مدينة البصرة: الثروة النفطية وبؤس الواقع

588

الحكمة – متابعة: زرت مدينة البصرة قبل أيام قليلة، وكانت توحي بإندلاع احتجاجات شعبية فيها كتعبير عن السخط الذي يعاني منه أهالي المدينة من غياب الخدمات الأساسية، وإنتشار البطالة، من ضمن زياراتي المعتادة لها في كل عام مرة على الأقل، تجولت في عدد من أحياءها وأسواقها غير أن الزائر للوهلة الأولى لهذه المدينة ينبهر منذ وصوله لحدودها الجنوبية في منطقة الرميلة وصولاً إلى شمالها في قضاء المدينة حيث (حقل غرب القرنة) أحد أكبر الحقول النفطية في العالم بكثرة أعمدة اللهب المتصاعد من جراء حرق الغاز أثناء عملية إستخراج النفط الخام من أراضيها.

وبالرغم من زيادة عمليات إستخراج النفط بعد سقوط الدولة المستبدة بحكم إنهاء العقوبات الاقتصادية المفروضة على العراق إلا أن ذلك لم ينعكس على حال مدينة البصرة، إذ في كل مرة أزور بها هذه المدينة لم أرى تغييراً ملموساً على مستوى البنية التحتية والمرافق الحيوية لأحياء ومناطق المدينة، من غياب مجاري الصرف الصحي وبروز المجاري البدائية غير الصحية وغير الحضارية، كما أنها لا تزال تنعدم فيها المياه الصالحة للشرب بل حتى للإستخدامات الحياتية اليومية وزاد في ذلك شحة المياه وغلق مياه الروافد القادمة من إيران، بحيث تكاد تصل نسبة الملوحة في المياه الواصلة إلى بيوت الناس في مدينة البصرة إلى ما نسبته90%.

كما إن الحياة الزراعية معطلة بالكامل، وفي ظل الفوضى السكنية وغياب الإستراتيجيات الحكومية للجانب السكني والزراعي تحولت الكثير من الأراضي الزراعية المهمة التي كانت تصدر المنتجات الزراعية من قبيل محصول التمر إلى الدول المجاورة صارت هذه الأراضي ما يشبه العشوائيات السكنية، إلى جانب ما تعانيه المدينة من فوضى الأحزاب والمجموعات المسلحة والتداخل المخابراتي مابين الدول المجاورة وحتى بعض الدول الكبرى، لأهمية هذه المدينة الجغرافية والنفطية لهذه الدولة وتلك، وتتصاعد أيضا النعرات العشائرية على أبسط المسائل وفرض سطوتها على الحياة الاجتماعية والقانونية.

ولم يسلم واقع البصرة الحالي من العبثية المسؤولة وغير المسؤولة بصيانة وإيجاد شبكات الكهرباء وبالرغم من التحسن الجزئي بمستوى توفير الكهرباء منذ إندلاع الاحتجاجات الشعبية صيف عام 2017 والتي أدت إلى سقوط ضحايا كالعادة عند المعالجات الحكومية البائسة لحل مشاكل المجتمع البصري خاصة والمجتمع العراقي بصورة عامة، عاد إنقطاع الكهرباء هذه الأيام مع إرتفاع درجات حرارة صيف 2018 بصورة متذبذبة وشبه مستمرة في الليل والنهار في ظل إرتفاع درجات الحرارة إلى ما يقارب 50 درجة مئوية، وكأن الناس باتوا يترحمون على المحافظ السابق رغم فساده الظاهر والباطن بالقياس مع وقوف محافظ المدينة الحالي متفرجا على حال مدينته وإحتياجات سكانها من الماء والكهرباء.

وغير ذلك من إنتشار البطالة وسيطرة العمالة الخارجية على مصادر العمل في المحافظة في حين أن أبناءها لا يجدون فرصة عمل تسد رمق الحياة اليومي وتنسجم مع أهمية هذه المدينة كمصدر دخل مالي كبير بالنسبة للعراق. بؤس الواقع هذا الذي تعيشه البصرة من الممكن تغييره إلى واقع نامي، لكن يتوقف على وجود قيادة إستثنائية قوية وأمينة إذا ما قامت هذه القيادة بعمل تنموي وخدماتي للنهوض بواقع المدينة، ولعل في مقدمة المشاريع التنموية والتحتية بل وحتى الإدارية التي تنتظرها مدينة البصرة، تكون على النحو الآتي:

