الغـلاة وأساليبهم في ضرب العقيدة الإسلامية

297
محمد جواد فخر الدين

 

لقد واجهت العقيدة‌ الإسلامية شأنها شأن باقي الأديان السماوية، مذاهب فكرية معارضة لمضمونها أو لبعض مضمونها، تسعى‌ إلى أن تقوض ذات المضمون أو تحرفه، أو تجره إلى مضمون آخر معين ليصبح مشابهاً له أو مطابقاً، وكثيراً‌ ما ينتهي هذا المسعى بالتقويض أو التحريف، مع العلم أن العقيدة الإسلامية قد واجهت تحديات كبيرة ما لم تواجهه أي عقيدة‌ أخرى، وذلك سواء من حيث حدة‌ الاعتراضات وشمولها،أو من حيث تنوع و تعدد الأطراف و الجهات المتحدية.

حيث عمل الغلاة في بث آرائهم وأفكارهم في قضايا أساسية تمثل محورا أو قاعدة مهمة في العقيدة الإسلامية‌، بحيث لو سقطت منها واحدة لسقطت العقيدة بأكملها،‌ وخاصة فيما يتعلق بالإلوهية، كالقول بالتعدد، والتشبيه والتجسيم،‌والاتحاد والحلول،‌إضافة إلى عملية الدس والتحريف في بعض العقائد المهمة كالرجعة والمهدية والعصمة(1).

لكن هنا السؤال كيف استطاع هؤلاء ترويج أفكارهم ومعتقداتهم وتسربيها إلى العقيدة الإسلامية ويمكن أن نرجع هذه الأساليب إلي مرتكزين رئيسيين:

الأسلوب الإخباري: وهو أن يعمد المخالفون إلى اصطناع أخبار تخص مسائل العقيدة، وتتضمن ما يوافق معتقدهم ويخالف المعتقد الإسلامي، ‌أو نقلها من مصادر مذاهبهم وأديانهم، ثم يقحمونها ضمن المصادر التي يتجه إليها لتصور عقيدتهم، وخاصة الحديث الشريف، وبذلك تصبح مضامين تلك الأخبار ـ على قصدهم ـ ضمن المعتقد الإسلامي.

إنّ هذا الأثر نلمسه واضحا في دور مسلمة الكتاب وخاصة في الشخصيات اليهودية التي كان لها دور بارز في إيصال الثقافة اليهودية وإضافتها على ما أنتجته البنية العقيدية الإسلامية من نصوص تلاقحت وتمازجت فأنتجت ظاهرة ثقافية في هذه البيئة أصطلح على تسميتها بـ(الإسرائيليات)(2)، وهي تلك الأخبار والأحداث والقصص التي كانت رائجة بين اليهود في التوراة، وقذف بها جماعة ممن أسلموا منهم أو أظهروا الإسلام إلى الحديث الشريف على أنها من أقوال الرسول صلى الله عليه وآله، أو إلى تفسير القرآن على أنها من مدلولات آيات العقيدة وقصص الأنبياء على الأخص.

وبين فان فولتن وغيره من المستشرقين الدور الكبير الذي لعبته بعض هذه الشخصيات في النسيج العقيدي للإسلام وما أسهمه فيما بعد في عقول المسلمين، وعزا ذلك بصورة لا تقبل الشك إلى الكتب القديمة لليهود والنصارى، وكان الطريق لها معبدا بمجرد اتصال العرب الفاتحين بهم واعتناق بعضهم للإسلام تسربت تلك الأخبار التي بثها هؤلاء في أذهان المسلمين وأذيعت بينهم(3).

ومن أشهر من قام بهذا الصنيع عبد الله بن سلام (ت43هـ)، ووهب بن منبه (ت114هـ) وكعب الأحبار (ت32هـ)، فظهرت الأحاديث التي تصف الله تعالى في ذاته وأفعاله بما يدل على التجسيم والتشبيه، والأحاديث التي تثبت قضايا الوصية والمهدية والغيبة والرجعة وغيرها مما تزخر به التوراة والتلمود، فلم يكن اليهود في أول العقد يستطيعون أن يقحموا عقائدهم في العقيدة الإسلامية بأسلوب عقلي فلسفي يناقش قضايا العقيدة الإسلامية ويثبت العقيدة اليهودية، فلجؤوا إلى ذلك الأسلوب الإخباري، وكان بعض المسلمين يستطيعون فهم الأخبار والحكايات التي تلقي إليهم لخلوها من التعقيدات الفلسفية والعمق الفكري، ثم إنهم مولعون بكل ما فيه مبالغة وتهويل مما يخص موضوعات وأشخاصا تحظى لديهم بقداسة، فإذا ما ألقيت إليهم أحاديث من هذا النوع أرضت فضولهم فآمنوا بها واعتقدوها على حساب معتقدهم الإسلامي الصحيح.

