ماذا وراء موسوعة الغدير؟
كل من يطالع التراث الشيعي العظيم الذي كتبه عظماء التشيّع يلاحظ بوضوح أنّ بعض المصنّفات امتازت عن غيرها من حيث البركة والفائدة والشهرة بين أهل العلم والتحقيق فضلاً عن غيرهم من عامّة الناس.
ومن هذه المصنّفات القيّمة التي لايختلف اثنان في فائدتها وبركاتها هي موسوعة الغدير للعلاّمة النحرير الشيخ عبد الحسين الأميني (قدس سره)، فهي حقيقة من مفاخر التراث الشيعي الخالد.
ويكفي المرء منّا أن يطالع التقاريظ العديدة التي كتبها أرباب العلم والفكر على اختلاف مشاربهم ليعرف أهميّة هذه الموسوعة المباركة، فمن هذه التقاريض هي:
1- تقريظ آية الله العظمى السيّد عبد الهادي الشيرازي (قدّس سره) حيث قال: ولأن وقفت على هذه الموسوعة الكريمة تجد نفسك على ساحل عباب متدفّق لا ينزف، ولا تنكفئ عنها الاّومل ذاكرتك معارف إلهيّة وحشو فاكرتك تعاليم قدسيّة، وبين عينيك مجالي قوله تعالى: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا) (1) (2).
2- تقريظ آية الله العظمى السيد محسن الحكيم الذي قال: وقد سرحت النظر في أجزائه المتتابعة فوجدته كما ينبغي أن يصد ر من مؤلّفه المعظّم الفيته كتابا لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه بتوفيق من عزيز عليم. وقال العلامة الفذ آية الله السيد عبد الحسين شرف الدين: أشعر أن لك علي ّواجبا يتجاوز حدود القول في تقريظ (الغدير) موسوعتك النادرة، والثناء بوصفها مجهوداً ثقافياً كريما. فالقول في هذا ونحوه أدنى ما يستقبل به جهدك، وأقل ما يوزن به تتبّعك واستيعابك…الخ (3).
3- قال الأديب الأستاذ بولس سلامة في مدح الكتاب ما نصّه: وقد إطلعت على هذا السفر النفيس فحسبت أنّ لآلئ البحار جميعا قد اجتمعت في غديركم هذا…إلى أن يقول: ولقد لفت نظري على الأخص ما ذكرتموه بشأن الخليفة الثاني فللّه درّكم ما أقوى حجّتكم، وأسطح برهانكم، فلو حاول بعد هذا مكابر أن يردّ تلك الحُجج المكينة لكان مثله مثل الوعل ناطح الصخرة… (4)، إلى غير ذلك من التقاريظ العديدة التي جُمعت أخيراً في كتاب مستقل.
والسؤال هنا هو: لماذا كتب العلامة الأميني هذه الموسوعة؟
وكيف صارت هذه الموسوعة القيّمة هكذا؟
وما الذي جعلها تصل إلى هذا المستوى من التوفيق؟
وماهو السر في ذلك؟
السبب في تأليف موسوعة الغدير
أمّا السبب تأليف موسوعة الغدير القيّمة فهو غيرة العلامة الأميني على المذهب وحرصه الشديد على الدفاع عن التشيّع وردّ شبهات المغرضين عنه.
يقول نجله الشيخ رضا في لقاء صحفي عن سبب تأليف والده لموسوعة الغدير: أنّ أحد أسباب ذلك- أي تأليف الموسوعة- هو صدور كتاب في مصر ينال من شيعة أهل البيت (عليهم السلام) ويتهمهم بعدم تقديم أيّ شيء للإسلام، واتهامات أخرى ما أنزل الله بها من سلطان. وهذا ما حدا شيخنا الوالد إلى تأليف كتابه القيّم (شهداء الفضيلة) ذكر فيه مائة وثلاثين عالماً من أجلاء علماء الشيعة الذين استشهدوا، ابتداءً من القرن الرابع، في سبيل نشر الإسلام والدفاع عنه، ثم صمّم بعد ذلك على تأليف كتاب، بل موسوعة يعرض من خلالها الوجه الحقيقي الناصع لشيعة أهل البيت، ويبيّن للعالم الإسلامي حقيقتهم ويدفع عنهم التهم والافتراءات والأكاذيب الباطلة، لأجل ذلك قام بتأليف كتاب (الغدير) وقد استغرق تأليفه نصف قرن من الزمان تقريباً، وكان يستوعب كل وقته يومياً إلا خمس ساعات منها يأخذ فيها قسطاً للنوم والراحة (5).
