قتلتَ أفضلَ مَنْ يمشي على قَـَــدمٍ وأعظمَ الناسِ إسلاماً وإيـمانا جاء شهرُ رمضان من سنة أربعين للهجرة وهو يحمل بين أحداثه أعظم فاجعة مرّت على المسلمين بعد فقد نبيّهم (صلّى الله عليه وآله وسلم)، هذه الفاجعة التي خطّط لها أشقى الأشقياء عبد الرحمن بن ملجم المرادي (لعنه الله) في مكّة مع نفرٍ من أصحابه الخوارج. رُوي أنّه لمّا دخل شهرُ رمضان كان أمير المؤمنين(صلوات الله وسلامه عليه) يتناول فطوره ليلةً عند الحسن وليلةً عند عبد الله بن العبّاس، وكان لا يزيد على ثلاث لقم، فقيل له في ليلة من الليالي: ما لك لا تأكل؟ فقال: أحبّ أن يأتيني أمرُ ربّي وأنا خميص، إنّما هي ليلة أو ليلتان فأصيب. وروي أنّ الإمام أمير المؤمنين لمّا أراد الخروج من بيته في الصبيحة التي ضُرِب فيها خرج إلى صحن الدار فاستقبلته الإوزّ فصِحْن في وجهه فجعلوا يطردوهنّ، فقال: دعوهنّ فإنّهنّ صوايح تتبعها نوايح… وعن الشريف الرضيّ (رحمه الله) قال: سهر علي(عليه السلام) في الليلة التي ضُرب في صبيحتها، فقال: إنّي مقتولٌ لو قد أصبحت فجاء مؤذّنه بالصلاة فمشى قليلاً، فقالت ابنته زينب: يا أمير المؤمنين مر جعدة يصلّي بالناس، فقال: لا مفرّ من الأجل ثمّ خرج. وفي حديثٍ آخر قال: جعل (عليه السلام) يعاود مضجعه فلا ينام، ثمّ يعاود النظر في السماء، ويقول: والله ما كَذِبتُ ولا كُذَّبتُ، وإنّها اللّيلة التي وُعدت، فلمّا طلع الفجر شدّ إزاره وهو يقول:
أشدد حيازيمك للموت فإنّ الموت لاقيكا
ولا تـجـزع مـن المـوت إذا حــلّ بواديكا
وخرج الإمامُ (صلوات الله وسلامه عليه) وصلّى بالناس، فبينما هو ساجدٌ في محرابه ضربه اللعينُ ابنُ ملجم على رأسه بسيفٍ مسموم، فصاح الإمام (صلوات الله وسلامه عليه): فزتُ وربّ الكعبة. وسار السمّ في رأس الإمام وبدنه، وثار جميعُ من في المسجد في طلب الملعون، وماجوا بالسلاح فما كان يُرى إلّا صفق الأيدي على الهامات، وعلوّ الصرخات، وكان ابنُ ملجم قد ضربه ضربةً خائفاً مرعوباً، ثمّ ولّى هارباً وخرج من المسجد. وأحاط الناس بأمير المؤمنين(عليه السلام) وهو في محرابه يشدّ الضربة ويأخذ التراب ويضعه عليها، ثمّ تلا قوله تعالى: (مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَىٰ) ثمّ قال (عليه السلام): جاء أمرُ الله وصدق رسولُ الله(صلّى الله عليه وآله). فلمّا سمع الناسُ الضجّة ثار إليه كلّ من كان في المسجد، وصاروا يدورون ولا يدرون أين يذهبون من شدّة الصدمة والدهشة، ثمّ أحاطوا بأمير المؤمنين(عليه السلام) وهو يشدّ رأسه بمئزره، والدمُ يجري على وجهه ولحيته الشريفة وقد خُضبت بدمائه، وهو يقول: هذا ما وعد اللهُ ورسولُه وصدق اللهُ ورسولُه. ولم يطق الإمام(عليه السلام) النهوض وتأخّر عن الصفّ وتقدّم الإمام الحسن(عليه السلام) فصلّى بالناس وأمير المؤمنين(عليه السلام) يصلّي إيماءً من جلوس، وهو يمسح الدم عن وجهه ولحيته، يميل تارةً ويسكن أخرى، والحسن(عليه السلام) ينادي: وا انقطاع ظهراه يعزّ والله عليّ أن أراك هكذا، ففتح عينه وقال: يا بنيّ لا جزع على أبيك بعد اليوم، هذا جدُّك محمّد المصطفى وجدّتُك خديجة الكبرى وأمّك فاطمة الزهراء والحور العين محدقون منتظرون قدوم أبيك، فطبْ نفساً وقرّ عيناً وكفّ عن البكاء، فإنّ الملائكة قد ارتفعت أصواتُهم إلى السماء. ثمّ حملوا أمير المؤمنين(عليه السلام) إلى الدار، وكانت زينب وأمّ كلثوم وباقي العلويّات واقفاتٍ عند باب الدار ينتظرنه. فلمّا رأينه بهذه الحالة بكين وقلن صائحات: وا أبتاه، وا مصيبتاه.