الأسس التاريخية للمذاهب الإسلامية أسباب الانقسام.. وآليات الحوار

247

د. ستار جبر الأعرجي

يؤسس القران الكريم (الخطاب الإلهي) لأصول ثلاثة في العقائد يرجع الإنسان من خلال الاعتقاد بها إلى فطرته الأولى ويذكر الشواهد البديهية التي ترجع ألشاك عن شكه وهذه الأصول الثلاثة تتمثل إجمالاً في:

1ـ الإيمان بالله تعالى واحداً لا شريك له والاستدلال على وجوده كما في قوله تعالى (إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب) آل عمران /19.

2ـ النبوة العامة لأنبياء (عليهم السلام) ونبوة نبينا محمد صلى الله عليه وآله خاصة وقد دل على ذلك قوله تعالى متحديا منكري نبوته صلى الله عليه وآله (وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهدائكم من دون الله إن كنتم صادقين فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين) البقرة /23.

3ـ البعث والمعاد ففي قوله تعالى: (يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة) الحج /5 استدلال على المعاد من خلال لفت أنظار المرتابين فيه إلى أن من يقدر على الإيجاد من العدم فهو أقدر على إعادة الموجودات وجمعها بعد تفرق أجزئها.

ثم نجده صلى الله عليه وآله يضيف إلى هذه الأصول الثلاثة (وهي أركان العقيدة) أمراً رابعاً ينعكس عنها في شكل تجسيد عملي لتأثيرها في نفس الإنسان واعتقاده بها اعتقادا حقيقيا وذلك هو (العبادة) التي يستقل الوحي بتشريعها وتحديدها وتفسد بالرياء والعجب ولا تصح إلا بدافع القربة إلى الله تعالى فهي له وحده لذلك قرنت بالأصول.

يحدد تعالى حقيقة هامة بعد اكتمال هذه الأصول مع انعكاسها تتمثل في أخوة المؤمنين بعضهم ببعض إخوة أساسها وملاكها الأول هو الدين يقول تعالى: (فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين) التوبة/11 فملاك هذه الأخوة ليس مذهبا معينا يتخذ ولا قول فقيه يتبع ولا تقليد شيخ قديم ينتهج ولا هو اتفاق على مسائل فقهية أو اختلاف على بعضها كالمسح أو الغسل للرجلين أو التكتف في الصلاة إنما ملاك الأمر كله مناط بالأيمان بالله والرسل والبعث وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة فبهذه الأصول الثلاثة تآخى المسلمون وبها يتم تقاربهم وتنعقد نظم وحدتهم كافة حيث يدخل فيه من كان مسلما شرقيا أم غربيا عربيا أم أعجميا سنيا أم شيعيا إن من فرق بينهم بعد هذا فقد صد عن سبيل الله واتبع خطوات الشيطان ولكن ما الذي حدث؟ ما الذي أدى إلى هذه الفرقة والتشرذم وما الذي جعل الأمة الواحدة والدين الواحد مذاهب وفرق شتى حتى بلغت عند بعض من أحصاها المئات. لنعد إلى البداية.

لقد كان الإسلام هو دين الله الحق في عنفوانه وقوته قد ملك النفوس والعقول فلم تستطع التلفت يمينا ولا شمالا فكان بذلك دينا ومذهبا إذا جاز التعبير وهذا هو حال الأديان والحركات الكبيرة في تاريخ الإنسان سياسية أو دينية أنها استطاعت دوما أن تبعد جميع الانحرافات وتؤمن مسيرتها لفترة طويلة تطول أو تقصر تبعا لقوة تلك الأديان وعمقها وقوة المبادئ التي تحملها وصلاحها.

علم المذاهب ومناهجه وأسسه:

وقد كان العلم الذي يبحث في آراء وعقائد المذاهب المختلفة وتحليلها ومعرفة أدلتها من أفضل أنواع الدراسة والتحقيق فهو السبيل الأفضل لمعرفة الرأي الأصوب والموقف الأحق بالأخذ والإتباع وهذا هو الأسلوب الذي اتخذه القران الكريم في مواجهاته العقائدية مع أصحاب المذاهب والاتجاهات الفكرية المضادة وقد حث عليه إذ قال تعالى: (الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه).