نبذة عن موسوعة الغدير
تقع موسوعة الغدير في حدود (6500) صفحة تتوزع على أحد عشر جزءاً، يتناول الأول بواعث الكتابة والتأريخ الحقيقي، وأهمية واقعة الغدير، من استعراض رواتها في جيل الصحابة والتابعين، ثم طبقات العلماء من الرواة منذ القرن الثاني الهجري حتى القرن الرابع عشر.
وهناك إشارة في هذا الجزء إلى الآيات المتعلقة بالغدير وآراء بعض المفسرين لها، فضلاً عن بيان مفاد حديث الغدير ودلالته مع بيان لآراء ابن كثير.
وفي الجزء الثاني تناول الأميني الشعر ومنزلته في الإسلام حيث استعرض موقف النبي (صلى الله عليه وآله) من الشعر وتشويقه للشعر الداعم للعقيدة السليمة، ثم يتطرق إلى شعراء الغدير.
وقد ضم هذا الجزء تراجم لبعض الصحابة ونخبة من الشعراء المبرزين أمثال الكميت والحميري والعبدي وأبو تمام مع بيان قصائدهم.
أمّا الجزء الثالث فقد تعرّض فيه إلى شعراء الغدير في القرنين الثالث والرابع، بالإضافة إلى نقد لكتابي (حياة محمد) و (العقد الفريد).
وفي الجزء الرابع ففيه تراث أكثر من ثلاثين شاعراً وأديباً ومنهم الناشيء الصغير، والصاحب بن عباد، والشريف الرضي وغيرهم الكثير.
واشتمل الجزء الخامس على ترجمة لشخصيات عاشت القرنين السادس والسابع الهجريين، مع مناقشة لأحادث كثيرة ووقفات ومحاكمة للتزوير التأريخي الذي قام به الوضّاعون من كذبهم على رسول الله (صلى الله عليه وآله).
وخُصّص الجزء السادس شعراء القرن الثامن، مع مناقشة لآراء عمر بن الخطاب وبيان لبعض اجتهاداته مقابل النص.
وتناول في الجزء السابع شعراء الغدير في القرن التاسع ومناقشة لآراء أبي بكر وبيان لفضائل من غالوا فيه، مع بيان حياة عم الرسول (صلى الله عليه وآله) أبي طالب ومواقفه في دعم الإسلام والرسالة.
وفي الجزء الثامن تجد ترجمة لحياة الصحابي الجليل أبي ذر الغفاري، مع نقد ووقفات لبعض المؤرخين ومنهم الطبري وابن كثير.
أمّا الجزء التاسع فقد تناول فيه الفضائل المنسوبة لعثمان بن عفان مع استعراض لحياة وفضائل كبار الصحابة أمثال عمار بن ياسر وغيره، مع بيان شامل لواقعة محاصرة عثمان ووقائع الثورة ضده التي انتهت بقتله.
ويعتبر الجزء العاشر تكملة لما ورد في الجزء العاشر حيث استعرض فيه مناقب الخلفاء الثلاثة مع بيان لمجموعة فضائل مجعولة لمعاوية بن أبي سفيان.
وفي الجزء الحادي عشر استعرض مواقف معاوية من الشيعة مبيناً فيه كيف كان ينتقم منهم ويطاردهم في البلاد حتى أصبح التشيّع جريمة يُقتل عليها الإنسان.
أسرار عظمة موسوعة الغدير
إنّ عظمة موسوعة الغدير جاءت لما كان وراءها من عظمة حملها المؤلّف بين ثنايا روحه الطيّبة فضلاً عن التضحيات والمثابرة والجهاد العظيم الذي قدّمه هذا العملاق الموالي.
من هنا وجدت أن أشير إلى بعض الجوانب المهمّة وراء عظمة موسوعة الغدير ليعرف السبب في عظمتها وكما يقولون: إذا عُرف السبب بطل العجب.
