فاطمة الزهراء.. البنت والزوجة والأم

575

الحكمة – متابعة: تتسابق الأمم بالاحتفاء برموزها التي تعتبر مشاعل تنير دروبها للوصول إلى المجد والكرامة والسؤدد، لما لتلك الرموز من تأثير معنوي هائل على دفع هذه الأمم لاقتحام التحديات والصعاب، حتى إن بعض الأمم التي تفتقر لمثل هذه الرموز تعمل بكل ما أوتيت من قوة لاختلاقها حتى من أساطيرها الشعبية.

أكثر تلك الرموز تأثيرا على المجتمعات الإنسانية هي الرموز الدينية والوطنية والاجتماعية التي تتسم بالزهد والتقوى والشجاعة والإقدام، ويتضاعف هذا التأثير عندما يكون الرمز امرأة، لما لاقته المرأة من عنت وظلم في المجتمعات على مختلف دياناتها وثقافاتها على طول التاريخ الانساني.

هناك نساء في التاريخ الإسلامي، أصبحن رموزا للنساء في كل مكان وزمان، لما ملكن من عناصر ذاتية حولتهن إلى رموز خالدة، وتتربع على عرش هذه الرموز النسوية في التاريخ الإسلامي، بضعة رسول الله (ص) السيدة فاطمة الزهراء (ع)، التي تمكنت وبإرادة ذاتية صلبه، رغم عمرها القصير، أن تجسد أفضل تجسيد، ما هو المطلوب إسلاميا من الفتاة كبنت وزوجة وأُم.

في الوقت الذي تختلق بعض الشعوب من أساطيرها رموزا للحالة المثالية التي يجب أن تكون عليها البنت والأم والزوجة، تضع الزهراء (ع) أمام نساء المسلمين ونساء العالم أجمع، نموذجا ناجحا وقابلا للاقتداء للحالة المثالية التي يجب أن تكون عليها البنت والزوجة والأم، فنظرة سريعة لحياة الزهراء (ع) كبنت وكزوجة وكأم، ستجعل المتتبع لأدوار حياتها، يقف مذهولا حيرانا في أمر هذه السيدة العظيمة التي كانت “حقيقة” تعيش كباقي نساء عصرها، إلا أن هذه “الحقيقة” تجاوزت الأسطورة.

من بين الذين أدهشتهم عظمة الزهراء(ع)، كان المفكر الإسلامي الشهير العلامة اقبال لاهوري، وبدا ذلك واضحا في قصيدته الشهيرة عن الزهراء(ع)، حيث يقول:

ومجد يشرق من ثلاث مطالع .. في مهد فاطمة فما أعلاها

هي بنت من هي زوج من هي أم من .. من ذا يداني في الفخار أباها

هي ومضة مـن نور عين المصطفى ..هادي الشعوب إذا تروم هداها

و لزوج فاطمة بسورة هل أتى.. تاج يفوق الشـمس عند ضحاها

في روض فاطمة نما غصنان لم.. ينجبهما في النيرات سواها

هناك غصن ثالث نما في روض فاطمة الزهراء (ع)، فات العلامة لاهوري أن يشير اليه في قصيدته، وهذا الغصن ليس سوى بطلة كربلاء عقيلة بن هاشم السيدة زينب الكبرى (ع)، وهي كشقيقيها لم ينجب مثلها في النيرات سوى الزهراء (ع).

عظمة الزهراء (ع) كبنت لخير خلق الله المصطفى الامين خاتم المرسلين محمد بن عبدالله (ص)، وكزوجة ليعسوب الدين اسد الله الغالب على بن أبي طالب (ع)، وكأم لريحانتي النبي الأكرم (ص) الإمامين الحسن والحسين عليهما السلام، ولبطلة كربلاء السيدة زينب الكبرى(ع)، وإن كانت بحد ذاتها فخرا لا يدانيه فخر، الا ان جانبا من هذه العظمة صنعتها الزهراء(ع) بإرادتها الذاتية وبقوة شخصيتها وبإيمانها الذي لا يتزعزع بالإسلام ومبادئه السامية، فنجحت في أن تكون كما اراد الاسلام ان تكون.