ولكن بعض من أهل العلم وقعوا في مشاكل كبيرة حين خالفوا الأسس الموضوعية التي ينبغي العمل في ضوئها عند البحث في تاريخ المذاهب والفرق، وذلك لان القيام بمهمة التاريخ وتسجيل الحوادث وضبطها وكتابة التاريخ الحقيقي الصحيح أمر مشكل جدا، لان الهدف هنا ليس مجرد تسجيل الحوادث بهدف أراءتها للأجيال المتأخرة على ما هي عليه سواء كانت موافقة لميول المؤرخ ونزعاته أو مخالفة وسواء كانت في صالح قومه أو خلافه والفرق الذي يترتب على التشويه والدس فيه مآزق خطيرة تضع فيها الأمة جمعاء ويتأثر بها عقد وحدة الأمة ونجاحها أو فشلها في سلوك الطريق الصحيح المنقذ لها من منزلقات الضلال إن هي لم تسلك طريق الحق، وهذا لا شك يوجب على المؤرخ في هذا الباب أن يكون موضوعيا متبنيا للحقيقة ومحبا لها أكثر من حبه لنفسه ومصالحه وان ندر هذا بين المؤخرين إذ نجد أكثرهم مالوا إلى التركيز على ما يروقهم ويلائم أهواءهم والمذهب الذي يعتنقوه ويتركون ما سواه.

ويتضح صدق هذا الكلام في وصفهم ما نجده في تاريخ أيام الدولتين الأموية والعباسية فكل يخدم الدولة التي تعاصره وتدر عليه الرزق حتى صارت التواريخ متناقضة حيث تخلى الكاتب عن مسؤوليته التاريخية، ولم يراع واجبه الأخلاقي والعلمي والاجتماعي وقبل كل شيء مسؤوليته الدينية وقد صار تدوين وتبيين عقائد الأمم ومذاهبها أمر صعب مستصعب على المؤرخ فيه جملة مسؤوليات على رأسها التحلي بالشجاعة الأدبية والعلمية حتى يتمكن بها من البحث الموضوعي حول عقائد الشعوب وعرضها على ما هي عليه، والقيام بهذا الواجب بلا هذين الشرطين أمر صعب جداً.

فمؤرخ العقائد يتحمل مسؤولية جسيمة أمام الله أولاً وأمام وجدانه ثانياً وأمام المجتمع والأجيال والتاريخ ثالثاً ومن المؤسف والمؤلم إن أكثر من تصدى لهذه المهمة في تسجيل عقائد الفرق والمذاهب لم يتجرد عن أهوائه وميوله ومصالحه الشخصية وغلبن مصالحه الشخصية ونزاعاته وعواطفه الدينية وتعصباته الباطلة على تبني الواقع وآرائه الحقيقية فتجد إن أكثر هؤلاء حين يكتب عقيدة فرقته ومذهبه يكتبها بشكل مرغوب منمق ويحاول أن يصحح مالا يصح منها ولو بتحريف التاريخ وإنكار المسلمات، أما إذا أراد تسجيل عقائد مخالفيه فلا يستطيع أن يخفي عداءه الذي يكنه لها ويحاول عرضها بشكل مشوه وينسب لها أحيانا نسب مفتعله وأراء مكذوبة نزولا عند حكم العاطفة الدينية الكاذبة، أو اعتمادا على الكتب التي لا يصح الاعتماد عليها، أو يتساهل في ضبط العقائد والمذاهب.

فكانت هذه الأسباب وغيرها سببا لحيرة الأجيال المتأخرة من الشباب في مجال التعرف على عقائد الأقوام والملل وضلالها وإساءة الظن، وكان من أهم عوامل الفرقة والموقف السلبي المتبادل إن هؤلاء المؤرخين اكتفوا في بيان العقائد بالرجوع إلى كتب خصوم وأعداء الفرق التي أرخوا لها وبحثوا فيها مما أوقعهم غالبا في مجانبة واضحة وبعدا عن الحق كبير.