1- إخلاص الأميني: كل من يرجع إلى سيرة العلامة الأميني يلاحظ شيئاً في حياته ألا وهو شدّةإخلاصه وتفانيه في أهل البيت (عليهم السلام)، فقد كان صاحب الغدير شديد الإخلاص عظيم الإيمان ويشهد لذلك كثير من الأمور منها:
ما نقله نجل العلاّمة الأميني سماحة الشيخ رضا، قال: عندما انتشر كتاب الغدير وشاع صيته في الآفاق توافدت التقاريظ على الوالد من مختلف أنحاء العالم، ومن التقاريض المهمّة التي وصلت إليه هو تقريظ الأستاذ المصري محمد عبد الغني حيث بعث قصيدة من (18) بيتاً في مدح الوالد منها قوله:
حيّ الأميني الجليل وقل له……أحسنت عن آل النبي دفاعا
أرهفت للدفع الكريم مناصلا……وشهرت للحق الهضيم يراعا
وجمعت من طول السنين وعرضها……حججا كآيات الصباح نصاعا
وأذبت من عينيك كل شعاعة……كالنور ومضا والشموس شعاعا
وطويت من ميمون عمرك حقبة……تسع الزمان رحابة وذراعا
ونزلت ميدان البيان مناضلا……وشأوت أبطال الكلام شجاعا
ما ضقت يوما بالدليل ولم تكن……بالحجّة الغراء أقصر باعا
لله من قلم لديك موثق……كالسيل يجري صاخبا دفاعا
يجلو الحقيقة في ثياب بلاغة……ويزيح عن وجه الكلام قناعا
يشتد في سبب الخصومة لهجة……لكن يرق خليقة وطباعا
وكذلك العلماء في أخلاقهم……يتباعدون ويلتقون سراعا
في الحق يختلفون إلا أنهم……لا يبتغون إلى الحقوق ضياعا
يا أيها الثقة الأمين تحية……تجتاز نحوك بالعراق بقاعا
تطوي إليك من الكنانة أربعا……ومن العروبة أدؤرا ورباعا
إنا لتجمعنا العقيدة أمة……ويضمنا دين الهدى أتباعا
ويؤلف الاسلام بين قلوبنا……مهما ذهبنا في الهوى أشياعا
ونحب أهل البيت حبا خالصا……تطوي القلوب عليه والأضلاعا
يجزيك بالإحسان ربك مثلما……أحسنت عن يوم الغدير دفاعا
ولمّا وصل التقريظ بيد الوالد بعث إليه رسالة قال فيها: لقد تركت الأصل وانشغلت بالفرع وكان من الأفضل أن تكتب هذه القصيدة في أهل البيت (عليهم السلام).
وبعد مدّة وصلتنا رسالة أخرى من محمد عبد الغني يُخبرنا أنّ جوابنا وصل إليه وأنّه عمل بنصيحة الوالد وكتب قصيدة في الإمام علي (عليه السلام) وأنّه سيرسلها لنا، وأضاف عبد الغني قائلاً: عندما نظمت القصيدة كانت أمنيتي الوحيدة هي حياة ابنتي الوحيدة التي كانت في المستشفى وقد عجز الأطباء من علاجها فنظمت هذه الأبيات وأنا جالس عند رأسها ودموعي تجري على خديّ، وأنّني أطلب منك الآن أن تذهب إلى حرم أمير المؤمنين (عليه السلام) وتقرأ القصيدة وتطلب شفاء ابنتي.
وبالفعل فقد وصلت القصيدة ليلة الجمعة فذهب الوالد إلى الحرم الشريف وقرأ القصيدة وطلب شفاء ابنة عبدالغني، وفي نفس اللية بعث إليه بأنّني قرأت القصيدة في الحرم الشريف وطلبت شفاء ابنتك، وبعد مدّة جاءتنا رسالة من عبد الغني جاء فيها: في نفس ليلة الجمعة التي قرأت القصيدة في الحرم الشريف شُفيت ابنتي (6).
2- التفاني في العترة (عليهم السلام): كان العلاّمة الأميني ذائباً في محبّة أهل البيت (عليهم السلام) متفانياً في ولائهم، منكبّاً على نصرتهم، مُقدّما كل ما يملك من أجل إحياء ذكرهم ونشر سيرتهم العطرة في مختلف أنحاء العالم.
وقد أشار الآقا بزرك الطهراني إلى ذلك، فقال ما مضمونه: إنّ من خصوصيّات العلاّمة المحبّة والولاء الشديدين لأهل البيت (عليهم السلام)، بحيث يمكننا القول: إنّ الغدير هو أثر من آثار هذه المحبّة، فقد كان شديد التأثّر بمصاب الامام الحسين (عليه السلام)، وكان يبكي لمصابه بصوت عال بحيث يلتفت الجميع إلى تقلّب حاله ويتأثّرون لتأثّره، ونستطيع القول: إنّ المجلس الذي يحضره العلاّمة الأميني وتُذكر فيه مصائب أهل البيت (عليه السلام) يحسّ الجميع وكأنّ أحد المعصومين (عليهم السلام) حاضر في المجلس، وأعظم ما يتجلّى فيه جزع هذا المُخلص لأهل البيت (عليهم السلام) إذا ذُكر في المجلس مصيبة الصدّيقة الزهراء (عليها السلام) فإنّه يبكي بشدّة ويحمر وجهه وكأنّه قد أُصيب عرضه بسوء (7).
