الاحتباس الحراري يضرب جذور الحياة على كوكبنا
الحكمة – متايعة: شكّل صيف 2018 أحد الأدلة القويّة على ظاهرة الاحتباس الحراري Global Warming، وتسمّى أيضاً «ظاهرة أثر الدفيئة» Green House Effect، في إشارة إلى تحوّل الكرة الأرضية كياناً محبوساً تحت غلاف من غازات التلوث التي تحبس الحرارة تحتها، فترتفع حرارة الأرض بصورة مستمرة.
وعلى الشاشات، ظهرت فيضانات في الهند وفنزويلا وكمبوديا، وظواهر صيف حار بصورة غير مألوفة في أوروبا الغربية. وامتنعت فرنسا عن رمي مياه مفاعلاتها النووية في نهر السين، لأن تلك المياه حارة بطبيعتها، وإذا أضيفت إلى الحرارة غير الطبيعية التي رمتها شمس الصيف على نهر السين، يحدث موت جماعي لأسماكه وأعشابه النهرية وكل مظاهر الحياة فيه.
ولفهم ظاهرة الاحتباس الحراري وتأثيراتها، يجدر تذكر مجموعة من المعطيات الأساسية في المناخ. وبداية، تتمتّع الأرض بغلاف جوي لا تزيد نسبة غاز الكربون فيه على 0.3 في المئة، مع 21 في المئة من الأوكسيجين، وقرابة 78 في المئة من النيتروجين. وحاضراً، يبلغ معدّل الحرارة على الأرض قرابة 15 درجة مئويّة، ما يتيح للمياه، وهي الشرط الأول للحياة، أن تستقر بشكلها السائل، مكوّنةً بحار الأرض ومحيطاتها وأنهارها وينابيعها.
نور الشمس وأفخاخه الكثيرة
وعلى عكس كوكب الزهرة الحار بسبب قربه الشديد من الشمس، يتمتع كوكب الأرض بظروف بيئيّة نادرة كونيّاً بمعنى أنها ملائمة لاستضافة المخلوقات الحيّة. هل يدوم ذلك الحال، أم أن الاضطراب الهائل في البيئة باتت مهدّداً له؟ فعلى رغم كونه المخلوق الأذكى على الكوكب الأزرق، راكم الإنسان على مدار تاريخه سلوكاً غير مسؤولٍ تجاه كوكبه، وارتكب جرائم متطاولة تجاه حاضنته البيئيّة، وبات يتلمّس طلائع ردود فعلها العنيفة التي تهدّد بقاءه.
ربما يفيد تذكر غياب أشكال الحياة كلها عن كوكب الزهرة عند تأمّل مستقبل الأرض، إذا استمرت تلك الاستباحة الواسعة لمعطياتها وتوازناتها الطبيعيّة. واستطراداً، تفيد مشهديّة الزهرة للتعمّق في فهم خطورة المتغيّرات الشاملة التي تحصل في كوكب الأرض، بأثر من انفلات الاحتباس الحراري الناتج من «مفعول الدفيئة» المتزايد في غلافنا الجوي.
وضع العلماء أسماء عدّة لوصف ظاهرة تصاعد حرارة الكوكب، من بينها «مفعول الدفيئة» الذي اشتقّوه مما يحصل في «الدفيئات الزجاجيّة»، وهي تسمّى أيضاً «البيوت الزجاجية الزراعيّة» و «الخيم الزراعيّة». وفي تلك الدفيئات، تدخل الطاقة الشمسية كأشعة مرئيّة عبر الزجاج فتمتصّها مكوّنات الخيمة من مزروعات وتربة، وتتحوّل إلى حرارة تتراكم في الداخل من دون أن تتمكن من الخروج كأشعة حراريّة. ويشبه ذلك وجود «كمين» تنصبه الدفيئة لطاقة الشمس، فتستدرجها إلى الداخل كضوء مرئي ثم تأسرها كطاقة حراريّة.