البحث العقلي في الدين وآثاره:

يميل الباحثون في الأديان والعقائد إلى إن الدين ـ أي دين ـ يمر بمرحلتين:

الأولى: مرحلة الأيمان القلبي.

التي تمثل فيها التسليم والتصديق والتقديس إذ يضر الدين في نشأته إن تعصف به الأهواء والجدل وتشتت الآراء كما يضر النبتة الحديثة الغرس إن تعصف بها الأنواء، فلم يكن سائل ـ على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله ـ يسأل مثلا عن الاستواء كيف يكون فيما تصوره الآية في قوله تعالى: (الرحمن على العرش استوى).

الثانية: مرحلة النظر العقلي.

حيث ينتقل الأيمان بالدين إلى مرحلة البحث والنظر والصياغة الفلسفية للعقائد الدينية ويكون حب الاستطلاع الطبيعي في البشر منطلقا لهذه المرحلة، فالناس جميعا قد وهبوا الاستعداد للنظر العقلي والتفكير الفلسفي يقول تعالى: (وكان الإنسان أكثر شيئاً جدلاً) الكهف / 54 وكان لمجموعة ظروف موضوعية وأحداث واقعية على رأسها احتكاك المسلمين بأصحاب الديانات الأخرى التي تسلح أتباعها بأسلحة الجدل والفلسفة إن أكرهت فريقا من المسلمين على أن يدافعوا عن دينهم مستخدمين مثل تلك الأسلحة فكان ذلك طريقا جديدا أسس لنشأة علم الكلام وفتح الطريق أمام ظهور مذاهب كلامية ففي علم الكلام موضوعات ومباحث لم يتفق فيها المتكلمون على رأي واحد بل تفرقوا فرقا وانقسموا شيعا ولا شك إن الخطاب الإلهي (الوحي) قرآنا كان أو سنة قطعية الصدور لم يقصد البحث في موضوعات ما وراء الطبيعة وعالم الغيب ومباحث الفلسفة على اختلافها.

والقران حين حث على التدبر والتفكر والتعقل كان قد أسس ركائز العقيدة وأصول الأيمان الذي على الإنسان أن يسلم بها ويدافع عنها ولا يتخطاها إلى مخالف أو رأي مغاير، كما إن الإسلام (القران) لم يحبذ المراء والجدل في الدين الذي يورث الشقاق والبغضاء حين يبتعد عن تلك الأصول ويتناسى آداب الحوار وأصول المناظرة وأخلاقيات الدعوة التي هدفها الحق وبيان الرشد من الغي.فلماذا وكيف نشأت المذاهب وانقسمت واختلفت والخطاب الإلهي واحد وأساسه مبدأ التوحيد وتوحيد الكلمة.

وما الذي يدفع مؤرخو الفرق وكتابها ليتسهلوا كتبهم بالرواية المشهورة التي تنسب للرسول صلى الله عليه وآله (افترقت اليهود على أحدى وسبعين فرقة وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار ما عدا واحدة قالوا وما هي يا رسول الله؟ قال…) وترى كل فرقة تدعي أنها النجية المقصودة.

وكان هؤلاء الكتاب والمؤرخين والمتكلمين يتخذون من هذه الرواية مدخلا وتبريرا لتكفير خصومهم ولقد جنح هذا بهم في أكثر الأحيان إلى الشطط والتحامل على الخصوم والتعسف في تقسيم الفرق وتحديدها بما يطابق هذا العدد المذكور في الرواية وقد غفلوا عما تخبئه الأيام من فرق جديدة وتفرعات وتشظيات في تلك المذاهب المعدودة.

لقد كان علم الكلام والكتابات في تاريخ الفرق تسجيلا لمعتقداتها والخلافات والانقسامات التي دفعت فيها وهذا التسجيل وإن شابته شوائب وتحاملات وتشويهات كثيرة إلا انه لم يكن هو بذاته سبباً (تلك الانقسامات والتفرقات شيعاً) ومذاهب وانبرى كل أتباع فرقة يدافعون عن مذهبهم وهم وان كانوا لا يختلفون على تنزيل القران وإنما يختلفون على تأويله، إذ اتفقوا على نصه واختلفوا على تفسيره لكنهم انجروا إلى ساحات صراع محتوم كان له أثاره الوخيمة على مسيرة الأمة وأوقعها في مآزق ومنعطفات تاريخية كادت أن تؤدي بمصيرها في كثير من الأحيان وصارت أرادتها وغيبت تحكمها في مصيرها.