وقال الشاعر الإيراني المعروف (حسّان) الذي عاصر العلاّمة إلى آخر حياته: ذهبت مع بعض الأخوة لاستقبال العلاّمة إثر عودته من إحدى سفراته، وفي أثناء اللقاء قرأت أبياتا في مدحه وكنت أتوقّع منه أن يُثني عليّ أبياتي ويشكرني، إلاّ أنّه (قدّس سره) نظر إليّ نظرة حادّة، وقال: حسّان ! بدل أن تمدحني ينبغي أن تمدح صاحب العصر والزمان (عجّل الله فرجه الشريف) لتنال رعايته وتشملك عنايته لا أن أثني عليك بكلماتي التي لا تجدي شيئاً (8).
3- الجد العظيم: فقد بذل العلاّمة الأميني من أجل الغدير جهداً عظيماً ربما لا توفّق لمثله اليوم كثير من المؤسّسات الضخمة، فمّما ذُكر في حياته أنّه صرف من عمره نصف قرن كان يطالع كل يوم فيها على الأقل (16) ساعة حتى ألّف موسوعة الغدير، وحسب نقل نفس العلاّمة أنّه طالع حتى ألّف الغدير عشرة آلاف كتاباً خطّيا وراجع ما يقارب مئة ألف مخطوطاً (9).
ونُقل أنّه سافر إلى الهند مدّة أربعة أشهر فتمكن من نسخ ما يقارب (2500) صفحة بيده المباركة أي ما يقرب على (6) مجلّدات يبلغ عدد كل منها (400) صفحة (10).
ونُقل أيضاً أنّه سافر إلى إحدى المُدن فزار إحدى المكتبات وكانت تفتح في اليوم أربع ساعات فقط، والحال أنّ العلاّمة لا يستطيع البقاء في المدينة أكثر من أربعة أيام، ولذا أُضطر سماحته (قدس سره) أن يمكث في المكتبة أربعة أيام بلياليها ويقتصر على الماء والخبز، وكان يطالع كل يوم من هذه الأيام الأربعة (20) ساعة حتى حصل على كل مايريده من المكتبة (11).
4- عنايات أهل البيت (عليهم السلام): لايخفى أنّ العلاّمة الأميني حظي بعنايات كثيرة من أهل البيت (عليهم السلام) حتى ألّف موسوعة الغدير، ولو ذكرنا كل العنايات التي حصلت له لطال بنا المقام ولخرج البحث عن حدّه المعقول، فممّا ذُكر في هذا المجال أنّه (قدس سره) احتاج أثناء تأليفه للغدير كتاباً عجز عن الظفر به، ولأنّ مباحث الكتاب كانت مترابطة فقط اضطر العلاّمة أن يترك الكتابة ريثما يجد الكتاب، وبعد أن يأس عن الظفر بالكتاب لجأ إلى حرم أمير المؤمنين (عليه السلام) وتوسّل به ليهيّأ له الكتاب، وفي اليوم الثاني زاره مجموعة من العلماء ودار الحديث حول الكتاب الذي يريده العلاّمة فذكر أحدهم أنّ أحد علماء العامّة المُتعصّبين عنده الكتاب وهو لا يعطيه لأيّ أحد حتى لأقرباءه المُقرّبين، ثم أرشده إلى عنوانه في إحدى مناطق بغداد، وفي اليوم الثاني شدّ العلامة الرحيل إلى ذلك العالم السنّي بعد أن زار سيّد الشهداء والكاظمين (عليهم السلام).
يقول العلاّمة: لمّا وصلت إلى منزله وطرقت الباب خرج العالم السنّي نفسه ولمّا حييته وصافحته بُهت وحار من أمري، على كل أخبرته بالأمر وقلت له: سمعت أنّ الكتاب الفلاني عندك وقد خرجت من النجف كي أطالعه وأستفيد منه، فما كان منه إلا أنّ حيّ بي بكل حفاوة وقال: المكتبة مكتبتك وأيّ كتاب تحتاج مطالعته فأنا في خدمتك، فدخلت مكتبته وكانت مهجورة قد كسى الغبار الكتب، فخلعت عبائتي وجلست إلى العصر أُطالع وأكتب حتى أخذت كل ما أريده من مكتبته (12).
وروى الشيخ محمد النوري الذي كان ملازماً للعلاّمة، قال: نقل لي العلاّمة الأميني، فقال: في إحدى زياراتي لحرم أمير المؤمنين (عليه السلام) وبينما كنت مشغولاً بالدعاء والتوسّل مُقدّماً أمير المؤمنين (عليه السلام) أمام طلبتي وهي أن أحصل على كتاب (دُرر السمطين) الذي كان آنذاك نادراً جداً، وقد كنت محتاجاً إليه جداً في مباحث كتاب الغدير.. وفي الأثناء جاء أحد المعدان (القرويين) وأخذ يتوسّل بأمير المؤمنين (عليه السلام) أن يشافي بقرته.
