد الخطابة الرسمية بشكلٍ مفرط خلال كتابته رسالة بالبريد الإلكتروني إلى نائب مديرٍ لا يزيد عمره عن 21 عاماً، ووجه له الخطاب في الرسالة قائلاً عبارةً على غرار ‘عزيزي السيد جونز'” على سبيل المثال.
ولكنك لن تعدم من يعكفون على رصد تلك الأخطاء الإملائية والتنبيه إليها، حتى في عالم وسائل التواصل الاجتماعي، أو ربما بفعل هذه الوسائل بشكل خاص، من قبيل أولئك الذين يطلقون على أنفسهم اسم “نازيو القواعد اللغوية والنحوية”.
في الوقت نفسه، قد تجد آخرين يسعون إلى تغطية موقفهم والتحسب مسبقاً لإمكانية وقوعهم في أي أخطاء من هذا النوع حينما يرسلون رسائل بالبريد الإلكتروني من هواتفهم الذكية، تنتهي بعبارة مثل “أُرسِلت على عجل عبر الـ ‘آي فون’، يُرجى الصفح عن أي أخطاء إملائية”.
ونعود هنا إلى سايمون هوروبين، الذي يقول إنه بينما كانت هناك في السابق أعرافٌ متفقٌ عليها على صعيد كتابة الرسائل؛ فإن كتابة النصوص ونشرها على شبكة الإنترنت، أوجدت أشكالاً بينية جديدة للخطاب والكتابة، يكتنف الغموض القواعد الحاكمة لها.
ويقول هوروبين إن ثمة حاجة لأن نُكيّف استخدامنا للغة في العالم الرقمي لتلائم مقتضياته، على غرار ما نفعل حينما نختار طريقة حديثنا والمفردات التي نلجأ إليها فيه، وذلك حسب المناسبة التي سنتحدث فيها. فالطريقة التي نختارها لإلقاء محاضرة تختلف عن تلك التي نتبعها عند خوض مقابلة للتوظيف، أو الثرثرة مع الأصدقاء. وهنا يظهر السؤال: ما هو النهج الأمثل الذي يتعين علينا تبنيه في هذا الشأن؟
ويجيب هوروبين: “فليحرص المرء بشدة على الأعراف التقليدية في هذا الشأن وليتيقن من أن (دقته) الإملائية ترقى إلى المعايير المقبولة. ما لم يحدث هذا فسيحكم عليك الناس بناءً على ذلك. هذا هو الواقع القاسي”.
ويضيف: “من الأفضل أن تكون على صواب، وأن تبدو متحجر التفكير وصعب الإرضاء بعض الشيء، بدلاً من أن تحاول وتبدو (في نهاية المطاف) أكثر تراخياً (في الالتزام بقواعد النحو والإملاء) ويؤول بك الأمر إلى إزعاج البعض، بفعل ارتكابك ضرباً من الأخطاء الأساسية المبدئية، التي يتبنى هؤلاء الأشخاص حيالها موقفاً قوياً بشكلٍ زائدٍ عن الحد”.
ويشير الرجل إلى أن المواد المكتوبة كانت تخضع في السابق لعمليات تدقيق ومراجعة وتصحيح لرصد ما تحتوي عليه من أخطاء بغرض تصحيحها، ولكن المواد التي تُنشر على الإنترنت أصبحت الآن – كما يقول – تظهر وتتناقل من هذا الموقع إلى ذاك بوتيرة متسارعة، وتتضمن أخطاء في أغلب الأحيان.وهنا تقول بيبا مورغان المسؤولة عن القسم الخاص بالتعلم والمهارات في اتحاد الصناعات البريطانية إنه “سيكون من قبيل الخطأ أن نقول للشبان إن دقة الإملاء ليست مهمة في صناعة ما أو موقع وظيفي ما، لأن مثل هذه المهارات الأساسية تشكل بوابةً حقيقيةً إلى الاضطلاع بأدوار وظيفية أخرى، أو إلى تطوير مهاراتٍ” مختلفة.ويقول هوروبين إن عدم الالتزام الصارم بالقواعد الخاصة بالإملاء والنحو واستخدام علامات الترقيم قد يكون مقبولاً على “تويتر” أو “فيسبوك”، لكنه يعتقد أن تحديد مدى ملائمة ذلك في كتابة رسائل البريد الإلكتروني أمرٌ شائك ومعقد. ويتابع: “البريد الإلكتروني يمكن أن يقع في بعض الأحيان في منزلةٍ ما بين ما هو رسمي وما هو غير رسمي”.