فهل كان هذا الواقع المرير للأمة وهي تسلك هذا الطريق في نفق مظلم في كثير من الأحيان ـ مغفولا عنه في نظرة الشريعة وأصحابها وبمعنى آخر هل أغفل الرسول صلى الله عليه وآله وضع صمامات أمان تحمي مسيرة هذه الأمة من هذه المنزلقات وتؤمن هذا السلوك على سبيل بنيها وشريعتها المتكاملة.

تأمين المسيرة وبداية الانقسام:

لقد التحق الرسول صلى الله عليه وآله بعد أن استودع الأمة وديعتين هما أساس مصيرها وأمانها ومنجاتها من الهلكة والضلال وقد عبر عنها الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله بقوله (أني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي، وان اللطيف الخبير اخبرني أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض فانظروا كيف تخلفوني فيهما) فجعل صلى الله عليه وآله الكتاب والعترة الطاهرة مقياسا للحق ونبراسا للهدى والمعرفة لا تضل الأمة إن تمسكت بهما فهما إعلام هدايتها ودلائل الحق، وكان متوقعا من الأمة وهي ترث هذه التركة أن تسير في طريقها بعده صلى الله عليه وآله مرصوصة الصفوف متوحدة الجمع سالكة سبيل الحق آمنة من الاختلاف في أصول وفروع ولكن ـ يا للأسف ـ فقد حدثت حوادث وطرأت موانع وعقبات عرقلة خطى الأمة في مسيرتها وصدتها عن نيل غاياتها المنشودة فظهر تشعب الارآء ونبتت فيها فرق ومذاهب تحمل عقائد وأفكار خالفت أول ما خالفت الثقلين وأول ما تضادت مع مبادئ الإسلام وأسسه وهذا كله كان ثمرة لعدم تمسك الأمة بما أمرها نبيها صلى الله عليه وآله حيث ضيعت على الإمامة الحقة بل على نفسها ذلك الدور التاريخي الذي كانت ستعود فيه الآمة إلى صلاحها وسعادتها متسبب في ذلك أن تكون الإمامة كمنصب بؤرة للصراع والخلاف والانقسام حين أزيحت عن موقعها الصحيح الذي عينه الله تعالى ونص عليه نبيه الهادي صلى الله عليه وآله.

أهم أسباب ومعالم الانقسام:

1ـ الخلافة: يقول أبو الحسن الأشعري وهو زعيم مذهب من تلك المذاهب هو الأشعرية (اختلف الناس بعد نبيهم صلى الله عليه وآله في أشياء كثيرة ضلل فيها بعضهم بعض فصاروا متباينين وأحزابا مشتتين إلا أن الإسلام يجمعهم ويشتمل عليهم، وأول ما حدث من الاختلاف بين المسلمين بعد وفاة نبيهم اختلافهم في الإمامة)(1).

وهكذا كانت المواقف في الإمامة من أول المشاكل التي عصفت بالأمة في بدايات تاريخها وأدت إلى انقسامات بحسب تلك المواقف حتى قال بعض المؤرخين (ما سل سيف في الإسلام كما سل في الإمامة) وقد عكس ذلك بعدا سياسيا وعقائديا على تلك الخلافات للارتباط الوثيق بين البعدين عند المسلمين فقد انقسم المسلمون في قضية الإمامة على اتجاهين:

أ ـ اتجاه قال بان الرسول صلى الله عليه وآله مات ولم يستخلف بعده أحدا وترك للأمة اختيار من يقودها سواء كان هذا الاختيار بالبيعة أم الشورى أو الإجماع على اختلاف الآراء وهذا رأى أهل السنة وكان اجتماع السقيفة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وآله مباشرة ليبايع أبو بكر خليفة ومن ثم ليعين عمر من بعده الذي جعلها بعده شورى في ستة أشخاص حملت عثمان إلى كرسي الخلافة لينفتح عهد الفتن التي كانت تطل على الأمة برأسها بعد حين وأخر.

