عقيدة التوحيد
السيد محمد علي الحكيم
التوحيد أصل من أصول الدين متفق عليه بين الفرق الإسلامية، وهو مبحث أنطلوجي معرفي يتعلق بحقيقية الذات الإلهية المقدسة، تناولته كتب العقائد بالنظر العقلي والبرهان المنطقي، وبالتالي فهو منهج يختلف عما ذهب إليه (كانت) الذي صادر هذه الأصول ـ وجود الله ـ وجعلها مسلمات ضرورية لقيام الاختلاف. وهو منهج معاكس أيضاً لمنهج (وليم جيمس) أحد أعلام الفلسفة البرجمانية، الذي يرى أن أفكارنا ومعتقداتنا لا تطلب لذاتها، وإنما تلتمس كوسائل لتحقيق أغراضنا، فالمعتقد صحيح عندما ينتهي بنا إلى تحقيق أغراضنا في دنيانا الحاضرة، وهو لا يجد أساساً نظرياً لوجود عالم غير منظور، ومع ذلك يقول أن مبادئ البرجماتزم تقتضي بأن يكون فرض وجود إله فرضاً حقيقياً، إذا كان من شأنه أن يبعث السلوى والسكينة في النفس، فبإمكاننا أن نكون مؤمنين، مادام يولد لدينا حياة خلقية ودينية فاضلة، على العكس تماماً مما يذهب إليه مفكري الإسلام حيث يذهبون إلى أن المعتقد صحيح مادام يتعلق بالوقائع، وأن العمل تابع للعلم، والذي يلزم العلم به أمران التوحيد والعدل، كما يقول الشيخ الطوسي.
تلك الاتجاهات تتفق على ضرورة التسليم بأصول ميتافيزيقية لقيام الأخلاق، لكنها تختلف في منهجها للوصول لتلك الأصول الميتافيزيقية، ومن الوضوح بمكان أن منهج الفكر الإسلامي أكثر دقة ورسوخاً وبالتالي يكون الأساس الأخلاقي أكثر متانة لديهم.
ولما كانت هذه الأصول موضع إيمان، وأن اليقين أساس طمأنينة النفس، قبل أن تحدد لنفسها السلوك، وهذه الطمأنينة لا تتأتى من تنحية المعتقدات الباطلة، التي تؤرق النفس، بل تقضي ترسيخ معتقدات تشيع في النفس الطمأنينة، لتعذر بقاء النفس بالعيش في فراغ، وإن الإيمان هو المقدمة الضرورية للعمل لأن العمل ليس مجرد سلوك يمارسه الإنسان، وإنما لا يصدر السلوك إلا عن اعتقاد وإيمان، فالإيمان هو الذي يحرك الإرادة، والإرادة تحرك السلوك، من هنا كانت أصول الاعتقاد ـ لدى مفكري الإسلام ـ تسبق العمل سبقاً زمنياً ومنطقياً، ولا اختلاف في ذلك بين شعائر الدين وقيم الأخلاق.
والحديث عن الأبعاد الأخلاقية في الجانب العقيدي، منهج قرآني، جاء لبناء القاعدة البشرية المؤمنة، لتقوم بدورها في الحياة الإنسانية، قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون).
وهو يدخل في صلب البحث العقائدي في متبنيات مدرسة أهل البيت(عليهم السلام)، وهذه المدرسة الأصيلة التي امتزجت بفهمها الخاص للإيمان عن باقي المدارس الإسلامية الأخرى، التي فصلت الإيمان عن العمل، حتى ذهب بعض الصوفية ليجعل إيمان الأنبياء(عليهم السلام) وإيمان إبليس على حد سواء، في حين أكدت مدرسة أهل البيت(عليهم السلام)، على أن الإيمان يكمل وينقص بالجانب العملي، وأن الإيمان ليس مجرد التزام قلبي، بل هو أيضاً تطبيقات عملية، يمكن من خلالها أن يتكامل أو يتناقص.
وعقيدة التوحيد تتضمن قضية التوحيد الصفاتي، حيث أن صفات الباري عين ذاته، فهي تشكل صورة الكمال المطلق ـ الحقيقية والخارجية… ـ التي تمثل المثل الأعلى، الذي هو هدف وإطار لحركة الإنسان، باعتبار أن حركته حركة غائية تهدف إلى تحقيق هدف وغاية، تتمثل بتجسيد إرادة هذا المثل الأعلى والاقتراب منه. في حين أن الفلسفة المادية التي تجعل من الطبيعة هي العلة المادية والعلة الفاعلة للعالم، فالعالم بالنسبة لهم صادر عن مادة أزلية مسلوبة القصد والاختيار، وأن هذا الصدور جاء بمحض الصدفة، أي من دون قصد أو غرض، وسلب الحكمة عن تلك الصيرورة يجعلها خارج إطار أي دلالة أخلاقية، فالمادة مهما كانت عظيمة ومهيبة لكنها لا تقر طمأنينة النفس، ولا تقوم أخلاقاً، لأن الإنسان يركن إلى الإيمان، وتطمأن نفسه به، ويندفع إلى العطاء، حيث يجد إرادة حية وراء الأشياء كلها هادفة إلى غرض وحكمة.
