نصوص مأساة كربلاء في ميزان النقد العلمي
السيد حسن الحكيم ..
… السلام عليك يا أبا عبد الله وعلى الأرواح التي حلّت بفنائك، عليكم مني جميعاً سلام الله أبداً ما بقيت وبقي الليل والنهار، ولا جعله الله آخر العهد مني لزيارتكم، السلام على الحسين وعلى علي بن الحسين وعلى أولاد الحسين وعلى أصحاب الحسين.
والسلام عليكم يا شيعة الحسين (عليه السلام) والمنتظرين للأخذ بثأر الإمام الحسين (عليه السلام)، والمقيمين لشعائر الإمام الحسين (عليه السلام) والذاكرين الحسين (عليه السلام) والباكين على الحسين(عليه السلام).
هذا البحث يكتسب حسّاسية خاصة من جهات متعددة، في طليعتها أن القضية الحسينية قضية حق وليست قضية تعّصب أو قضية عاطفية مجردة، أو قضية انتصار إلى جهةٍ معينة، أو قضيةً لا تنطلق من منطلقات واقعية، من ثمَّ نحتاج إلى البحث عن نصوص المأساة التي هي المحرك الأساس لإقامة شعائر الإمام الحسين (عليه السلام).
ولفهم حقيقة ثورة الإمام الحسين (عليه السلام) نحتاج إلى نظرة دقيقة وعلمية في تقييم هذه النصوص، وهذا الأمر من الأمور الحساسة التي قد يُحجم البعض عن الخوض فيها بسبب النتائج الحساسة التي قد يصلون إليها، بل قد يكظم البعض الغموض الذي يكون عنده حول هذه النصوص، فتبقى في داخله أسئلة وإثارات بل قد ترتقي إلى مستوى الشبهات التي تجعل تفاعله مع هذه النصوص تفاعلاً باهتاً بارداً.
ومن ثمَّ نحتاج إلى اهتمام استثنائي ـ وخصوصاً في أروقة البحث العلمي الحوزوي ـ لتناول هذه القضية وتدارسها والوصول فيها إلى ما ينبغي ان يكون عليه البحث على أسس علمية.
والحمد لله أن الحوزة العلمية الشريفة أكثر ما تهتم بنقد النصوص وتقييمها والجمع بينها فيما لو اختلفت وتعارضت تعارضاً بدوياً كما يعبرون.
وينبغي ان يكون كل نصٍ وكل بحث وكل أمرٍ يرتبط بواقعنا التاريخي يكتسب هذا القدر من الاهتمام الحوزوي سواء كانت قضية الزهراء (عليها السلام) أم فضائل أهل البيت (عليهم السلام) وما يروى عنهم من معاجز وكرامات ام القضايا التي تتعلق بالإمام المهدي (عجل الله تعإلى فرجه) وجعلنا الله من أنصاره وأعوانه، أو غيرها.
في بحثنا هذا سنتناول نصوص مأساة كربلاء وقبل الدخول في صلب الموضوع ينبغي ذكر أمرين:
الأمر الأول: عندما نقول نصوص مأساة كربلاء نقصد نصوص حوادث ما قبل المقتل أي ما قبل عاشوراء، وحوادث يوم العاشر ثم حوادث ما بعد المقتل التي ترتبط بهذا الجانب.
الأمر الثاني: نحن دائماً حينما نعالج ونتصدى لذكر مصيبة الإمام الحسين (عليه السلام) أو نستمع لمصيبة الإمام الحسين (عليه السلام) قد يحول الدمع – الذي يتفجر في القلوب قبل العيون في – دون ان ننظر إلى الأمور نظرةً ثاقبةً دقيقةً، ومن ثمَّ سنحاول اليوم ان نهتم بهذا الأمر اهتماماً علمياً قبل ان يكون اهتماماً وجدانياً عاطفياً.