ويؤدّي الغلاف الجوي للأرض دور الزجاج في بيوت الدفيئة، إذ تحــــبس غازات التلوث كثاني أكســيد الكربون، الأشعة الحراريّة المنبعثة من الأرض، بل تردّها إلى الأرض ومسطّحاتها المائيّة. وبصورة مجملة، يمتص الغلاف الجوي في كل متر مربع قرابة 0.85 واط من الطاقة، أكثر مما يعكس إلى الفضاء.
ويجدر لفت الانتباه إلى أن الاحترار الذي تعانيه الأرض ناجم عن الزيادة المفرطة في الاحتباس الحراري، مع الإشارة إلى أن «مفعول الدفيئة» مفيد بحد ذاته لو بقي ضمن الحدود الطبيعيّة. وفي وضعه الذي استمر أحقاباً مديدة ضمن الحدود الطبيعيّة، أفاد «مفعول الدفيئة» الأرض في حفظ حرارتها، ما ساعدها في الخروج من عصور جليديّة هبطت فيها حرارتها إلى قرابة 17 درجة مئويّة تحت الصفر!
لنتذكر الثورة الصناعية
في بنيتها الطبيعية المعهودة، تمتعت الأرض تاريخيّاً بتوازنات بيئية تحفظ مناخها العام وحرارتها المعتدلة. وفي ذلك الإطار، أدّت غابات المطر في المناطق الاستوائيّة، بل الأشجار عموماً، دوراً حيوياً في إنتاج الأوكسيجين واستهلاك غاز ثاني أكسيد الكربون، إذ تمتّص الأشجار الغاز الأخير لتكدّسه في خشب بنيتها الصلبة، وهو سبب تسمية الغابات «مصائد الكربون». وفي مثال معبّر، تنتج غابات المطر حول نهر الأمازون، قرابة 40 في المئة من أوكسجين الغلاف الجوي. واستطراداً، يؤدّي تقليص مساحة الغابات بأثر تطوّر الزراعة والتمدين، إلى المساس بإنتاج الأوكسيجين من جهة وإضعاف استهلاك غاز الكربون من جهة ثانية.
منذ انطلاق الثورة الصناعية في القرن التاسع عشر، بدأت البشرية باستخدام الوقود الإحفوري (فحم حجري، وغاز طبيعي، ونفط ومشتقاته)، مع القذف بكميات كبيرة من غازات الاحتباس الحراري التي يأتي في مقدمها غاز ثاني أكسيد الكربون المتسبّب في قرابة 50 في المئة من ظاهرة الاحتباس الحراري. ومنذها، يتراكم ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي بمعدّل 6 بلايين طن سنويّاً! وأثبتت الدراسات أنه خلال القرن الماضي ارتفعت مستويات غاز ثاني أكسيد الكربون بقرابة 30 في المئة، مع توقّع زيادة ذلك الرقم بـ60 في المئة مع حلول عام 2030.
وكذلك يقدّر العلماء أن درجة حرارة الأرض ارتفعت تحت تأثير الثورة الصناعيّة بما يتراوح بين 3 و6 درجات مئويّة منذ عام 1860، كما يتوقّعون أن تستمر في الارتفاع حتى لو أوقف الإنسان إنتاج الغازات المسبّبة للاحتباس الحراري. ترجع تلك الحقيقة المخيفة إلى واقعة أن الغلاف الجوي استمر وقتاً طويلاً في تمرير حرارته إلى المحيطات التي تعمل كتلتها المائية العظمى على اختزان كميات هائلة من الطاقة الحراريّة. وفي الماضي، كانت تلك التغيّرات تحدث بطريقة بطيئة، لكن الخراب الذي تلحقه بكوكب الأرض يتصاعد حاضراً بوتيرة تفوق الوصف.
أحمد شعلان* رئيس الهيئة الوطنيّة للعلوم والبحوث – لبنان
الحياة