ب ـ اتجاه أخر هو ما ذهب إليه الشيعة من أهل البيت (عليهم السلام) بأن الله تعالى نص على الأمام الخليفة بعد الرسول صلى الله عليه وآله على الأمة وأكمل النبي ذلك بالنص الجلي الواضح على علي بن أبي طالب (عليه السلام).

لقد كان الواقع التاريخي لمسيرة الخلافة بعد رحيل الرسول صلى الله عليه وآله سببا رئيسيا في نشأة المذاهب ترك أثرا بالغا في تحديد معالمها وأسس الخلاف بينها حيث أفرز مجموعة أمور أخذت فيما بعد أخذ المسلمات مثل (سنة الشيخين) التي تحولت إلى مرجع تشريعي بعد الكتاب والسنة أو (سنة الصحابي) التي شكلت أيضا أصلا جديدا من أصول التشريع ونتج ذلك كله عن موقف تمخصت عنه السقيفة التي أبرز بعض الصحابة قدرتهم على حسم النزاع وسوق الناس إلى البيعة وأردفوا ذلك بقدرة إدارية في اتخاذ القرار وانفاذه.

وهكذا ولد نظام الغلبة وليداً طبيعياً لنظرية الخلافة في ثوبها الجديد الذي ألبسها إياه مخاض الأمة في واقعها السياسي بعد الرسول (صلى الله عليه وآله) وليس الدين في أسسه ومبانيه فقد أجريت التعديلات والتأويلات اللازمة لتأهيل هذه الثقافة الجديدة من خلال تحوير ولي عنق للآيات ومفاهيمها ودلالاتها كما حدث مع قوله تعالى: (وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) النساء /4، فبعد أن أست الآية لهذه الركائز الثلاثة لمنظور الإسلام للطاعة المترابطة المتكاملة الأركان في تثبيت الحاكمية لله والرسول وأولي الأمر الواجب طاعتهم بعد الرسول صلى الله عليه وآله نجد أن الأمة مالت إلى التقويم الثالث والمتبقي بعد رحيله صلى الله عليه وآله وتدجين المفهوم ليصبح منحرفا عمن قصد به قابلا للتطبيق القسري على من فرض ذلك الأمر الواقع وأسس لتلك الغلبة مهما كان هذا المفهوم واضحا في دلالته على تخصيص تلك الطاعة بالمؤهلين الذين ينبغي إن تسند إليهم الأمة أمرها، هذا الانحراف الخطير الأول للفكر فقها وعقيدة إلى غاية رئيسية هي حفظ حق الحكم لمن أعتلى كرسيه وملك زمام أمره وبأية طريقة تم له ذلك فلا بد من شرعنة ذلك الصعود وتفرغ الفكر لتأهيله فانحرفت مسيرة هذا الفكر عن همها الأكبر في حفظ الدين وإقامة حدود الله وترسيخ أسس ناموسه وتشريعاته وحفظ الأمة في مسيرة استكمالها نحو غاياتها في الهداية وسلوك سبيل الحق والمعرفة بالله تعالى لتهتدي إلى صراط مستقيم.

2ـ السياسات المنحرفة والظالمة: 