يمكن تقسيم نصوص مأساة كربلاء إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: النصوص القطعية الصدور
أي النصوص اليقينية التي يقطع الإنسان بتحقق مضامينها عند ملاحظتها مثل النصوص التي نقلتْ أصل استشهاد الإمام الحسين (عليه السلام) وعائلته وأصحابه والنصوص التي روتْ مشهد الرؤوس، فإنها كثيرة على نحو لا يبقى أي مجال للإنسان ان يشك في مضمونها.
وكذلك النصوص التي تحدثت عن أصل السبي أي سبي عائلة الإمام الحسين (عليه السلام) وهكذا النصوص التي تحدثت عن العطش الذي اصاب الإمام الحسين (عليه السلام) وأصحابه وعائلته وأطفاله، وكذلك حملات التشهير التي قام بها الأمويون في مقابل الإمام الحسين (عليه السلام) وعائلته وهذا الأمر لا زالت بقاياه موجودة حتى هذا العصر، وغيرها من النصوص التي بلغت حدَّ التواتر.
الموقف تجاه هذه النصوص:
الموقف تجاه هذه النصوص واضح فانها تعتبر مرتكزات أساسية قطعية ويقينية تجاه القسمين الآخرين.
والكلام فيها واضح لا يحتاج كبير عناء، فهي تمثّل أوضح مصاديق قوله (عليه السلام): (حدثّوا شيعتنا بما جرى علينا)، فنحن حينما نذكر هذه الأمور ونتذاكرها، لابد ان تؤثّر أثرها في نفوسنا وتتحقق نتائجها ونتعامل معها كحقيقة ثابتة لأنها حقيقة تاريخية يقينية.
القسم الثاني: النصوص القطعية البطلان
أي النصوص التي يقطع الإنسان ويتيقن بعدم صحتها وكذبها. وهنا نحتاج إلى بحث كيفية القطع بخطأ نص من النصوص، إذ يحدث أن بعض الناس يُسارع ويكون عجولاً وسطحياً في القطع بخطأ هذا النص أو ذاك، فيقول: هذا غير معقول.
هذه الحالة المتعجلة غير الدقيقة في تقييم النصوص تعتبر حالة من الجهل وليست حالة علمية، والإنسان يحتاج ان يكون عنده وفي افقه العلمي سعة بحيث يستطيع ان يستوعب كثيراً من الأمور ثم بعد ذلك يخضعها إلى ميزان النقد والبحث. والحديث في هذا المجال طويل ويمكن ان يُعتبر كمنهج يطبّق على كل نصوص المأساة وسنضع بعض الإشارات لهذا المنهج _ لأن هذا يحتاج إلى دراسة مستفيضة أكثر_ ونذكر بعض الأمثلة (1):
المثال الأول:
النصوص التي تذكر ان الإمام الحسين (عليه السلام) طلب أن يضع يده في يد يزيد (لعنه الله).
هذا النص منافٍ لحقائق في المأساة، حقائق تاريخية وحقائق ترتبط بأصل عقيدتنا وإيماننا بأهل البيت (عليهم السلام) وإنها حجور طابت وطهرت تأبى ذلك، وتؤثر مصارع الكرام على طاعة اللئام وانها انوف حمية… الخ.
ثم هذا يؤدي إلى أن يكون موقف الإمام الحسين (عليه السلام) بدرجة من التذبذب بحيث هو ينطلق ليأخذ الخلافة ثم مباشرة يتحول ليضع يده ويكون طائعاً ليزيد!!!.
هذا شيء منافٍ جدّاً لعصمة الإمام الحسين (عليه السلام) وللحقائق التاريخية، فحتى مَنْ لا يؤمن بالعصمة يمكن ان نلزمه بخطأ هذا النص على أساس الحقائق التي سجّلها التأريخ المتواتر التي تثبت ان الإمام الحسين (عليه السلام) كان صاحب نهضة وثورة وكان عنده استعداد عالي للنهضة وانه لم يقتل فقط على أساس مشكلة انه لا يوافق على ان ينزل على حكم ابن زياد فقط.
