كيف يسهم اقتصاد الوظائف المؤقتة في انعدام الأمن الوظيفي؟
285
شارك
الحكمة – متابعة: يحتاج الموظفون في المستقبل أن يكونوا مرنين للغاية لمواكبة إيقاع سوق العمل الجديد، لكن هذه النصيحة تحمل إشكالية لأربعة أسباب، حسبما يقول بيت روبيرستون.
ربما يكون القول الشائع الذي مفاده أن سكان الأسكيمو لديهم 50 مرادفا لكلمة ثلج أمرا مشكوكا فيه، لكنه يفسّر حقيقة أن مفرداتنا تزداد وتتشعب بسبب ظاهرة تواجهنا بشكل متكرر.
فقد اقتصر شكل الوظيفة في القرن العشرين على الأعمال الرسمية، وذات الدوام الكامل، والأعمال الدائمة، بينما توسع اليوم قاموس العمل ليشمل مصطلحات أخرى مثل العمل المؤقت، والعمل محدد المدة، والعمل الموسمي، والعمل المرتبط بمشروع معين، أو العمل الجزئي أو بأجر.
وهناك أيضا العمل المحدد بساعات، أو المشروط بعقود حرة، أو عن طريق الوكالة، أو على شكل عمل حر، بالإضافة إلى الأعمال الثانوية، أو الطارئة، أو الخارجية، ناهيك عن تلك الأعمال القائمة على منصات التواصل الاجتماعي المختلفة، أو هؤلاء العاملين كمصادر خارجية إضافية، أو تبعاً لعقود ثانوية، أو الأعمال غير الرسمية أو غير المصرح بها، وذلك بخلاف الأعمال غير المضمونة، أو الهامشية، أو العابرة.
ويوظف العاملون أنفسهم بأنفسهم اليوم فيما يعرف بـ”أعمال أوبرية” (نسبةً إلى شركة أوبر لسيارات الأجرة)، وذلك للتعبير عن اليد العاملة المسؤولة عن توظيف نفسها بنفسها في سوق اقتصاد الأعمال المؤقتة، وذلك على غرار مصطلح “أعمال ماكيّة”، نسبة إلى من يعملون في مطاعم ماكدونالدز، والذي يشير إلى الأعمال ذات الأجور الزهيدة، والجودة المنخفضة. وحاليا، تحولت مثل هذه الأعمال المؤقتة التي لا تتمتع بالأمن الوظيفي إلى ظاهرة مهمة.
وقد اعتمد قطاع التوظيف في السابق على ضمان الاستمرارية في المستقبل بشكل واضح عندما كانت أشكال العمل واضحة، أما الآن باتت أشكال التوظيف غير المستقر مادةً للبحث.
وقد تحدث تشارلز هاندي، الخبير في علوم الإدارة، في عام 1991 عن هيكلة المنظمات على شاكلة ورقة نبات “البرسيم” للتفريق بين ثلاثة أنواع من الموارد البشرية وهي: الموظفون بدوام كامل، الموظفون بعقود حرة، والموظفون كمصادر خارجية إضافية.
وانعكست تلك الأقسام الثلاثة في توقعات خبير الاقتصاد ويل هاتون المتشائمة حول مجمتع يعاني 30 في المئة منه من الحرمان والتهميش، و30 في المئة آخرون يعيشون حياة غير مستقرة، و40 في المئة فقط يتمتعون بالمزايا المختلفة.
قيل لنا إن الأعمال في بداية القرن الواحد والعشرين ستصبح إما “بلا حواجز” (أي التنقل من مشروع إلى آخر دون الالتزام بمؤسسة)، أو الأعمال “التراكمية” (القيام بنفس طبيعة العمل بشكل متوازٍ مع أكثر من جهة)، أو الأعمال “المتلونة” (حيث يستخدم الموظف مهاراته المتعددة حسب الطلب).
وقد بدأ خبراء في مجال الوظائف النقاش حول ما إذا كان على موظفي المسقبل أن يكونوا مرنين جداً أم لا. وينصح بعضهم بتوديع الأعمال طويلة المدى، وتعلم الرقص بخفة على أنغام سوق العمل غير المستقر، لكن هذه النصيحة تشكل معضلة لأربعة أسباب.
أولاً، رغم وجود الأعمال غير المستقرة سابقاً، حتى أنها كانت القاعدة في مرحلة ما من التاريخ، إلا أنها ارتبطت بأعمال البناء التي تعتمد على العمل في مشروع تلو الآخر، وكذلك الأعمال الموسمية مثل الزراعة، أو توظيف طاقم للإبحار في كل رحلة مختلفة.
أما قطاع الترفيه فكان حرفياً “اقتصاداً مُرتجلاً”، وهذا النوع من الأعمال يُصرف منه الموظف بعد إكماله العمل المطلوب منه.
لكن الجديد في الموضوع هو وصول هذا الشكل من الأعمال إلى قطاعات كان من غير المألوف أن تتبع طبيعة العمل هذه التي ساهمت في نشرها التقنياتُ الحديثة واستخدام العقود المؤقتة التي كانت تُبرم بهدف الحدّ من حقوق الموظفين.