وبعد مضي أسبوع وأنا أبحث عن الكتاب جئت إلى زيارة الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) ثانية، وبينما كنت أزور الإمام (عليه السلام) جاء القروي نفسه وأخذ يشكر الإمام على قضاء حاجته، فتألمت كثيراً وهاجت الآلام في نفسي، واتجهت نحو الإمام (عليه السلام) معاتباً له وقلت: سيّدي تقضي حاجة القروي بهذه السرعة وتغضّ الطرف عنّي؟
سيّدي إنّني أريد الكتاب من أجل كتاب الغدير وليس من أجلي!
ثم أخذت أبكي بشدّة وخرجت من الحرم… وفي تلك الليلة لم أتناول شيئاً من الطعام بل خلدت إلى النوم بسرعة، وإذا بي في عالم الرؤيا أرى أمير المؤمنين (عليه السلام) وهو يقول لي: إنّ المعيدي (القروي) ضعيف الإيمان ولا يستطيع الصبر على تأخير حاجته، فاستيقظت من النوم فزعاً.
وفي الصباح وفيما أنا جالس على مائدة الإفطار مغموماً وإذا بجارنا- وكان معماراً- يدخل داري ويسلّم عليَّ ويقول: لقد اشتريت داراً جديدة، وبينما كنت أنقل الأثاث رأيت هذا الكتاب في زاوية من الدار، فقالت لي زوجتي: خذه إلى العلاّمة الأميني لعلّه ينتفع به، فهل يفيدك الكتاب؟!
فأخذت الكتاب وأزلت الغبار عنه وإذا به كتاب (دُرر السمطين) نفسه الذي كنت أبحث عنه، فسجدت لله شكراً على هذه النعمة العظيمة (13).
ونقل السيّد عباس الكاشاني أنّ العلاّمة قال: احتجت إلى كتاب (ربيع الأبرار) للزمخشري عند تأليفي للغدير وكان الكتاب آنذاك نادراً ولا يوجد منه سوى ثلاث نسخ خطيّة إحداها كانت عند أحد العلماء تُوفّي وورثها أحد أبناءه.
ذهبت إلى منزل الولد وطلبت منه أن يعيرني الكتاب فرفض، وكلّما أصررت عليه أن يعيرني إيّاه ولو ليوم واحد امتنع، وفي الأخير قلت له: إسمح لي أن أُطلع الكتاب في بيتك فرفض.
بقيت مدّة حائراً ماذا أصنع وأيّ باب أطرق، فلم أجد بدّاً من الاستعانة بالعلماء، فطلبت من السيّد أبي الحسن الأصفهاني والشيخ محمد حسين كاشف الغطاء أن يتدخّلا في القضية فتدخّلا ولكن لم يُجد الأمر، ولمّا يأست منه توجّهت إلى حرم أمير المؤمنين (عليه السلام) وتوسّلت به وشرحت له الحال وعدت إلى منزلي وقد سهرت طيلة الليل، وفي أواخر الليل أخذتني غفوة فرأيت أمير المؤمنين (عليه السلام) وهو يقول لي: إنّ حاجتك عند ولدي الحسين (عليه السلام).
وبمجرد أن استيقظت من النوم ذهبت إلى كربلاء وزرت الحرمين الشريفين وصلّيت صلاة الليل والصبح، وفيما أنا كذلك إذا بالخطيب الكربلائي الشيخ محسن أبو الحب يأتي إليّ ويدعوني لتناول الإفطار في بيته، فذهبنا إلى بيته وكعادتي عندما أدخل أي بيت أول شيء أفعله هو مطلعت المكتبة، فقلت للشيخ أولاً أرى مكتبتك، فقال الشيخ: لنتناول الإفطار أولاً ثم طالع المكتبة إلا أنّني أصررت على أن أطلع المكتبة أولاً فقبل الشيخ وبدأت أتصفّح الكتب وإذا بي أرى الكتاب (ربيع الأبرار) في مكتبته، فعرفت لماذا أحالني أمير المؤمنين (عليه السلام) على سيّد الشهداء (عليه السلام) وبكيت، فتعجّب الشيخ محسن وتساءل عن الأمر فأخبرته بالقضيّة، فما كان منه إلا أن أهداني الكتاب وكان بخط قاسم بن رجب وهو ثمين جداً وكانت قيمته آنذاك ألف دينار (14).
من بركات موسوعة الغدير
تميّزت موسوعة الغدير بالبركات الكثيرة الجديرة بالتأمّل والذكر من باب التجليل والتقدير لجهود هذا العملاق الذي قاد الكثير نحو التشيّع وأزاح الكثير من التُهم والشبهات التي كانت توجّه إلى التشيّع.
ولو أردنا استقصاء بركات موسوعة الغدير لطال بنا المقام وخرج البحث عن حدّه ولكنّا نقتصر على بعضها وهي:
1- دفع الشبهات: فكم من الشبهات رُدت وفنّدت في هذه الموسوعة، وكم من التُهم اتضح كذبها ببركة موسوعة الغدير.