المثال الثاني:
يقول البعض بشكل قاطع وجازم: انّا لا نتعقل كل النصوص التي تعرض الحوراء زينب (عليها السلام) أو نساء الإمام الحسين (عليه السلام) وكأنها تعاتب أخوتها وتطالبهم بالنهوض لنصرتها ونجدتها؛ وذلك لأن هذا أمر لا يناسب موقف الحوراء زينب (عليها السلام) فأنها امرأة رسالية وكان لها دور، فغير معقول أن يصدر منها هذا الكلام الدال على الضعف و… الخ.
هذا الفهم لتقييم النصوص خطأ؛ لأنه عندما نفهم الحوراء (عليها السلام) انها عالمة غير معلّمة وانها قامت نيابةً بدور التبليغ الذي يقوم به الإمام زين العابدين (عليه السلام), وغيرها من الأمور التي تحتاج إلى مستويات عالية جدّاً من العظمة والقرب من الله والتكامل لا يعني ان نلغي ان الحوراء كانت انسانة وعندها وجدان وعاطفة تجاه اخوتها، ولا يلغي ان تعيش الحوراء زينب (عليها السلام) حالة من الحزن المنقطع النظير لمصيبة هي أيضاً منقطعة النظير، يعني ان هذا الانعكاس الذي في قلب الحوراء زينب (عليها السلام) وبنات الإمام الحسين (عليه السلام) وعائلته طبيعي جدّاً؛ لان المصيبة بلغتْ درجة عالية من القسوة والفضاضة إلى حدٍّ عندما يكون الإنسان في مقابلها جامداً وبارداً يكون غير طبيعي وتكون حالته هذه غير طبيعية، امّا مَن يتفجّر حزنه ويظهر بمظاهر عتاب أو مظاهر كلام معين كقولها (عليها السلام): (لو ان القوم خيّروني بين البقاء عندك والرحيل عنك لأخترت المقام عندك ولو ان السباع تأكل من لحمي… الخ) (2) يكون أمراً طبيعياً، فأي مانع من أن نتقبّل هذه النصوص كمظهر من مظاهر التفجّر الوجداني الذي يكون انعكاساً لتلك المصيبة.
وهذا أيضاً ينطبق على رواية أخرى للحوراء زينب (عليها السلام) وهي: (ان الحوراء زينب (عليها السلام) حينما رأت رأس الإمام الحسين (عليه السلام) ضربت رأسها بالمحمل فسال الدم على رأسها).
أحد المؤمنين المحبين للحوراء زينب (عليها السلام) يقول: هذا غير منطقي غير معقول؛ لأن هذا معناه ان الحوراء (عليها السلام) خرجتْ عن طورها، ثمَّ يقول: انا لا أُريد ان أعبّر تعبيراً أكثر من هذا، يعني هو في نفسه أكثر من هذا.
هذا الكلام أيضاً غير علمي وهو من باب ان الإنسان يفترض ظنوناً معينة على أساسها يحاكم النصوص، أي عنده مسلمات سابقة ليست مبرهنة ولا مستدل عليها.
فهذا خطأ وأنا اعرض بخدمتكم لماذا هو خطأ؟(3).
الحوراء زينب (عليها السلام) موازينها هي موازين الشرع، والشارع قال لنا: كل الجزع مكروه إلاّ الجزع على الإمام الحسين (عليه السلام)، فنفس هذه الحالة عندما تكون مظهر من مظاهر الجزع وأذِن بها الشارع بل نَدبَنا وشجعنا ودعانا لان نجزع على الإمام الحسين (عليه السلام) فأي مانع منها وأي محذور فيها؟؟.
صحيح هذه الحالة كمظهر من مظاهر الجزع غير الطبيعية ولكن المصيبة أيضاً هي غير طبيعية، فالإنسان حينما يواجه مصيبة أو يواجه شيئاً مؤذياً فمن الطبيعي كلما يكون ذلك الشيء مؤذياً بدرجة أكثر فأن ردّ الفعل والانعكاس الذي يكون لذلك أشد.
فمثلاً إذا واجه الإنسان طفلاً سقط على الأرض تجده يتألم ويبدو على وجهه الامتعاض، امّا إذا دُهِسَ بسيارة، وسالت دماؤه فهنا تجده أكثر يتألم، وهكذا.. .