لقد كانت السياسات المنحرفة للحكام الذين نزوا على خلافة المسلمين أثارها الكبيرة في تكريس الاختلاف والتشرذم وكان لإدراك أولئك الحكام وعلى رأسهم الأمويون والعباسيون والعثمانيون… الخ، إن أهل البيت (عليهم السلام) خطر يهدد كياناتهم بالزوال لما تميزوا فيه من خصائص وشمائل العدل والفضيلة والأحقية بالأمر والحكمة في قيادة مسيرة الأمة وعدم السكوت على الظلم، لذلك انبرت تلك الأنظمة تكيد العداء والتنكيل والتشريد لآل البيت (عليهم السلام) وأتباعهم على مر التاريخ وتحاول أن تبعد الناس عنهم بشتى الطرق والأساليب والتي انقلب بعضها وبالا على مدبريه كما في بعض الحالات التي حاولوا فيها أن يوقعوا الأئمة (عليهم السلام) في مناظرات وصراعات فكرية تصوروا أنها ستظهر ضعفا أو تكشف خللا يستغلونه لإثبات عدم أهليتهم فكان الأئمة (عليهم السلام) بالمرصاد لذلك قلبوا الموازين ونطقوا بالحق الصريح وأفرزوا معطيات مدرسة فكرية أثبتت أهليتها الحقة لقيادة الأمة في مسيرتها وركزت حبهم (عليهم السلام) في نفوس الناس واحترامهم لها وتعلقهم بها، فمالوا بعد ذلك إلى محاولات الدس والتشويه على المذهب ومعتنقيه وملاحقة دعاته ومؤيديه ومحاولة زرع الكراهية له وتكريس إقصائه عن ساحة فعله وتأثيره في حياة الأمة فتسربت في إطار العلاقة معه عند باقي المسلمين رواسب من الكراهية والبغضاء انتهت بالأمة إلى ما هي عليه.

3ـ سوء الفهم والانحراف عن طريق الحق:

فقد تسبب سوء الفهم وانحراف المنهج عن الحق في الحكم على الأخر سبيلا إلى أن يكون المسلمين قاصرين عن تحديد العقائد الدينية لبعضهم ومصادرة بعضهم لفكر بعض وتكفيره أو تبديعه أو تفسيقه لمجرد عدم انسياقه وراء ما يريد له أو توافقه معه في منهجه فإذا أضفنا إلى ذلك قلة العقل والتنكب عن الحكم والانشغال باللجاج والمهاترات تبين لنا سبباً جديداً مهماً من أسباب الخلاف وقد كان من أخطر الفرق على المسلمين والإسلام فرقة نشأت عن مثل هذه الأجواء هي فرقة الخوارج الذين شغلوا الأمة بفترة طويلة من الصراع في بداية مسيرة التصحيح، التي قادها الأمام أمير المؤمنين (عليه السلام) ليدخلوا الأمة في نفق مظلم من الصراع بعد إن مرقوا من الدين وخرجوا على إمام زمانهم وقد مكنه الله تعالى من إستأصالهم وتبديد شملهم.

وقد وصف الإمام (عليه السلام) جهلهم هذا وسوء فهمهم حين قال: (وأنتم معاشر إخفاء الهام سفهاء الأحلام) ووصف مفارقتهم الحق حين قال: (لا تقاتلوا الخوارج من بعدي فليس من طلب الحق فأخطأه كمن طلب البطل فأدركه) وقد كان من سوء فهمهم ما خالفوا فيه حين رفعوا شعار (لا حكم إلا لله) واعتقدوا إن التحكيم خالفه (لأنه تحكيم للعباد) فكانت كلمة حق يراد بها باطل.

4ـ المنع عن تدوين الحديث الشريف وتغلغل الإسرائيليات والأفكار الضالة:

لقد كان هذا عاملا مهما آخر فقد منع عن تدوين الحديث النبوي وكتابته ما يقرب من مدة قرن من الزمان منذ خلافة عمر بن الخطاب وحتى عهد عمر بن عبد العزيز (99ـ101هـ) مما فسح المجال أمام الإسرائيليات والأخبار والعقائد الضالة التي بثها الأحبار والرهبان أن تتغلغل في منظومة التراث الإسلامي.