صحيح ايضا ان انعقاد نطفة الزهراء (ع) کان بعد أن أكل النبي (ص) من ثمار شجرة طوبى في الجنة ، كما في الرواية عن أبيها الأكرم (ص)، والى هذه الحقيقة يشير حديث النبي(ص) :”فاطمة حوراء إنسية، كلما اشتقت إلى الجنة قبلتها”، ولكن هذه الحقائق لا تعني تجريد الزهراء (ع) من قواها الذاتية التي ساعدتها على تحمل المسؤولية، فهي كانت خير عون وأنيس لأبيها بعد رحيل والدتها السيدة خديجة الکبرى(ع)، فقد وجد (ص) سلوته في الزهراء (ع) فكانت قرّة عينه، وتهتم به (ص) حتى قال عنها: “فاطمة أم أبيها”، فكان (ص) إذا دخلت عليه فاطمة (ع) يقف لها إجلالا ویقبلها وکان يقول (ص): “فاطمةُ بضعة مني من آذاها فقد آذاني, ومن آذاني فقد آذى الله”.

کتب التاريخ الاسلامي متفقة على ان الزهراء(ع) وقفت إلى جنب أبيها في جهاده، ففي معركة أحد عندما جُرح النبي (ص)، خرجت الزهراء (ع) مع مجموعة من النسوة لتضميد الجرحى وبینهم رسول الله (ص)، وحاولت الزهراء قطع الدم الذي كان ينزف من جسده الطاهر، فكان زوجها علي (ع) يصب الماء على جرح رسول الله (ص) وهي تغسله، ولما يئست من انقطاع الدم أخذت قطعة صوف فأحرقتها، حتى صارت رماداً، فذرته على الجرح حتى انقطع دمه.

رفض النبي(ص) كل الخطاب الذين تقدموا للزواج من الزهراء (ع) وكانوا من كبار المهاجرين والانصار، ولكن عندما خطبها الامام علي (ع) وافق النبي (ص) ووافقت الزهراء (ع) على زواجها من علي (ع)، لأنه الكفؤ الوحيد لها، وتم الزواج، فباع الإمام علي(ع) درعه بخمسمائة درهم لدفع المهر، ولتأثيث البيت الذي سيأويهما.

تنقل كتب التاريخ ايضا عن الامام علي (ع) قوله : تزوجت فاطمة (ع) ومالي ولها فراش غير جلد كبش، ننام عليه بالليل، ونعلف عليه الناضح بالنهار.. وإن فاطمة (ع) استقت بالقربة حتى أثرت في صدرها، وطحنت بالرّحى حتى مجلت يداها، وكسحت البيت حتى اغبّرت ثيابها.

يقول التاريخ ان الزهراء جاءت يوماً تشكو لأبيها (ص) ضعفها وتعبها في القيام بعمل المنزل وتربية الأولاد وطلبت منه ان تساعدها امرأة على شؤون المنزل، فلم يستجب النبي (ص) لطلبها، وقال لها : “أعطيك ما هو خير من ذلك”، وعلمها تسبيحة خاصة تُستحب بعد كل صلاة، وهي التكبير أربعاً وثلاثين مرة، والتحميد ثلاثا وثلاثين مرة، والتسبيح ثلاثا وثلاثين مرة، وهذه التسبيحة عُرفت فيما بعد بتسبيحة الزهراء.

يقول الامام علي (ع) عن معاملته للزهراء(ع): “فوالله ما أغضبتها ولا أكرهتها على أمر حتى قبضها الله عز وجل، ولا أغضبتني ولا عصت لي أمراً. لقد كنت أنظر إليها فتنكشف عني الهموم والأحزان”.

ثمار زواج الامام علي(ع) من الزهراء (ع) كانت ثمارا طيبة مباركة ، فقد خرج من الصلب الشامخ والرحم المطهر، رموز قلما تجود بها الدهور، فكان الامامان الحسن والحسين عليهما السلام، وبطلة كربلاء زينب الكبرى عليها السلام، الذين قدموا دروسا للإنسانية في التضحية والفداء والكرامة والعزة والشجاعة والتفاني ورفض الظلم والاستكانة والخنوع، وهي دروس مازالت حتى يومنا هذا تقض مضاجع الطغاة والظلمة.

هذه الإشارات كانت قطرات من بحر الزهراء(ع) ذكرناها لنؤكد ان الزهراء (ع) وصلت الى ما وصلت اليه من منزلة عظيمة كبنت وزوجة وأُم، بفضل تربيتها في أحضان سيد البشر (ص)، وبفضل قوة شخصيتها وارادتها وايمانها بما نزل على صدر ابيها الصادق الامين (ص).