امّا إذا كانت المصيبة مصيبة الإمام الحسين (عليه السلام) والرأس المقطوع هو رأس الإمام الحسين (عليه السلام)- نحن صحيح نريد ان نفكر تفكيراً علمياً، ولكن هذا التفكير العلمي يقتضي ان ننظر إلى الأمور من جميع جوانبها- هذا الإمام الحسين (عليه السلام) وليس شخصاً عادياً، ثم نفس مظهر قطع الرأس لو أنت تصورّته تصوراً حقيقياً لما استطعت ان تتمالك نفسك، فلو شاهدت جثة ميت عزيز عليك، وأنت حالك بالنسبة إليها طبيعي؟!. كيف إذا رأيت رأسه مفصولاً عن الجسد؟!!. هنا يكاد الإنسان ان ينفجر غيظاً وحزناً وأسىً على ان يشهد هذا المنظر، فكيف إذا كان الذي يشهد المنظر هو الحوراء زينب (عليها السلام) التي هي أعرف الناس بالإمام الحسين (عليه السلام) وكيف إذا كان الرأس هو رأس الإمام الحسين (عليه السلام) وكيف إذا كان هذا الموقف مسجّل في أول مشهد تشهده الحوراء زينب (عليها السلام) بعد ان تفارق الإمام الحسين (عليه السلام) بسويعة وهو يودعها ويدافع عنها وعن حريمه، كما تذكر بعض الروايات في آخر وداع، قال بن سعد: ارموا الرجل ما دام مشغولاً بتوديع حرمه، فرموا السهام إلى داخل المخيم، فشك بعضها أُزر النساء فدهشن، فخرج الإمام الحسين (عليه السلام) يقاتل ويدافع عن حريمه والنساء ينظرن إليه، هذا مشهد، ثم في آخر مشهد تشهد رأس الإمام الحسين (عليه السلام)، فهذا طبيعي يستوجب موقف شديد واستثنائي، ألم نسمع عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في نهج البلاغة ـ وهو يذكر مصيبة من المصائب التي جرتْ وكانت بسبب تخاذل بعض المسلمين عن نصرة مسلمين آخرين ممن تعرضوا لعدوان من قِبل جماعة معاوية ـ قوله: (فلو ان رجلاً مسلماً مات من بعد ذلك أسفاً مما كان به ملوماً، بل كان عندي جديراً) (4).
فالموت بحسب تعبير الإمام علي (عليه السلام) يكون به الشخص جديراً فكيف بواقعة الطف؟! ومع هذا الحوراء زينب (عليها السلام) لم تمت، قد يكون لولا أن الحسين (عليه السلام) قال لها: (ربط الله على قلبك بالصبر) لكان قد ماتتْ، فان الإمام زين العابدين (عليه السلام) في بعض الروايات عندما رأى المشهد الدامي وهو مشهد الجثث مقطوعة الرؤوس قال: (كادت نفسي ان تخرج، حتى اقتربت منّي عمتي زينب (عليها السلام) وقالت لي: مالي أراك تجود بنفسك يا بقية الماضين وثمال الباقين… الخ). فان يكون مظهر هذا الحزن والتفجع بهذه الطريقة هذا شيء طبيعي وليس من حقك ان تلغيه بشكل قطعي ونهائي.
فلا ينبغي ان ننظر إلى الأمور بهذه النظرة الناقصة.
وانتم يا مَن تدينون ذكر الإمام الحسين (عليه السلام) على أساس العَبرة فقط وتدعون العِبرة أيضاً، وتؤكدون على البرامج التي قامتْ بها الحوراء زينب (عليها السلام) التي كان لها أثر كبير في توعية الأمة لأجل ان تكون نظرتنا كاملة، لا تقعوا في نظرة ناقصة أخرى، فلتكن نظرتنا كاملة، فهذه الحوراء زينب (عليها السلام) لا بأس انها حينما تنظر إلى رأس الحسين (عليه السلام) بتلك الحالة تتفجع وتتألم وتدمع ويحزن القلب ولا تقول ما لا يرضي الرب.