ولا غرابة في ذلك ففي عصر الأميني كان تسديد التُهم وبث الدعايات إلى الشيعة والتشيّع من أسهل الأمور خاصة أن بعض الحكومات كانت تروّج لذلك وتدعم كل من يشوّه صورة التشيّع.
وليس ذلك فحسب بل وجد العلامة الأميني نفسه أمام موروث كبير من التهم والافتراءات وضعها الوضاعون وكبار المؤرّخين أمثال الطبري وابن كثير وغيرهم، فعمد من خلال موسوعته وببراعة بيانه وحلاوة أدبه وتتبّعه الدقيق لمصادر القوم إلى تفنيد مثل هذه الشبهات وردّها وإزاحة الحُجب عن التشيّع حتى اتضحت الحقائق لكثير من الناس وعرفوا الواقع.
يقول الشيخ محمد سعيد دحدوح أحد أئمة الجماعة في حلب: فالغدير دعم أموراً، وأزال أوهاماً، وأقرّ حقائق، وأثبت أشياء كنّا نجهلها، ودحض أقوالاً مشينا عليها قروناً عديدة ونحن نقول: أي هكذا خلقت- لا نعلم لها مأتىً ولا نفكر بأسرارها.
والحوادث يجب أن تعطينا أخباراً تجعلنا نبني عليها صرحاً متيناً من التفكير والتعمّق بما جرى وما وقع.
وكل ذلك أصبح من الضروري للباحث أن يعلمه ويفقهه لا ليثر خلافاً، ولا لينبش أحقاداً، وإنّما ليبيّن للناس: ماهو الحق؟
ومن هم شيعة المرتضى؟ ومن أين أتاهم ذلك الحب للبيت الطاهر النبوي؟ وما منشأ العاطفة؟ وماهي الأشياء التي نُسبت إليهم إفكاً وزوراً؟ (15).
2- تعريف التشيّع: من خلال موسوعة الغدير اتضح لكثير من الناس حقيقة التشيّع وعرفوا أنّه مذهب قائم على المنطق والبرهان والمجادلة بالتي هي أحسن والإقناع بالأدلة القاطعة، وليس كما يدعيه البعض بأنّه مذهب قائم على الخرافات والأراجيف والغلو وماشابه.
ولله درّ المؤلّف فكم من المواضيع الحسّاسة التي تناولها في موسوعته وبحثها بحثاً استدلالياً بتحقيق واستعراض للبراهين التامّة بما في ذلك موضوع الخلافة بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) الذي يعتبر الفيصل في نزاع المذاهب المختلفة.
ولا أظن أنّ من يطالع موسوعة الغدير بإمعان ويتحلّى بشيء من الانصاف يبقى لديه شيء من الغموض حول الخلافة وأحقيّة المولى أميرالمؤمنين الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) بالخلافة بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله).
وبالرغم أنّ المواضيع التي تناولها الأميني في موسوعته حسّاسة جدا وعادة ما تثير حافظة الآخرين وانزعاجهم ولكن لأنّه ناقشها بموضوعيّة وبراهين من كتب القوم لم يكن أمامهم سوى الإذعان أو لزوم الصمت مقابل ما ذكره من أدلّة في أحقيّة مايدعيه الشيعة في عقائدهم.
يقول الأستاذ الكبير علاء خرّوفة خريج الأزهر بمصر والحاكم في بعض المحاكم الشرعية في العراق في رسالة أبرقها للعلامة الأميني: ولقد كان بي ظمأ شديد، وشغف زائد، وشوق لا يوصف لمعرفة فقه الشيعة وأصول مذهبهم، فلمّا قرأت تلك الأجزاء الستّة من كتابكم ساعدتني على معرفة الحقائق التي كانت محوّرة في الكتب التي رددتم عليها في الجزء الثالث، وكانت تلك الأجزاء خير عون لي على كتابة مقالات انتصرت فيها للشيعة ورددت فيها على مجلّة الأزهر، وقد نُشرت في مجلّة السعد التي تصدر بالقاهرة، وفي صحيفة الأهرام كبرى الصحف المصرية، ولقد لقيت بعد نشرها بعض ما يلقاه كل منصف، وكل مدافع عن الحق، أو عامل على وحدة المسلمين (16).
3- البُعد العلمي: امتازت موسوعة الغدير بالبُعد العلمي الجلي ويراعة الاستدلال في المباحث الأمر الذي جعل كثيراً ممّن اطلعوا عليها يعجبون بها ويثنون على جهود المؤلّف.
فلم يعتمد المؤلّف على لغة النقل والحكاية وتجميع مكررات الآخرين، بل اعتمد على البحث والتنقيب من استنطاق الأدلة وعرض المباحث بشكل علمي بعيداً عن التعصّب والعاطفة.