ولم يكن هذا الأسلوب مقتصرا على اليهود فقط، بل كان يستعمله كثير غيرهم، ومنهم بعض ممن كان ينتمي إلى الزندقة‌، فقد كانوا لأسباب عقائدية أو سياسة يلفقون الأخبار والأحداث مما يتعلق بالعقيدة وغيرها ويدسونها في الحديث، والقصد من ذلك إفساد الدين بإفساد عقيدته، يقول ابن الأثير: (فلما يئس أعداء الإسلام من استئصاله بالقوة أخذوا في وضع الأحاديث الكاذبة وتشكيك ضعفة العقول في دينهم… فكان أول من فعل ذلك أبو خطاب محمد بن أبي زينب مولى بني أسد، وأبو شاكر ميمون بن ديصان صاحب كتاب الميزان في نصرة الزندقة)(4).

وبين الشريف المرتضى دور هؤلاء بقوله: (جماعة ممن يتستر بإظهار الإسلام ويحقن بإظهار شعائره والدخول في جملة أهله دمه وماله زنادقة ملحدون وكفار مشركون فمنعهم عز الإسلام عن المظاهرة وألجأهم خوف القتل إلى المساترة وبلية هؤلاء على الإسلام وأهله أعظم وأغلظ لأنهم يدغلون في الدين ويموهون على المستضعفين بجأش رابط ورأي جامع فعل من قد أمن الوحشة ووثق بالأنسة بما يظهره من لباس الدين الذي هو منه على الحقيقة عار وبأثوابه غير متوار.. كما حكى أن عبد الكريم بن أبي العوجاء قال لما قبض عليه محمد بن سليمان وهو والي الكوفة من قبل المنصور وأحضره للقتل وأيقن بمفارقة الحياة لئن قتلتموني لقد وضعت في أحاديثكم أربعة آلاف حديث مكذوبة مصنوعة)(5).

وكذلك وضع بعض المسلمين أحاديث يروجون بها أمر أحزابهم، وبدأ التأويل في كتاب الله وسنة نبيه، وظهر التغالي في الدين، وافترق الناس، وكل طائفة ترغب أن توفق بين ما كان عندها وبين ما في الدين الإسلامي، فزادت الشبه واختلط الحق.

ثانياً: الأسلوب الفلسفي والكلامي:

إذ كان للمسيحيين دور كبير في هذا الجانب، فإنهم كانوا قد أقاموا لهم قبل ظهور الإسلام علم لاهوت يشرح القضايا العقائدية ويبرهن عليها. ويقوم على قواعد المنطق الأرسطي، ويستمد من نتاج الفلسفة اليونانية. فالفكر اللاهوتي المسيحي كان منذ القرون الأولى لظهور المسيحية ‌قد اتخذ لنفسه عبارة يونانية، ثم إنه نشأ وتطور في بيئة يونانية بثقافتها وحضارتها يقول ليون جوتيه: (…وهكذا كان التزاوج بين العقيدة اليهودية، والفلسفية الإغريقية لم ينتج فلسفة فقط، بل أنتج معها دينا أيضا، أعني المسيحية التي تشربت كثيرا من الآراء والأفكار الفلسفية عن اليونان، ذلك أن اللاهوت المسيحي مقتبس من نفس المعين الذي كانت فيه الأفلوطونية الحديثة ـ وهي فلسفة أفلاطون التي كانت معينا لفلسفة أفلوطين ـ ولذا نجد بينهما (أي اللاهوت المسيحي، والأفلوطونية الحديثة)(6)، ويقول أوليري في هذا المعنى كذلك: (إن الفلسفة الإغريقية السائدة قد سيطرت تماما على لاهوت الكنيسة، فكان من الضروري أن يعبر عن قضايا اللاهوت بعبارات ملائمة تماما للفلسفة)(7)، وقد استعمل هذا الأسلوب بوضوح أكثر في قضية المسيحيين الأولى، وهي قضية الأقانيم بما تشمل من مسائل الجوهرية والحلول، وطبيعة المسيح، فإن المسيحيين قد درسوا في الفلسفة اليونانية مسألة الجوهر، والفيض، والنفس وأحكامها، والعقل وأنواعه، وجعلوا من بعض الآراء فيها مقدمات انطلقوا منها لتأييد عقيدتهم. فكلمة الله التي هي المسيح قد جعلها آريوس بمعنى عقل الله،‌وعلاقة الأبوة بين المسيح والله قد فسرها بعضهم بالفيض، و جعلوه فيضاً أزلياً لإثبات أزلية المسيح، و هو على غرار الفيض الافلوطيني، و تفسيرات طبيعة المسيح من كونه لا هوتاً صرفاً أو مزيجاً منهما قد استفاد من دراسة النفس في الفلسفة اليونانية‌(8).