هذا هو الحدّ، الحدّ ان لا يقول الإنسان ما لا يرضي الربّ، ولكن هي هذه المرأة بنفسها تقف في قصر الأمارة أو قصر يزيد (لعنهم الله) وأيضاً لتشهد ما يرتكبه ذلك اللعين من التشفي برأس الحسين (عليه السلام) وهي تقول هذا الكلام، وقلبها مفعم بالألم.
اذن هذا الخزين العاطفي المأساوي الذي كان انعكاساً لتلك المجزرة التي لم يشهد التأريخ نظيراً لها، من حيث شخوصها لا يمكن ان نُلغيه؛ لان هذا له دور في إبقاء وتحريك هذا الجانب الرسالي في القضية.
اما أن ننظر نظرة ناقصة، هذا في الحقيقة من الإجحاف والظلم لنصوص مأساة كربلاء، ان نتعامل معها بهذه الطريقة. فكوني لا أفهم هذا الأمر أو أنا أعيش حالة جمود أو حالة برود تجاه الإمام الحسين (عليه السلام)، فما أتعقل أن شخصاً ما، يجزع ويتألم للإمام الحسين (عليه السلام) بهذه الطريقة؛ لان أنا انظر إلى الإمام الحسين (عليه السلام) كوجود تأريخي وكرقم ليس إلاّ، ولا أنظر إليه (عليه السلام) كمصدر ومنبع ولائي.
يا مؤمنون: الإمام الحسين (عليه السلام) وليُنا، الإمام الحسين (عليه السلام) حبيب قلوبنا فإذا أنا جمدتُ موقفي العاطفي تجاه أهل البيت (عليهم السلام) خسرتُ مودّتهم التي هي أجر الرسالة (قل لا أسألكم عليه أجراً إلاّ المودة في القربى) (5).
فلابدّ لان نأخذ هذا الجانب بعين الاعتبار، طبعاً أُكد مرة أخرى: لا يعني هذا أننا ننطلق بمنطلقات عاطفية صرفة من دون أن نخضعها لموازين البحث العلمي بحيث نقول بما تملي عليه عواطفنا ونغالي ونبالغ ونختلف من الروايات ما شئنا وندعي… الخ. بل هذا في الحقيقة ليس مناسباً للعاطفة الحقيقية بل هي خيال فقط.
المثال الثالث: قضية عرس القاسم (عليه السلام)
يقول البعض ليس من المعقول ان تكون هذه المشاهد التمثيلية التي تمثّل واقعة كربلاء عندما تذكر قضية القاسم (عليه السلام) طبعاً أنا لا أدعي ان القاسم (عليه السلام) كان في يوم كربلاء له عرس بهذا المعنى، أمّا أن القاسم شاب في مقتبل شبابه وهو أمانة من الإمام الحسن (عليه السلام) عند الإمام الحسين (عليه السلام) من الطبيعي جدّاً أن يفكر في زواجه وتوجد نية لزواجه، فالإنسان حينما يستشهد وهو بصدد الزواج بهذا النحو من الطبيعي كونه عريساً يثير الشجون أكثر، فلماذا نريد ان نلغي هذه القضية من واقعة كربلاء أي مبرّر لإلغائها؟
اما تقول هذه – قضية عرس القاسم (عليه السلام) – غير معقوله وغير منطقية وهذه غير مناسبة، غير واقعية.