اما دورها بعد رحيل الرسول الاكرم (ص) ، فكشف عن جوانب اخرى في شخصية الزهراء(ع)، فتقول كتب التاريخ أنه لما اعتلت الزهراء (ع) علة الموت، اجتمع إليها نساء المهاجرين والأنصار، يعدنها، فقلن لها: كيف أصبحت يا ابنة رسول الله (ص)؟

قالت:

واللهِ أصبحتُ عائفةً لدُنياكم، قالِيَةً لرجالكم، لفظتُهم بعد أن عَجمْتُهم، وشِنئتهم بعد أن سَبَرتهم، فقبحاً لفُلول الحدّ، وخَوَر القناة، وخَطَل الرأي، وبئسما قدّمَت لهم أنفسُهم أن سَخِط اللهُ عليهم وفي العذاب هم خالدون؛ لا جرم قد قلّدتهم رِبْقَتها، وشنّت عليهم غارتها، فجَدْعاً وعَقْراً، وسُحْقاً للقوم الظالمين، وَيْحَهم أين زحزحوها عن رَوَاسي الرّسالة، وقواعدِ النبوّة، ومَهبِط الرُّوح الأمين، والطبين بأمر الدّنيا والدّين، ألا ذلك هو الخسران المبين.

وما الّذي نَقَموا من أبي حسن؟ نَقَموا واللهِ نكيرَ سيفه، وشِدّة وَطْأته، ونَكالَ وَقْعته، وتنمّره في ذات الله، وتالله لو تكافُّوا عن زِمام نبذَه إليه رسول الله (ص) لاعتَلَقه، ولسار إليهم سيراً سُجُحاً، لا تكلم حشاشته، ولا يتعتع راكبه، ولأوردهم مَنهلاً نَميراً فضفاضاً يطفح ضفّتاه، ولأصدرهم بِطاناً قد تحيّر بهم الرأي، غير متحلّ بطائل، إلاّ بغَمْر الناهل، وردعه سورة الساغبِ، ولفتحتْ عليهم بركات من السّماء والأرض، وسيأخذهم الله بما كانوا يكسبون.

ألا هلمّ فاستمع وما عشت أراك الدهر عجبه، وإن تعجب فقد أعجبك الحادث، إلى أيّ لجأ استندوا، وبأيّ عُروة تمسّكوا! لبئسَ المَولى ولبئس العَشِير، ولبئس للظالمين بدلاً! استبدلوا والله الذُّنَابَى بالقَوادم، والعَجُز بالكاهل؛ فرغماً لمعاطس قومٍ يَحسَبون أنّهم يُحسِنون صُنْعاً: «ألا إنَّهُمْ هُمُ المُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ»، وَيْحهم! «أفَمَنْ يَهْدِي إلَى الحَقِّ أحَقُّ أنْ يُتَّبَعَ أمَّنْ لا يَهِدِّي إلاّ أنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ»! أما لَعَمر الله لقد لقِحت فنظِرة ريْثما تنتَج، ثمّ احتلبوها طِلاعَ العَقْب دَماً عَبيطاً وذُعافاً مُمقِراً هنالك يَخسَر المُبطِلون، ويَعرِف التالون غِبَّ ما أسّس الأوّلون، ثمّ طِيبوا عن أنفسكم نفساً، واطمئنّوا للفتنة جأشاً، وأبشِروا بسيفٍ صارم، وهرْج شامل، واستبدادٍ من الظالمين يَدَعُ فيئكم زهيداً، وجمعَكم حَصِيداً؛ فيا حسرةً عليكم، وأنَّى لكم وقد عُمَّيتْ عليكم أنلزمكموها وأنتم لها كارهون!.

كانت تعرف مدى حب ابن عمها لها فكانت تخشى عليه من فراقها له ، لذلك كانت تصبره على هذا الفراق بقولها : يا أبا الحسن، ان رسول الله (صلى الله عليه واله) عهد الي وحدثني أني أول أهله لحوقا به ولابد منه، فاصبر لأمر الله تعالى وارض بقضائه.

اتفق المؤرخون الشيعة على أن الزهراء (ع) دفنت ليلا، ولم يحضرها أحد إلا سلمان وأبوذر، وعمار، وروى الكليني أنه: لما قبضت فاطمة عليه السلام دفنها أمير المؤمنين عليه السلام سرا وعفا على موضع قبرها ، تنفيذا لوصيتها: “ادفني ليلاً لا نهاراً إذا هدأت العيون ونامت الأبصار، وسرا لا جهارا، وعف موضع قبري، ولا تشهد جنازتي أحداً ممن ظلمني”، وكانت هذه الوصية هي اخر اعتراض لها ازاء الاحداث التي وقعت بعد رحيل ابيها الرسول الاكرم(ص).

بقلم: ماجد حاتمي

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

*