1- بدء يفترض تحديد ماهية إيرادات المحافظة وأوجه صرفها، حيث هناك الموانئ التي تدخل عن طريقها مئات البضائع إلى العراق يومياً، وهناك مليارات الضرائب شهريا التي تجبى للحكومة الإتحادية والتي تذهب بعضا منها للأحزاب المسيطرة على هذه الموانئ -مثلما يشير أهالي مدينة البصرة-، إلى جانب تفعيل مشروع البترودولار من عمليات تصدير النفط الخام من محافظة البصرة للقيام بأعمال تنموية وخدمية من الممكن أن تنهض بواقع المدينة النفطية.

2- تقليص الروتين الحكومي والتداخل في الصلاحيات ما بين محافظة البصرة ووزارات الحكومة الإتحادية في بغداد في تنفيذ المشاريع، لكون هذا الروتين كان سبباً مباشراً في تعطيل أو تأخير عدد من المشاريع، ولعل ليس أخرها مشروع مجاري وإكساء حي القبلة (مشروع القبلة الكبير) في مركز محافظة البصرة، بالرغم من موافقة رئيس الحكومة الإتحادية والمحافظ على الإسراع في تنفيذه بعد حركة الإحتجاج الشعبي التي أقام بها سكان هذا الحي الكبير مساحةً وسكاناً مع الفعاليات الرياضية المقامة في المدينة الرياضية الواقعة بالقرب من حي القبلة.

3- إختيار القيادة السياسية الناضجة والشجاعة والأمينة في تنفيذ المشاريع، وإنقاذ أخرى سيطرت عليها شخصيات وأحزاب فاسدة ولعل غياب وجود مثل هذه القيادة كانت سببا في هدر الأموال وسرقتها أو إرجاع الموازنة السنوية المخصصة لمحافظة البصرة لبعض السنوات.

4- توقيف التدمير الحاصل للبنى الاقتصادية في المدينة كتدمير مصنع الفولاذ (مصنع الحديد والصلب) ذو المنشأ الفرنسي، والذي كان يعد المشروع الأول من نوعه في المنطقة العربية آنذاك، بحجج واهية، ومصالح تخص هذه القوى الحزبية أو تلك أو من أجل ضمان إستمرار صادرات هذه الدولة أو تلك.

5- التفكير الجدي بإعادة الحياة الزراعية والريفية لمدينة البصرة وتذليل العقبات المحلية والخارجية كتحدي يواجه الزراعة المحلية في العراق.

6- العمل على إنشاء مدينة صناعية كبرى في مدينة البصرة بالإستعانة مع الدول الصناعية في قبال جدول زمني للتصدير النفط لدولة المساهمة تساهم إيجابياً في رفع العراق من الناحية الاقتصادية من خلال مكانة هذه المدينة وتشغيل آلاف العاطلين من أبنائها.

7- الإستفادة من اليد العاملة المحلية في الشركات والمؤسسات النفطية العاملة في مدينة البصرة بدلا من العمالة الخارجية والتي باتت تؤثر سلبا على توفير قوت المواطن البصري، وما يتسبب ذلك من تحدي للأمن الوطني والاقتصادي والاجتماعي في مدينة البصرة، وقد يضع حدا للمشاكل الأسرية وحتى العشائرية المتزايدة في مدينة البصرة.

8- الإسراع بتنفيذ المشاريع الخدمية الماسة بصورة مباشرة كمشروع تحلية المياه، وهناك تجارب مشابهة مجاورة لمدينة البصرة قامت بها الكويت -على سبيل المثال لا الحصر- بتحويل مياه البحر إلى مياه صالحة للشرب، كما أن هناك مشاريع معطلة تساهم بصورة سلبية في إنتشار الأمراض كمياه الصرف الصحي، وإبقائها ظاهرة في عدد من أحياء المحافظة تؤدي إلى تدمير كبير للعمران، وإنتشار الأمراض كسبب يضاف إلى أسباب أخرى ناجمة من مخلفات الحرب، فضلا عن تشويه جمالية المدينة الغائبة أصلا منذ سنوات من الجوانب الحياتية والسياحية سواء لأهالي المدينة أو للوافدين لها.

د. أسعد كاظم شبيب
المصدر /  مركز المستقبل للدراسات الستراتيجية

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

*