فالواقع هذا الكلام يقوله بعض الناس السطحيين حتى العوام في بعض الأحيان يكونون أفهم وأوعى مني ومن أمثالي، وليس غريباً، لأن هذا يعيش حالته العاطفية. وأنا شخصياً أعرف في بعض المناطق في ايران عندما يتوفّى شخص يكون بصدد زواج ولم يتزوج، يأتون بخطيبته ويلبسونها أبهى ما تلبس من حُلل وملابس، ثم يبدأون بالزغاريد، فهم يريدون ان يتعقلوا الفقيد، ويستحضرونه بأكثر ما يمكن استحضاره، فالإنسان حينما يواجه فجيعة أو مأساة – لا فجعكم الله بعزيز وإن كنّا جميعاً مفجوعين بالإمام الحسين (عليه السلام) وأهل البيت (عليهم السلام) بل أخذت الفجائع طريقها إلى شيعة أهل البيت (عليهم السلام) – يريد ان يستحضر الفقيد ويكون من أصعب الأمور عليه ان ينساه فيصير عنده اهتمام ويشعر ان وفاءه لهذا الفقيد هو ان يعيش أجواء الفقيد تماماً، فهؤلاء الناس يبدأون بالزغاريد؛ لأجل ان يتذكروا حُلُم الزواج الذي لم يتحقق.
فإذا كان عندنا عريس في كربلاء فما هي المشكلة في هذا الأمر ولماذا نرفض هذا الشيء؟ ولماذا نعتبره امراً باطلاً؟ إذا كانت الرواية موجودة وتتحدث عن هذا الأمر ما هو المانع من ذلك، فأيّ مانع ان يكون بصدد زواج وعرس، وهو ابن الإمام الحسن (عليه السلام). فالإمام الحسين (عليه السلام) قد يهتم بزواجه اكثر ممّا يهتم بتزويج أولاده وطبيعي جدّاً ان يزوجه ابنته، فيهتم ويرعى هذا الولد الذي كان وجهه كفلقة القمر، هو الذي ينطلق ويقاتل الاعداء ذلك القتال، ليس عجيباً ان يُزوج وان كان زواجه مبكراً، وما هو المانع من أن نحاول تجسيد هذا الأمر بأي وسيلة من الوسائل في الشعر أو مشاهد تمثيلية، أو حتى في أفكارنا وفي استشعارنا للمصيبة فيما بين بعضنا البعض حينما نريد أن نتأمل هذه المصيبة، إذا كان هذا الأمر ممكناً؟.
أذن- أريد ان اصل إلى نتيجة والأمثلة كثيرة والبحث قد يطول فيها- المهم ان منهجنا في رفض أي نصٍّ من النصوص وإلغاؤه واخراجه من نصوص المأساة يحتاج لدليل قطعي كامل ينافي هذا النص، فدائماً عندما ترى في نفسك استغراب من شيء حاول ان تتبع هذا الاستغراب وترى منشئوه أين يبدأ؟ فهل يرجع لمخالفة حقيقة قرآنية أم يرجع إلى مخالفة نص متواتر عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أم إلى مخالفة حقيقةٍ تاريخية لا شبهة ولا غبار عليها. فلا بأس ويكون استغرابك في محلّه، امّا أن الإنسان يقول: هذا بعيد؛ لأنه غير معقول، فكلا، فهذه حالة من الجهالة والسذاجة.
وأنا سمعت مباشرة كلاماً من أحد الأشخاص الذي له توجهات استثنائية غير طبيعية في وسطنا الشيعي، ان وجود الكرامة غير معقول؛ لأن القانون الطبيعي أوجده الله سبحانه وتعالى ليس لكي يخترق. نعم، في النبوة تصير المعجزة، أما بعد النبوة، إذا تكامل عقل الإنسان، لا يحتاج حينئذٍ إلى معاجز، المعجزة فقط تكون لتصديق الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم).
فنرد هذه الدعوة ونقول:
ما المانع ان يجعل الله بعض الكرامات لأوليائه، بل قضية ان العقل تكامل أو نمى هل هي قطعية مسلّمة، فقد يكون الله سبحانه وتعالى يُريد ان يُعمق إيمان الناس من خلال كرامة من الكرامات، يريد أن يُقيم الحجة عليهم من خلال كرامة، يريد أن يُبيّن للناس ان القوانين الطبيعية ليست هي نهاية المطاف، وأن هناك خالقاً ومدبراً عنده القوانين، لابد ان تشخص قلوب الناس إليه ونعتصم ونتوكل عليه، من خلال الإكثار من خرق هذا القانون الطبيعي، فالله عزَّ وجلَّ يريد ان يُربينا ويكملنا وبقربنا إليه، يريد ان يعرفنا نفسه. فما هو الضير في ان تظهر هذه الكرامات، يريد ان يجعل لأولياءه وخلفاءه في أرضه الأئمة (صلوات الله عليهم) شيئاً من هذا القبيل، ما الضير في ذلك؟.