ثانياً، رؤية العالم الجريء الجديد المتمثل في الأعمال “التراكمية” والأعمال “بلا حواجز”، والأعمال “المتلونة”. كانت تلك الرؤية تخص محترفين ممن يقدمون أعمالاً متميزةً ذات قيمة عالية، وتُناسب من لديهم الاستقرار المادي الكافي للتحليق دون وجود شبكة الأمان التي يوفرها الدخل المنتظم عادةً، ولم تُبتكر هذه الأفكار لعمال توصيل الطلبات على الدراجة أو سائقي سيارات الأجرة أو موظفي الرعاية الصحية المنزلية، وبالتأكيد ليس لأصحاب الدخل المحدود أو المعدوم.
ثالثاً، فقدَ خطاب إدارة الوظائف القدرة على التفريق بين الواقع وبين ما يجب أن يكون عليه الحال، فتنامي الأعمال الخارجة عن المعايير المعتادة لا يتضمن إلزاماً أخلاقياً للموظفين بطريقة تجعلهم يطوعون أنفسهم ضمن القالب المرغوب، خاصة عندما يُخلي الموظف مسؤوليته من عبء الالتزام لأنه لا يتلقى بدلاً مالياً للإجازات المرضية والإجازات السنوية وأجرة التنقل من أجل العمل.
وتتيح المرونة في الموارد البشرية للشركات تقليص أو توسيع العمليات بشكل سريع وبأقل كلفة ممكنة، ولا يتعلق الأمر بخفض الأجور فحسب بل بتخفيض الشركة لمستويات المخاطرة الاقتصادية، بينما تزداد حصة الموظفين من تحمُّل المخاطرة.
وقد تكون المنافسة العالمية في هذا المجال تحدياً لا مفر منه، لكن هذا لا ينطبق على التزامٍ بنظام الشركة في اقتسام الربح والمخاطرة على حد سواء.
وأخيراً، تسهل التقينات الحديثة تخصيصاً سريعاً لمهمات العمل، لكنها قد تفكك في ذات الوقت الأعمال إلى مهام مصغرة يتم خلالها بيع وشراء العمل عن بُعد، وبهذا فإن الآثار الجانبية تكمن في إلغاء الجانب الشخصي من العلاقة بين الموظف والمشرف، وتُبعد الموظفين عن التفاعل مع زملائهم، وتدفع لحياة معزولة ومهام تعزز هذه العزلة تجعل من الصعب تطوير شعور عالٍ بالهوية الاجتماعية.
عدم الاستقرار في المملكة المتحدة
أشارت دراسة “تيلور” لممارسات العمل الحديثة إلى إدراك الحكومة البريطانية أخيراً للأعمال الطارئة، حيث دعمت إدخال حالة “متعاقدين مستقلين” كتصنيف للموظفين في العقود، لكن توصياتها ما زالت خجولة.
وقد أخذ نواب البرلمان على عاتقهم مؤخراً متابعة عمليات توظيف عمالقة “اقتصاد الأعمال الحرة” مثل أوبر، وديليفرو، لكن تحريك الأمور ما زال حتى الآن رهن نقاشات قوانين العمل وليس ضمن جلسات التشريع البريطاني بعد.
ليس أمام الموظفين غير المستقرين إلا التأقلم، لكن يمكنهم المقاومة كذلك رغم صعوبة الأمر. فمن الصعب عليهم الحصول على عضوية في النقابات المختصة، كما أن اعتبارهم مشاغبين قد يقلل من فرص العمل لديهم.
وعلى أي حال فإن النقابات هي التي استطاعت تحقيق النجاحات في المناوشات الأولى لما سيكون عليه ما يبدو صراعاً اجتماعياً طويل الأمد، وأحدث مثال هو ما حدث في شركة ماكدونالدز، حيث أضرب طاقم العمل في فرعين في المملكة المتحدة في خطوة غير معتادة من أجل المطالبة بأجور أفضل وعقود أكثر ضماناً واعتراف النقابات بهم.
إنها ليست مسألة ضمان حقوق العاملين فحسب، ولكن قد يتداخل اتباع طريقة العمل غير المستقرة كأسلوب حياة دائم مع مشاكل أخرى في ظل ارتفاع كلفة السكن التي تجعل الفرد رهنا لحياة عاجزة يعتمد فيها على الشريك.
كما إن هناك دلائل على أن للأعمالِ ذات الجودة المنخفضة ضمن نمط عمل غير مستقر آثارا مضرة على الصحة تؤثر بشكل متفاوت على المجموعات الأقل ازدهاراً من الناحية الاجتماعية والاقتصادية.
ولذلك يجب تثقيف الشباب حول مسيرتهم المهنية وإرشادهم بألا يتجاوز تقديمهم المرونة عتبةً معينة، إذ يقع على عاتقنا تجهيز عاملي المستقبل للمساهمة في الترويج لمصالهم والحفاظ عليها، وإعطائهم فرصاً عادلة لإصلاح الخلل في سوق العمل الحديث.