فقد روي إن عمر بن الخطاب كان كلما أرسل واليا إلى مصر من الأمصار يوصيه من جملة وصاياه: (جردوا القران وأقلوا الرواية عن محمد صلى الله عليه وآله وأنا شريككم) تاريخ الطبري 3/273، وروي أن أبا بكر أحرق خمسمائة حديث كتبه عن الرسول صلى الله عليه وآله كنز العمال 10/293، وأن عمر دعا الناس أن يأتوا بما عندهم مما كتبوا عن رسول الله صلى الله عليه وآله ثم أحرقه. الخطيب البغدادي تقييد العلم ص:52، وحتى محاولة عمر بن عبد العزيز لم تفلح في إنهاء هذا المنع بسبب رواسب القرار السابق التي ترسبت كمطلب سلطوي حال دون فاعلية توجهات عمر بن عبد العزيز واستمر ذلك حتى سنة 143هـ في خلافة المنصور حين شرع علماء المسلمين في تدوين الحديث والتفسير والفقه بعد إن كان العلماء يتكلمون من حفظهم،لقد كان لفترة  المنع هذه أثارها في خسارة عظمى سببت في انتشار فوضى فقهية وعقائدية نتيجة الفراغ الذي خلفه ذلك العمل بحيث أوجدت أرضية هشة في ثقافة الإنسان المسلم وأوجدت أرضية أخرى مناسبة لظهور بدع يهودية وسخافات مسيحية وأساطير مجوسية شكلت جزءاً من منظومة الاعتقادات عند المسلمين كما كانت فاتحة لطريق الوضع والكذب حتى قال عبد الكريم بن أبي العوجاء وقد أحضر للقتل حين أيقن من الموت (لئن قتلتموني فقد وضعت في حديثكم أربعة ألاف حديث مكذوبة حللت فيها حراما وحرمت حلالاً…) أمالي المرتضى 1/127.

5ـ الاستعمار والقوى المعادية للإسلام:

لقد كان لضعف سلطان المسلمين وانحرافهم عن مسيرة استكمالهم وتضييعهم للنهج الذي نهجه لهم نبيهم والأسباب مارة الذكر إن فتح ذلك الباب واسعاً والثغرة كبيرة لينفذ منها الاستعمار والقوى المعادية للإسلام وأذنابهم لترسيخ الفرقة والتشتت بين المسلمين من خلال تركيز مبادئ ومفاهيم تخالف الإسلام وتزرع بذرة الشقاق وتفصم عرى الوحدة من خلال جملة من الوسائل والآليات في تحقيق ذلك كتشويه الحقائق التاريخية والتميز الطائفي وتشويه مناهج الدراسة وممارسة سياسات التجهيل والتهميش للفكر الواعي الملتزم بخط الإسلام وبتوحيد الكلمة وهكذا أصبح البحث في الإمامة محور الخلاف بين المذاهب الإسلامية وإن وجدت أمور أخرى كان لها أثر أخف على هذا الخلاف، إن كل هذا يستلزم أن يتبنى أفراد الأمة ومؤسساتها فضلاً عن حكوماتها إستراتيجية التقريب بين المذاهب وترسيخ أسس وحدة الأمة والقضاء على كل عوامل الضعف والتحلل التي تهيئ الأجواء للانقسام والفرقة، والتأسيس لثقافة إسلامية تنويرية تحصن وحدة المسلمين وترتكز على الحوار الايجابي البناء الذي يحترم الرأي الأخر ويتعامل بموضوعية مع المذاهب الإسلامية ويعترف بالتعددية والاشتراك بينها في بناء مسيرة الفكر الإسلامي وتعزيزها بتكاتف الجميع. ثقافة لا تطلب من السني أن يكون شيعيا أو الشيعي سنيا وإنما أن يتعامل المسلمون مع بعضهم على أنهم مسلمون لا يتمايزون ولا يشتم بعضهم بعضا ولا يقصي بعضهم بعضا لمجرد عدم انتمائه إلى مذهبه.

إن وحدة المسلمين مسؤولية عظيمة تقع على عاتقهم على رأسها أن يظهروا قوة وعزة الإسلام وأهليته وقدرته على علاج مشاكل الإنسانية فلو كان الإنسان لا يستطيع أن يعافي أمراضه هو، فكيف يعافي غيره وكيف يقدم المسلمون العلاج للأمم وأمتهم مريضة بتشرذمها وانقساماتها ونزاعاتها فالوحدة اليوم مطلب إسلامي وضرورة عقيدية حتى لا يكون المسلمون (كالذين تفرقوا واختلفوا بعد ما جاءتهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم).