ومسألة المعجزة تحتاج إلى بحث مفصّل ولا أريد ان ادخل في تفاصيلها ولكن ان فقط أقول: انه في مسألة المعجزة عندنا تواتر على وجود كرامات.
فأنتم كأشخاص، لو أردتم ان تذكروا ما حدث إليكم أو ما شهدتموه من خوارق للعادة بشكل قطعي ويقيني لا شك فيه، سواء كان من خلال رؤيا أستثنائية أو استجابة دعاء استثنائية أو شفاء مريض استثنائي أو قضاء حاجة استثنائية، فأنا مطمئن في ان تخرج لدينا مجموعة من الكرامات أقول مطمئن ولا أقول مجرد ظن؛ لأني جربت هذا في مجلس وطلبت من بعض الأخوة ان يذكروا ما عندهم من كرامات، فاجتمعن مجموعة من الكرامات، بحيث الإنسان يتيقن بصدور كرامات وخوارق للعادة من خلال كلامهم نفسهم.
وبه وجدنا ان هذا الأمر- وقوع الخارق للعادة- ممكن الوقوع وبه نعرف ان القاعدة التي يستند إليها هذا الرجل واتباعه وأمثاله باطلة غير صحيحة لان الوقوع أدلّ دليل على الإمكان.
فنحن أيضاً لو تكلمنا مثلهم بطريقة مادية لانهم عندهم نزوع للمادة لقلنا لهم ن الإحصاء الميداني يؤكد ان وجود الكرامة ممكن بل هو واقع.
فإذن الروايات التي في نصوص المأساة التي تتحدّث عن شجاعة خارقة للعادة أو استجابة دعاء للإمام الحسين (عليه السلام) خارق للعادة (اللهم أمته عطشاً) وتحدثت عن نطق رأس الحسين (عليه السلام) كان يتلو القرآن:
يتلو الكتاب وما سمعت بواعظ تخذ القنا بدلاً من الأعواد
لا يوجد مجال لتكذيبها، فهذا الشيء يناسب مقام الإمام الحسين (عليه السلام) فانه ليس شخصاً عادياً.
وعلى أي حال كل هذه الأمور لا يوجد مجال وفرصة لان نلغيها ونقول هذه خارجة عن الحقيقة، مادامت تدخل في حدود الممكن.
__________
1ـ ويمكن لبعض الأخوة ان يواصلوا البحث في هذا المجال ليكون مشروعاً لكتاب كامل يعالج نصوص المأساة معالجة نقدية.(المحاضر).
2ـ النص هو (أخي لو خيرت بين الرحيل والمقام عندك لاخترتُ المقام عندك لو أن السباع تأكل من لحمي… الخ) المصدر شجرة طوبى الطبعة الخامسة للمكتبة الحيدرية: المؤلف الشيخ محمد مهدي الحائري.
3ـ وطبعاً لابد ان أشير إلى ان هذا الحديث لا أعني انه قد صدر قطعاً، ولكن المهم لا نريد ان نجزم ببطلانه، أي لا نريد ان نعتبر هذا الحديث من جملة الأحاديث المتيقنة البطلان.
4ـ راجع جواهر المطالب في مناقب الإمام الجليل علي بن أبي طالب لمحمد الدمشقي الشافعي، الناشر: مجمع إحياء الثقافة الإسلامية (قم المقدسة). ونهج البلاغة ج1 تحقيق محمد عبده هذه الخطبة قالها الإمام علي (عليه السلام) عندما أغار سُفيان بن عوفٍِ الاسدي على الانبار وقتل عامله عليها. (المُعدّ).
5ـ الشورى: 23.