لذا يرى بعض المستشرقين بتأثر علم الكلام عند المسلمين بالفكر النصراني، وأشار إلى ذلك دي بور بقوله: (وأول مسألة كثر حولها الجدل بين العلماء المسلمين مسألة الاختيار وكان النصارى الشرقيون يكادون جميعا يقولون بالاختيار)(9)، ومن هنا نشأت البواكير العقلية عند المسلمين من مؤثرات نصرانية مصطبغة بالفلسفة اليونانية في دورها الشرقي(10).

وقد يفتقر هذا الرأي بعض الشيء إلى الدقة العلمية لان كثير من الآيات القرآنية تدعو إلى النظر العقلي وان نشأة الفرق والأبحاث الكلامية كان متأثرا بعوامل دينية، وأما المذاهب الإسلامية فقد كانت عاملا باعثا وحافزا ليس إلا(11).

وقد استعمل الأسلوب الفلسفي أيضا المجوس في شروحهم لمبدأ الاثنينية وفي الاستدلالات التي ساقوها لإثبات الإلهين القديمين، ‌وقد بدا في ذلك تأثره واضحا بالفلسفة اليونانية ومنطقها، فمزدك نجده يرجع الأصلين القديمين للعالم عند سابقيه النور والظلمة إلى أصول ثلاثة: الماء والنار والأرض، اختلطت فحدث من اختلاطها على نسب متساوية مدبر الخير ومدبر الشر، وهذه الأصول مما قال به فلاسفة اليونان الطبيعيون(12).

ونجد أتباع أديان الهند وخاصة البراهمة قد اتخذوا في إثبات معتقدهم أسلوبا فلسفيا منطقيا، وعلى الأخص في إنكار النبوة(13).

وإذا كانت العقيدة الإسلامية قد واجهت المطاعن بالأسلوب الفلسفي في الفكر الديني وعلى الأخص المسيحي، فإنها قد واجهت هذا الأسلوب في صورة ‌أعتى وأشد في تحديات الأفكار اليونانية التي تتلاقى معها في الموضوع،حيث اهتم بعض حكام الأمويين وخلفاء العباسيين بنقل الكتب الفلسفية إلى الحضارة الإسلامية، فترجمت عدة كتب من اليونانية والهندية والفارسية، ونشطت حركة الترجمة في زمن المنصور والرشيد والمأمون، ثم ظلت الفلسفة اليونانية تروج نظرياتها الفلسفية في الحياة والكون وما وراء الطبيعة، إلا أن تلك الحركة قد تركت آثارا سلبية حيث بذرت شبها كثيرة في حقل العقائد والأحكام بين المسلمين، خصوصا غير المتدرعين منهم بسلاح العلم والبرهان، فاشتد حمى الجدال بين المسلمين ورواد الأفكار الدخيلة. وقد عملت على هدم العقائد الإسلامية، والإطاحة بفكرة التوحيد وتعاليم القرآن الكريم(14). وقد أسرع المسلمون في بلورة أفكارهم الجديدة للوقوف أمام فاعلية تيار الفلسفة اليونانية التي لاقت رواجاً كبيراً في بداية القرن الثاني الهجري(15).

 ______________________________
(1) ينظر: ابن طاهر البغدادي، الفرق بين الفرق،1/214ـ216، الشهرستاني، الملل والنحل، 1/173، المحقق الحلي، المسلك في أصول الدين،ص64 ــ 66.
(2) فان فولتن، السيادة العربية والشيعة والإسرائيليات، ص108 ـ 120.
(3) السيادة العربية والشيعة والإسرائيليات، ص112 ـ 113، جولد زيهر، مذاهب التفسير الإسلامي، ص75ـ78.
(4) ابن الأثير، الكامل في التاريخ 8 /28.
(5) الأمالي 1/89.
(6) المدخل لدراسة الفلسفة ص46.
(7) الفكر العربي ومكانه في التاريخ، ص46.
(8) شلبي، أضواء على المسيحية ص32ـ33.
(9) تاريخ الفلسفة في الإسلام، ص94.
(10) دي بور، تاريخ الفلسفة في الإسلام، ص8.
(11) صكبان، النصرانية وعلم الكلام عند المسلمين، ص203.
(12) الشريف المرتضى، الرسائل 2/284، الشهرستاني، الملل والنحل 1/377، النشار، نشأة الفكر الفلسفي 1/251.
(13) الشهرستاني، الملل والنحل، 2/250ـ251،أبو الصلاح الحلبي، الكافي،ص78.
(14) سبحاني، رسائل ومقالات، ص479ـ480.
(15) الغفار، الكافي والكليني، ص272.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

*