انطلاقاً من هذا وتأسيساً على مبادئه لابد من البحث عن اسلوب للحوار المذهبي ومعايير وضوابط تحكم المناظرة والحوار العقائدي وتؤسس لمنهج موضوعي في تبني الرأي بعد ثبوت حقيته وصدقه وسلوكه طريق الحكمة وتبين هذا من خلال جملة من الضوابط للحوار العقائدي يمكن تلخيصها بما يأتي:

1ـ أن يكون الحق والهدى هو ضالة المتحاورين ومطلب المتناظرين، فالمحاور هنا أخ ومعين على الوصول للحق لا خصم وعدو بل إن المرجو أن يشكر ذلك الخصم لأنه أعانه على الوصول للحق لا أن يعامل بالنهر والتغليط ويبالغ في المجاهدة والمدافعة لرأيه ومنهجه.

2ـ أن يمكن المتحاورين بعضهم بعضا من الانتقال بين الأدلة والأسئلة وإجاباتهم والإشكالات وما يدفعها بل يعاون بعضهم بعضا في استخراج ما كان من الكلام متضمنا للحق وإن غفل عنه الخصم وهو في كلامه.

3ـ أن لا يكون الدافع الأساس لكل محاور إظهار علمه وأسبقيته على خصمه وصحة نظره كي لا يكون الحوار مراءً قبيحاً مكرساً للخصومة والبغضاء.

4ـ أن لا يطيل الكلام أكثر من الحاجة للوصول للحق وأن يناظر ويحاور خصمه في الوقائع المهمة والمسائل الأقرب للوقوع وليس الانشغال بالتوافه والسفاسف.

5ـ أن يكون المتحاورون متمكنون من اللغة والبيان والقدرة على إيراد الأمثال والشواهد من الشعر والنصوص الدينية وغيرها حتى تكون مؤثرة في تدعيم الفكرة ومقربة لصحتها وتأكيد القناعة بها.

6ـ تجنب عبارات الشتم والانتقاص واللعن والسخرية بالآخر مما يثير عواطفه وحنقه وغضبه ويزيد من الفرقة ويفسد الغرض من الحوار والمناظرة التي ينبغي أن تكون (بالتي هي أحسن).

7ـ تجنب لغة الكبرياء والغرور والتعالي واللجوء إلى رفع الصوت إشعارا بالغلبة والقهر للأخر بل هذا حقيقته أنه ينبئ عن شعور بالمغلوبية.

8ـ أن تتاح الفرصة كاملة لكل المتحاورين في أن يكمل كلامه ويستعرض أدلته ويبين مقصوده دون أن يستبقه خصمه أو يقطع عليه كلامه.

9ـ أن يطلع كل من المتحاورين على أفكار وعقائد وآراء الخصم من مصادرها المعتبرة ووثائقها الدقيقة الصحيحة للتحقق من أمانة النقل ودقة الاستشهاد وليس اللجوء إلى المصادر التي تخاصم ذلك الطرف أو تشوه فكره وعقيدته.

10ـ أن يراعي كل من المتحاورين اختيار المكان والزمان والألفاظ المناسبة حيث أن لكل مقام مقال ولهذا تأثير نفسي كبير عند المتحاورين.       

11ـ أن يراعي كل من الخصمين مقدار فهم الأخر ومستواه الفكري ويستخدم الأسلوب المفهوم لديه المؤثر في إتباعه الحق وإقناعه به.

12ـ أن يهضم كل من المتحاورون الفكرة مدار النقاش ويحيط بأبعادها ويقتنع بها تماما قبل طرحها للنقاش فمن لم يقتنع كيف له أن يقنع غيره.

13ـ تجنب ألمراء والجدل العقيم الذي لا طائل من ورائه ولا يهدف إلى الكشف عن الحق بل ينشغل بالكلام الفارغ الذي يهدف إلى الغلبة والعناد والقهر فيتحول إلى مرض وعقدة نقص تشغل صاحبها وتقف عائقاً أمام وصوله إلى الحق.

إن هذه العوامل لو توافرت للحوار المذهبي والمناظرة الفكرية جعلتها صادقة وناجحة في بلوغ هدفها في إصابة الحق وتحقيق ثمرة البحث انطلاقا من أسس آداب الحوار التي رسختها الآية الكريمة في قوله تعالى: (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن) النمل /125.

 

المصدر: مجلة ينابيع

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

*