وتتضمن عقيدة التوحيد قضية التوحيد الفعلي، في مقابل التعدد والشرك، والتي تجعل من الشركاء مؤثرين في الكون والإنسان، وما يؤدي عنها من تعدد للولاءات، وما ينتج عنها من تشقق وتمزق وانحطاط أخلاقي، بسبب هذا التعدد، وما يفعله من صراعات نفسية أو اجتماعية، وهو ما رفضه (سقراط) أيضاً، حيث اعتقد: (أن تلك سياسة انتحارية لا أمل فيها، وأنها تقدم إلى الوراء، لقد كان له إيمان خاص به، لقد آمن بإله واحد، وآمن باعتدال أن الموت سوف لا يقضي عليه تماماً، أدرك أن هناك شريعة أخلاقية أبدية، لا يمكن أن تقوم على دين ضعيف، كالدين الذي آمنت به أثينا ـ تعدد الآلهة ـ في ذلك الوقت، كما ينقله لنا (ديورانت) في قصة الفلسفة.
في حين أن عقيدة التوحيد تشكل لنا صورة مميزة، تجعل الموجودات الكونية وتأثيراتها معلومة لله، وليس لشيء آخر، ولا يعني ذلك، إلغاء دور الأسباب للتأثير بالكون، وإنما التأكيد على أن الله تعالى هو السبب الأول لوجود الأشياء، وهي قائمة به، ومن دونه لا يمكنها التأثير في الأشياء.
وتجعل من كل الخيرات والنعم من قبل الله تعالى، فهو المنعم الحقيقي، مهما تعددت الأسباب والوسائط، وهذه الأنعام، ليس لغرض عائد إليه أصلاً، بل لغرض نفع العبد وصلاحه، وحتى المصائب والمحن، هي من قبل الله تعالى، وهي تمثل الإطار الأصلح لحركة الإنسان في هذه الدنيا.
وهو ما لم يدركه (أرسطو)، الذي يرى أن الإله كامل كمالاً مطلقاً، لذا فهو لا يفعل شيء، لأن في الفعل طلباً لشيء، وهو ينافي كماله الأزلي الذي لا يتغير أو يتأثر، وليس له غرض أو إرادة، ووظيفته الوحيدة التفكير في ذاته.
أما في عقيدة التوحيد، فلا يمتنع أن يجتمع الكمال الواحد، والمتألف من الصفات الحسنى، التي وصف بها الإله مع لوازمها ومقتضياتها، فالاختيار وإن كان بين أمرين، إلا أن اختياره تعالى ليس لذاته، بل لمخلوقاته التي تعتريها حالات مختلفة، لا تجوز في حقه، وكذلك فعله يتعلق بمخلوقاته ومصالحها، لا بالذات المقدسة، وهذا ما لا ينافي كماله، فالباري وإن كان في منتهى الكمال والتنزيه، لكنه خلق العالم وأحاطه بلطفه ورحمته.
وفي ضوء هذا الفهم، لحقيقة الذات المقدسة، كان لابد لهم من إثبات موقف يقابله فيكون من جانب العبد تجاه ربه وشاطره في الدلالات الأخلاقية، فقالوا بالتوحيد العبادي، التي تحقق التوحيد في الولاء والتوحيد في الطاعة والتوحيد في العبادة، والتي هي ليست مجرد شعائر وطقوس يعبر فيه عن التقديس والاحترام أو الضعف والعجز أمام الإله، بل هي حالة اجتماعية تكاملية في حركة الإنسان، ليست مفصولة عن المجتمع الإنساني، بحيث يمكن أن يتحول كل عمل نافع إلى عمل صالح، لتجسيد إرادة المثل الأعلى والتقرب إليه
أهم المصادر:
(1) القرآن الكريم.
(2) الاقتصاد للشيخ الطوسي.
(3) المنهاج الثقافي لشهيد المحراب.
(4) صراط الحق للمحسني.
(5) موسوعة العقاد.
(6) الموسوعة الفلسفية المختصرة.
(7) قصة الفلسفة لديورانت.