ومن هنا خضع كثير ممّن اطلعوا على الموسوعة لمباحثه وأبدوا أعجابهم بما ذكره دون أيّ تذمّر أو انزعاج من استلالته أو تشكيك في مصداقية ما ذهب إليه من نتائج.
يقول شاعر الأهرام الأستاذ محمد عبدالغني حسن المصري في مقالة له أرسلها إلى العلامة الأميني يبدي فيها شدّة إعجابه بالكتاب ويظهر عظيم تجليله للمؤلف وتقدير لأسلوبه المتين العلمي: ولكن الحق الذي يجب أن يُجهر به، أنّ العلامة الأستاذ عبدالحسين الأميني لم يكن محبّاً متعصّباً، ولا ذا هوى متطرّف جموح، وإنّما كان عالماً وضع علمه بجانب محبّته لعليّ وشيعته، وكان باحثاً وضع أمانة العلم ونزاهة البحث فوق اعتبار العاطفة…
إلى أن يقول: ولما كانت واقعة الغدير- غدير خم- من الحقائق الثابتة التي لاتقبل الجدل، وكان الحديث- حديث الغدير- ممّا ينعقد إجماع الأمة الإسلامية- سُنّة وشيعة- على صحته، فقد حدث الحجاج به، ومناشدته بين الصحابة والتابعين…
ويقول في موضع آخر: وعلى ذكر المراجع والمصادر نودّ نسجّل للحقّ أنّ مؤلّف الغدير الجليل قد أحاط منها بما لا يحيط به إلا من رزقه الله قدرة وصبراً وحسن وقوع على الموارد (17).
4- البُعد الأدبي: من مميزات موسوعة الغدير أنّ للبعد الأدبي فيها نصيباً وافراً وحصّة كبيرة لا يُستهان بها، فمن يطالع الموسوعة يلحظ بوضوح القلم الرائع السيّال والذوق الأدبي الرفيع، من رصانة التعابير، وقوّة الكلمات وتناسقها، وجذابية الاسترسال بحيث إنّ القارئ لها يغفل عما سواها وينشغل بمباحثها ومحتواها.
هذا بالإضافة إلى وقفاته الأدبية المتعدّدة في الأدب من استعراض الأشعار الكثيرة في واقعة الغدير وبيان تراجم طائفة لا يستهان بها من الشعراء وبيان أحوالهم.
ولعل أهم ما في هذا البعد- الأدبي- هو بيان عظمة وقوّة الشيعة في الأدب واستعراض ما لديهم من أشعار وشعراء هما في قمة الأدب، ودفع شبهة أنهم لا حظ لهم في الأدب.
5- الإقبال على التشيّع: وهذه علامة ملموسة لامسها كثير من أهل التحقيق ممّن اطلعوا على أحوال المستبصرين الذين التحقوا بقافلة التشيّع ببركة موسوعة الغدير وما أكثرهم.
فقد كانت موسوعة الغدير سبباً لاستبصار كثير من الناس إثر اطلاعهم على مافيها من مباحث ومواضيع حقيقة بالتأمّل والتدقيق فيها.
يقول نجل المؤلف الشيخ رضا الأميني في لقاء صحفى حول أبيه المؤلف: وإنّ من بركات وآثار كتاب (الغدير) وبسببه اهتدى كثيرون لمذهب أهل البيت (عليهم السلام) واستبصروا، فعلى سبيل المثال التقيت عدّة مرّات بنائب من مجلس النوّاب المصري، يُدعى حسين عبدالرزاق، وكان رجلاً ذكياً عارفاً ومنصفاً، فتحدّثت معه عن الولاية وأهديته دورة من كتاب (الغدير)، وبعد فترة وفي لقاء ثاني أخبرني بأنّه استبصر وأنّه اتبع مذهب أهل البيت (عليهم السلام) هو وجميع أفراد عائلته، بعد مطالعته الجزء السادس من كتاب (الغدير).
ومثل حسين عبدالرزاق كثيرون لا سيّما في تونس، والمغرب استبصروا وصاروا من شيعة أهل البيت (عليهم السلام) وأصبحوا دعاة لمذهب أهل البيت (عليهم السلام) (18).
ماذا حاز العلاّمة الأميني من موسوعة الغدير؟
على أثر هذا الإخلاص والجد المتواصل والإيثار والتضحيات العظيمة التي قدّمها العلاّمة الأميني شملته عنايات أهل البيت (عليهم السلام) ونال المقامات الرفيعة عندهم والشواهد على ذلك كثيرة منها: ما نقله السيد محمد تقي الحكيم (رحمه الله) صاحب كتاب (الأصول العامّة للفقه المقارن) من أنّ أحد العلماء الأحوازيين، قال: رأيت في عالَم الرؤيا أنّ القيامة قد قامت وحُشر الناس للحساب، وقد كان الجميع في ضجر وحزن وهم يقولون: اللّهم نجّنا.. وكانوا في حالة شديدة من العطش.
وفي الأثناء اجتمع جماعة من الناس حول حوض من الماء وهم يتسابقون ويتدافعون من أجل تحصيل الماء، وبينما هم كذلك وإذا بشخص نوراني جاء إلى جانب الحوض وأخذ يقدّم الماء إلى البعض ويمنع البقيّة.
آنذاك عرفت أنّ هذا الشخص النوراني هو أمير المؤمنين (عليه السلام)، فتقدّمت إليه وسلّمت عليه واستأذنته في شرب الماء فأذن لي بشرب قدح من الماء، وفيما أنا أشرب الماء رأيت العلاّمة الأميني (قدس سره) قد قدم فاستقبله الإمام (عليه السلام) بكل احترام وعانقه بحفاوة بالغة، ثم ملأ قدحاً من الماء وأراد أن يرويه، إلاّ أنّ العلاّمة كان يمتنع احتراماً للأمير (عليه السلام)، وبقي الإمام (عليه السلام) يصرّ عليه حتى امتثل فسقاه بيده المباركة.
يقول الشيخ الأحوازي: لمّا رأيت هذه الحادثة قلت للإمام (عليه السلام): مولاي يا أمير المؤمنين، لقد احترمت العلاّمة وتعاملت معه بما لم تتعامل به معنا؟!
فأجاب (عليه السلام) قائلاً: الغدير غديره (19).
ونقل نجل العلاّمة الأميني، فقال: عندما قرّرت مغادرة النجف الأشرف عام (1390ه) ذهبت إلى السيّد محمد تقي بحر العلوم لأودّعه، وما أن رآني حتى شرع بالبكاء، فتساءلت منه قائلاً: لماذا تبكي سيّدنا؟
فقال: بعد وفاة والدك العلاّمة كنت أفكر كيف سيجازيه أمير المؤمنين (عليه السلام) مقابل تضحياته الجسيمة، إلى أن رأيت في عالَم الرؤيا أنّ القيامة قد قامت والناس في صحراء المحشر، فالتفتُّ جانباً وإذا بي أشاهد حوضاً عرفت أنّه حوض الكوثر… ذهبت إليه لأشرب فوجدت أمير المؤمنين (عليه السلام) واقفاً إلى جانبه وهو يسقي مُحبّيه من مائه الزلال العذب.
مضت مدّة والإمام (عليه السلام) يروي الناس إلى أن دوّت ضجّة بين الناس، فتساءلت منهم: ما الخبر؟!
قالوا: لقد جاء العلاّمة الأميني إلى حوض الكوثر، فانتظرت مترقّباً كيف سيجازيه أمير المؤمنين (عليه السلام)؟
وإذا بالإمام (عليه السلام) يضع القدح الذي كان في يده وأخذ بيديه المباركتين قدراً من ماء الحوض ورشح بعضه على وجهه ثم سقاه بيديه المباركتين حتى أرواه وقال له: بيّض الله وجهك، آنذاك عرفت عُظم مقام العلاّمة الأميني عند الإمام (عليه السلام) (20).
يبقى القول: إنّ مثل هذه المقامات غير مقتصرة على العلاّمة الأميني وأمثاله بل إنّ كل مَن يخلص لأهل البيت (عليهم السلام) ويضحّي من أجلهم فإنّهم يهيلون عليه من بركاتهم.
الشيخ جاسم الأديب
………………………………
(1) سورة العنكبوت: 69.
(2) الغدير: 5/5.
(3) الغدير: 7/8.
(4) الغدير: 7/9.
(5) مع العلامة الأميني: 286.
(6) علامه أميني جرعه نوش غدير: 92-94.
(7) سيماء الصالحين: 126.
(8) ربع قرن مع العلامة الأميني: 285.
(9) علامه أميني جرعه نوش غدير: 42-43.
(10) علامه أميني جرعه نوش غدير: 43.
(11) علامه أميني جرعه نوش غدير: 42.
(12) ربع قرن مع العلامة الأميني: 59-60.
(13) ربع قرن مع العلامة الأميني: 62-63.
(14) ربع قرن مع العلامة الأميني: 70-72.
(15) مقدمة الغدير: 1/323-324.
(16) مقدمة الغدير: 1/441.
(17) مقدمة الغدير: 1/329-320.
(18) ربع قرن مع العلامة الأميني: 287-288.
(19) ربع قرن مع العلامة الأميني: 49-51.
(20) ربع قرن مع العلامة الأميني: