إعدام المسيح

213

الشيخ الأستاذ مصطفى الهادي (رئيس مؤسسة الإمام علي عليه السلام في فنلندا)

    هل تؤيد الأناجيل الحالية ما ذهب إليه القرآن من عدم صلب السيد المسيح عليه السلام ؟؟  تأملات في قوله تعالى : {بل شُبّه لهم} .

   قبل البدء بأي حديث حول ما يُقال عنه أنه (الإنجيل أو الأناجيل) درست وتأملت الحالة النفسية لمن كتب الأناجيل فوجدت الأعاجيب التي لربما لم يلتفت إليها أحد قبلي . فوجدت بأن من دوّن هذه الأناجيل هم ممن تأثروا بوظيفته أو عمله فترك ذلك أثرًا في ما دوَّنه، أو أن بعضهم من العاميين الجهلة الأغبياء العديمي العلم فيقول : (فلما رأوا مجاهرة بطرس ويوحنا، ووجدوا أنهما إنسانان عديما العلم وعاميّان، تعجبوا)

   وكاتب الرسائل الشهير (بولص) كان يصف نفسه بأنه غبي وعامي كما جاء في (كورنثوس) حيث يصف نفسه : (ليتكم تحتملون غباوتي قليلا وإن كنت عاميًّا في الكلام) / رسالة بولص إلى كورنثوس ا لثانية /الإصحاح 11 : 1 ـ 8 .

   وبقية كتبة الأناجيل انعكست شخصياتهم ومهنهم وأعمالهم على ما كتبوه من مذكرات، فأحدهم كان طبيبًا فجاء إنجيله مشحونًأ بمعجزات شفاء المرضى وإبراء الأبرص والأعمى والمجنون والمصروع والأعرج والمقعدين . فانعكست مهنته في ما دوَّنَه من مذكرات .

   وأحد كتبة الأناجيل كان جابيًا للضرائب، فنرى إنجيله امتلأ بمسائل الاقتصاد والمال، حيث أمر الناس فيه أن يعطوا الجزية لقيصر وأن يؤدوا ما عليهم من ضرائب للدولة، ووضَع ذلك على لسان السيد المسيح.

   وكاتب آخر كان صيادًا للسمك ، فامتلأ إنجيله بمسائل الجوعى ومعجزات إطعام آلاف الجائعين من (سمكتين) حيث اعتبر ذلك معجزة للسيد المسيح عليه السلام ، فصائد الأسماك هذا لم يتخلَّ عن عقليته حتى في تدوينه لمذكراته، فرغب أن يُخلّدَ مهنته فجعل الأسماك من معاجز المسيح الكبرى.

   والكاتب الآخر كان خمَّارًا يبيع الخمر في إحدى الحانات ، فنرى تأثير ذلك على إنجيله، حيث نرى معجزة صنع عيسى لسبع أجران من الخمر الصافي المعتق الذي أعجب القائد الروماني فقال : لماذا تقدمون الخمر الرديئة في بداية الحفل وتتركون الخمر الجيدة إلى آخر الحفل ؟. وهذا الخَمَّار حاول أن يُخلّدَ مهنته فجعل معجزة السيد المسيح الكبرى صنعه لسبع أجران من الخمر، وأنه في ليلة الوداع سقى تلاميذه الخمر ضاربًا مثلًا بدمه .

   و(يوحنا) كان مُعبِّرًا للأحلام . فجاء كتابه قطعة واحدة على شكل رؤيا رآها في المنام ودوَّنَها بعشرات الأوراق فاعتمدها الجماعة على أنها كتاب مقدس موحى به من قبل الروح القدس عن طريق المنامات .

   و(بولص شاول) صاحب أكبر الأناجيل إنما كان يكتب رسائل إلى أصدقائه في المدن البعيدة ، فجاء القوم وجمعوها على أنها إنجيلًا خامسًا مقدَّسًا ، ولا أدري أين يذهبون بقول بولس الذي يوصي به صديقه بأن يجلب معه ملابسه التي نساها فيقول : وسلام يا صديقي وألا تنسى أن تمر على أخي وتجلب معك ملابسي التي نسيتها عنده؛ القميص والإزار والثوب والحذاء. فجعلوا ذلك إنجيلًا موحى به من قبل الله !  

   وهكذا كانت هذه الكتب انعكاسًا لنفسية كُتّابها وتركت تأثيرًا بيِّنًا فاضحًا عليها، وكل ذلك نتيجة الغباء والأمية والعامية والمهن والوظائف.

{أفمن هذا الحديث تعجبون وتضحكون ولا تبكون وأنتم سامدون}. سورة النجم / 59

البحث :

   لا لم يُصلب السيد المسيح، هذا رأي لم أذهب إليه أنا وحدي بل الكثير ممن سبق، وقال بذلك من لدن اختفاء السيد المسيح عليه السلام وإلى هذا اليوم . ولنا تساؤل في ذلك نقول فيه : إذا كانت حادثة صلب السيد المسيح  عليه السلام – كما يعتبرها النصارى – أحد أهم أعمدة التخطيط الإلهي، وأن مصير غفران خطايا البشرية والمصالحة مع الله يتوقف عليها لتتم فصول الرواية التي كتبها الله تعالى منذ أن خلق مسيحه من أجل ذلك، حادثة بهذه الأهمية كان لابد أن يتحدث عنها الأنبياء في أسفارهم، أو على الأقل اتفاق من كتب عن هذه الحادثة المهمة، وأعني بهم كتبة الكتب الأربعة في مذكراتهم، فحتى هؤلاء لم يتفقوا في ما بينهم على شكل واحد للرواية، فمنهم من ذكرها بصورة مضطربة ومنهم من بتر منها أجزاءً ومنهم من أنكرها كليًّا (1).

   هذا التباين المريع والاختلاف الفاضح دفع النصارى إلى البحث عن بديل آخر فلجؤوا إلى التوارة بما فيها من هنات وزلات، فزعموا أن داود تنبأ في مزاميره بعملية الصلب ثم أخذوا يجولون في أنحاء التوراة باحثين ومنقبين يلوون النصوص ليًّا عجيبًا لكي تتلاءم مع ما يذهبون إليه، وطيلة قرون متمادية أخفوا كتبهم عن متناول يد الناس، لكي لا تتضح الحقيقة حتى أحكموا ما يُريدونه ثم أبرزوا تلك الكتب إلى العيان، وإذا فيها من التخبط ما يُذهل لب كل عاقل، فزعموا أن للأسفار التوراتية دورًا عظيمًا في مسألة كشف معميات قضية صلب السيد المسيح، فقد أكثر كتبةُ الأناجيل في هذه القصة من الإحالة إلى أسفار التوراة؛ التي يرونها تتنبأ بالمسيح المصلوب، ولكننا بعد الكشف على النصوص التي يزعمون أنها تذكر قضية الصلب، رأيناها تؤكد شيئًا آخر، ألا وهو نجاة السيد المسيح من الصلب ـ هذا إذا كان السيد المسيح هو المقصود ـ وليس صلبه كما سترى. فمن خلال جميع النصوص التي ذكروها نرى أن السيد المسيح عندما علم بالمؤامرة وأنهم قادمون لإلقاء القبض عليه، تألم لذلك الخبر وارتاع وخاف ، فقام يطلب من الله ويدعوه أن يصرف هذه المؤامرة عنه، حيث دعا الله بلجاجة وحرارة أن ينجيه منها بحيث يؤكد لنا المشهد عدم علم  السيد المسيح بعملية صلبه ، ويصور لنا (مَتَّى) حالَ المسيح وشدَّةَ ضراعته لله ، فيقول: ((جاء معهم يسوع إلى ضيعة يقال لها جثسيماني، فقال للتلاميذ: اجلسوا ههنا حتى أمضي وأصلّي هناك، ثم أخذ معه بطرس وابني زبدي، وابتدأ يحزن ويكتئب، فقال لهم: نفسي حزينة جدًا حتى الموت، امكثوا ههنا واسهروا معي، ثم تقدم قليلاً وخرّ على وجهه، وكان يصلّي قائلاً: يا أبتاه إن أمكن فلتعبر عني هذه الكأس، ولكن ليس كما أريد أنا، بل كما تريد أنت، ثم جاء إلى التلاميذ فوجدهم نياماً.. فمضى أيضاً ثانية، وصلّى قائلاً: يا أبتاه إن لم يمكن أن تعبر عني هذه الكأس، إلا أن أشربها، فلتكن مشيئتك، ثم جاء فوجدهم أيضاً نياماً، إذ كانت أعينهم ثقيلة، فتركهم، ومضى أيضاً، وصلّى ثالثة قائلاً ذلك الكلام بعينه)). ( متى 26/36 -40)

   ويصف (لوقا) المشهد ولكنه يختلف في الوصف، فيقول: (وإذ كان في جهاد؛ كان يصلي بأشد لجاجة، وصار عَرَقُه ُ كقطرات دم نازلة على الأرض) .لوقا 22/44

   فالمسلمون مصدقون بهذا الدعاء الطويل. والأدعية من مختصاتهم، وهي وسيلتهم لجلب الدعم والتأييد الإلهي، وهذا هو حال الصالحين جميعًا حين يتعرضون للأهوال والشدائد، فلا يجدون ناصرًا يلجؤون إليه إلا الله تعالى، وقد ضرب لنا القرآن أمثلة لذلك في كل الأنبياء حين تنزل بهم الشدائد وتحيط بهم الأهوال، كقول أيوب عليه السلام : ربِّ مسني الضر وأدعية إبراهيم عليه السلام ، ودعاء موسى عليه السلام، ولعل أشهرها عندنا هو دعاء أم داود عليه السلام وتضرع عيسى عليه السلام ، وأدعية محمد صلى الله عليه وآله. ومن هنا نرى (بولص) وهو من المتأخرين عن زمن  السيد المسيح عليه السلام ، يؤكد مسألة نجاة السيد المسيح عليه السلام من الموت فيقول : وقد أجاب الله دعاء عبده المسيح فصرف عنه كأس (الموت الذي في أيام جسده، إذ قدّم بصراخ شديد ودموع طلباتٍ وتضرعاتٍ للقادر أن يخلصه من الموت، وسُمِعَ له من أجل تقواه)(عبرانيين 5/7).

   فقد استجاب الله تعالى لعبده عندما طلب منه أن تعبر عنه هذه الكأس فأنقذه الله منهم. ولكن وعلى ما يبدو أنه لم تنفع حتى النصوص المزعومة من التوراة التي زعموا أنها تؤيد صلب السيد المسيح  عليه السلام، ولكن تبين أنها تؤكد مسألة نجاة المسيح  عليه السلام وإليك نصين منها.

   جاء في مزامير داود : (الآن عرفت أن الرب مخلِّصٌ مسيحه، يستجيبه من سماء قدسه، بجبروت خلاص يمينه، هؤلاء بالمركبات وهؤلاء بالخيل، أما نحن: فاسم الرب إلهنا نذكره هم جثوا وسقطوا، أما نحن: فقمنا وانتصبنا، يا رب: خلص، ليستجيب لنا الملك في يوم دعائنا ). المزمور 20/1 – 9

   وفي المزمور الواحد والتسعين (أرفعه لأنه عرف اسمي، يدعوني فأستجِب له، معه أنا في الضيق، أنقذه وأمجده ) .المزمور 91/14

   فهل يوجد أوضح من هذه النصوص الدالة على نجاة السيد المسيح وليس هلاكه ؟

   لم يكن القرآن الكريم بعيدًا عن الفهم الحقيقي لقضية السيد المسيح عليه وعلى أمه أفضل التحية والسلام،وخصوصًا في ما يتعلق بأهم قضية فيها، وهي مسألة هل صلب السيد المسيح شخصيًا ، أو حل شخصٌ مكانه ؟  فالإنجيل والقرآن يتفقان على أن الذي صلب ليس السيد المسيح بل شخص تطوع بطلب من السيد المسيح نفسه، ومن هنا وصف إنجيل متى هذه العملية بأن الذين جاؤوا لاعتقال السيد المسيح استعانوا بدليل ليدلهم عليهم  ، وهذا يعني أنهم أصابتهم الشبهة فيمن أعدموا، وأنهم عندما علموا في ما بعد أن السيد المسيح نجا بمعجزة إلهية ،عمدوا إلى سرقة الجثة من القبر ثم اختلقوا قضية قيامته من الموت، ومن ثم الزعم بأنه ارتفع إلى السماء من بين تلاميذه، وذلك لانتشار معجزة ارتفاعه إلى السماء في حين أنهم أشاعوا مسألة إعدامه للناس، فما كان منهم إلا سرقة الجثة كما أسلفنا، ومن ثم إعلان قيامته لتبرير عملية طيرانه للسماء .

   كل ذلك لكي يضعوا أولى ملامح التحريف في الديانة المسيحية والتشويش عليها، لأن الدين الجديد أخذ بالانتشار، يضاف إلى ذلك أن العهد القديم لا يعطي رؤية واضحة كما يزعمون لكل ما يتعلق بالسيد المسيح، وإنما وجدوا نصوصًا سحبوا معناها لتؤيد ما يزعمونه، وإلا لم يرد اسم يحدد لنا معالم تلك الشخصية كما فعل القرآن مثلًا.

   القرآن لم يذهب بعيدًا عن الكتب الأربعة للنصارى المتداولة الآن، ولو كان الإنجيل الصحيح موجودًا لما رأينا القرآن يختلف في قضية السيد المسيح.

   الشبهة أو الشك الحاصل في شخصية السيد المسيح عليه السلام لم ينفرد بها القرآن، بل إن كتب مذكرات التلاميذ الأربعة أكدت وجود هذه الشبهة وأن الذين أرادوا قتل السيد المسيح عليه السلام لم يعرفوه وإنما استعانوا بدليل من أقرب الناس إليه ، ذلك هو تلميذه يهوذا الأسخريوطي .

   طبعًا وهذا يعكس عظيم الظلم الذي لاقاه وعانى منه السيد المسيح  عليه السلام على أيدي اليهود، فإذا كان المسيح حتى ذلك الوقت مجهولا ولا يعرفه أحد بالشكل، فتلك طامة كبرى ومصيبة ما بعدها مصيبة، فأين ذهبت تلك السنوات الثلاث في التبليغ؟ خصوصًا وأننا نرى النصوص تؤكد لنا بأن السيد المسيح  عليه السلام كان يشن الغارات على الهيكل ليقلب طاولات ا لصيارفة ويحارب الربا ويُبلغ الناس برسالته، وأن الناس استقبلوه بأن يفرشوا ملابسهم تحت حوافر حماره أو أتانه أو جحشه ـ طبعًا اختلفوا في هذه أيضًا ـ وكذلك النصوص تذكر عمليات شفائه ومعجزاته التي بهرت كل الناس، وكذلك إيمان الألوف به وإطعامه الآلاف من كسرة خبز واحد . كل ذلك يذكرونه ويكتبونه، وإذا بنص إنجيل متى يفاجئنا بأن لا أحد يعرف السيد المسيح وإنما يستعينون بدليل ليدل عليه كما سترى وتقرأ.

   فماذا يقول النص؟  تعال معي وانظر بعينيك وليس بعيني غيرك كما يفعل النصارى حيث ينسخون ما يكتبه الغير ويلصقونه في ردودهم عليك. يقول متى في إنجيله :

(وفيما هو يتكلم إذا يهوذا واحد من الاثني عشر قد جاء ومعه جمع كثير بسيوف وعصي من عند رؤساء الكهنة وشيوخ الشعب. والذي أسلمه أعطاهم علامة قائلًا الذي أقبله هو هو. امسكوه. فللوقت تقدم إلى يسوع وقال السلام يا سيدي. وقبله .حينئذ تقدموا وألقوا الأيادي على يسوع وامسكوه) انظر متى الإصحاح 26 : 47

   فإذا كان اليهود وهذا الجمع الكثير وشيوخ الشعب والكنهة كلهم لا يعرفون يسوع حتى استعانوا بدليل يعرفه جيدًا ومن أخص تلاميذه والصقهم به فلماذا نلوم القرآن عندما يقول :

}وما قتلوه وما صلبوه ولكن شُبِّهَ لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن{ . النساء /157

   هل رأيت عزيزي القارئ المحترم كيف أن القرآن يقول إن هؤلاء لم يكونوا يعرفون المسيح ..وليس لهم به علم إلا اتباع الظن.. بل شبه لهم؟ وهذا القول لا يخرج عن قول مَتَّى في أن كل هذه الحشود مع رؤساء الكهنة وشيوخ الشعب والجنود الرومان لم يعرفوه حتى استعانوا بدليل.

   عدم معرفة الناس للمسيح  ” عليه السلام ” جاء بناءً على وصية السيد المسيح ” عليه السلام ”  نفسه التي يذكرها الإنجيل حيث إن السيد المسيح ” عليه السلام ” عندما يسمع أحد تلاميذه يقول له إنه المسيح  كان ينتهره ويأمره بعدم قول ذلك وإشاعته، ومن هنا فلم يكن أحد يعرف السيد المسيح ،وهذا القول جاء على لسان السيد المسيح : (فقال لهم وأنتم من تقولون أني أنا فأجاب بطرس وقال له أنت المسيح . فانتهرهم كي لا يقولوا لأحد عنه) إنجيل مرقص الإصحاح 8 : 29.

ولا ندري أين نذهب بالنص القائل بأن عشرات الألوف استقبلوه عند دخوله إلى أورشليم راكبًا على حماره ، حيث فرشوا له أرديتهم وأقبيتهم وسعف النخيل ويلوحون له بأغصان الزيتون وهم يهتفون له. كيف نجمع بين هذا النص وبين النص الذي نرى فيه السيد المسيح يأمر خلَّص أتباعه بعدم إذاعة أمره وإشاعة سره ؟!

   وهناك رأي لي في هذه المسألة وهو أن النص يوحي لنا بأنه لربما أن يهوذا كذب عليهم وحاول تضليلهم عندما أعطاهم علامة قائلا لهم (الذي أقبّله ألقوا الأيادي عليه). فما يدرينا أن يكون يهوذا قد ضحى من أجل إنقاذ سيده فوضع يده على شخص آخر فيه شبه من السيد المسيح  ” عليه السلام ”  خصوصًا وأن النص يخبرنا بأنهم لا يعرفون المسيح، فألقوا القبض عليه بدلا من المسيح وأعدم . هذا الاحتمال وارد أولا تحت قول مَتَّى في أن كل تلك الحشود لم تكن تعرف السيد المسيح هذا أولا .

   والثاني الحركة الغريبة التي قام بها يهوذا الإسخريوطي وهي أنه ذهب برجله إلى اليهود طالبًا منهم التعاون معهم مقابل ثمن ليدلهم على السيد المسيح ،مع أن يهوذا لم يكن على خلاف مع المسيح فهو من تلاميذه المخلصين وصاحب أمانة وكان المسيح يثق به ، فإننا لا نجد تفسيرًا لتصرفه هذا إلا أن تكون المسألة مبيّتة بينه وبين السيد المسيح وهذا ما سوف تراه . فإن لم يكن الأمر هكذا ، فهذا يعني أن يهوذا الإسخريوطي غير مشمول بغفران الخطايا لأنه تسبب في قتل إنسان برئ ولازال المسيحيون إلى يوم الناس هذا يتمسكون بأن يهوذا كان مجرمًا نال جزاءه، وأنه غير مغفور له، ولا يزال النص الذي أورده متى يلاحق يهوذا ويحكم عليه بالهلاك وعدم غفران الخطايا : (فقد قال عنه الرب ويل لذلك الرجل الذي به يسلم ابن الإنسان , كان خيرًا لذلك الرجل لو لم يولد) متَّى 26 : 24

   فإذا كان كذلك فهذا لا يستقيم مع فدائية يسوع المسيح للتكفير عن خطايا البشر حيث إنه جاء ليكفّر الخطايا عن الجميع فلماذا استثني يهوذا من ذلك ؟ مع أن يهوذا كان أداة التخطيط الإلهي التي استخدمها تعالى لقتل ابنه الوحيد فلولا يهوذا لما كان للتخطيط الإلهي أن ينجح ولا لعقيدة غفران الخطايا أن تكون. 

   وأنا أميل إلى الرأي الأول بقوة، من أن يهوذا وبتدبير من السيد المسيح اتفقا على ذلك وصور يهوذا نفسه خائنا من أجل إنقاذ سيده، وأن الذي أعدم مكان السيد المسيح نال الشهادة والجنة كما تنقل لنا رواية سنذكرها في ما يأتي .

   وما هو الغريب في هذه المسألة أن يضحي أحد خلص تلاميذ المسيح من أجل سيده لينال الشهادة بذلك خصوصًا إذا عرفنا أن مبدأ الشهادة وارد عند النصارى فهذا استفانوس الذي نال الشهادة على يد بولص رجمًا ورضًا بالحجارة، ولم يتنازل عن مبادئ السيد المسيح وما زالوا إلى هذا اليوم يطلقون عليه الشهيد استفانوس.

مع الطبري في روايته

   جاء في تفسير الطبري طبعًا الراوي وهب بن منبه وكان من كبار علماء النصارى الذين أسلموا، حاله حال كعب الأحبار كبير أحبار اليهود، ولذلك فإن الرواية التي يرويها وهب بن منبه تعتبر رواية مهمة جدا إذا عرفنا موقع الرجل في الديانة المسيحية وتضلعه بأمور كتابه المقدس.

   نقل لنا الطبري قال : حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا يعقوب القمي, عن هارون بن عنترة, عن وهب بن منبه, قال: أتـى عيسى ومعه سبعة عشر من الـحواريـين فـي بـيت, وأحاطوا بهم, فلـما دخـلوا علـيهم قال عيسى لأصحابه: من يشتري نفسه منكم الـيوم بـالـجنة؟ فقال رجل منهم: أنا. فخرج إلـيهم فقال: أنا عيسى , فأخذوه فقتلوه وصلبوه. فمن ثمّ شُبّه لهم وظنوا أنهم قد قتلوا عيسى, وظنت النصارى مثل ذلك أنه عيسى, ورفع الله عيسى من يومه ذلك..

   طبعا الرواية طويلة ولكننا اختصرناها وكما قلنا فإن الراوي هو من علماء النصارى الذين أسلموا وهو وهب بن منبه يضاف إلى ذلك فإن وهب يقول بأن الله ألقى على جميع التلاميذ شَبَهَ عيسى . وهذا يعني أن جميع تلاميذه حاولوا فداءه بأنفسهم فادعوا بأنهم المسيح فضاعت على اليهود حقيقة عيسى، ولما تقدم يهوذا الشهيد وقال بأنه هو السيد المسيح اعتقلوه وقتلوه . هذا ما ذكره وهب في روايته. ومن هنا نرى عدم حضور يهوذا مع التلاميذ على الجبل لما ارتفع السيد المسيح، فكان اختفاؤه علامة على صدق هذا الاحتمال، أما القول بأنه خان سيده فهذا يكذبه الاختلاف المريع في كيفية خيانته وكيفية موته .

   تصرُّفُ السيد المسيح بعد إعدام شبيهه يدلنا على أن القضية مدبرة بين المسيح وتلاميذه حيث إن المسيح بعد أن رحل يهوذا جمع تلاميذه الأحد عشر وقال إنه لا ينبغي أن يكون أحد عشر حواريًا بل لابد أن يتم العدد اثنا عشر، ولذلك نرى سِفْرَ أعمالِ الرسل يذكر حادثة انتخاب حواري جديد بدلا من يهوذا الشهيد، فماذا يقول لنا سفر أعمال الرسل ؟

   يقول سفر أعمال الرسل (وقد انتخب الحواريون بدلاً من يهوذا تنفيذاً لهذا الأمر يوسف ومتياس، وأقرعوا بينهما، فوقعت القرعة على متياس، فحسبوه مكملاً للأحد عشر رسولاً). انظر أعمال 1/23 – 26 

   إذن من رواية وهب هذه، ورواية متى المذكورة آنفا ورواية سفر أعمال الرسل ورواية القرآن يتأكد لنا القول (بالشبهة) التي وقعت في مسألة قتل السيد المسيح، ويتأكد لنا بأن من جاؤوا لقتل السيد المسيح لم يكونوا يعرفونه على الرغم من عددهم الكبير وشخصياتهم الدينية والعشائرية والعسكرية، إلا أنهم شُبِّهَ لهم في أمره ولذلك استعانوا بدليل ليدلهم عليه.

   ولو سألنا النصارى عن أقوى دليل لديهم من الإنجيل عن أن السيد المسيح هو الذي صُلب ، لرأيناهم يقولون بأنه قد أنبأ بموته وأخبرعن ذلك . فتسألهم أين فيقولون في إنجيل متى حيث أخبر اليهود الفريسيين والكتبة بما ينوون أن يقوموا به ، وأنبأهم بذلك كما في النص : (حينئذ أجاب قوم من الكتبة والفريسيين قائلين يا معلم نريد أن نرى منك آية. فأجاب وقال لهم جيل شرير وفاسق يطلب آية ولا تعطى له آية إلا آية يونان النبي. لأنه كما كان يونان في بطن الحوت ثلاثة أيام وثلاث ليال هكذا يكون ابن الإنسان في قلب الأرض ثلاثة أيام وثلاث ليال) إنجيل متَّى /الإصحاح 12 :38

   طبعًا إن طلب الكتبة والفريسيين هنا طلب مشروع جدًا حيث إنهم يُريدون أن يتثبتوا من أن هذا الشخص هو مرسل من قبل الله تعالى وليس مدعيًا .إذن عليه أن يقدم لهم آية أو دليل يثبت ذلك . ولكننا نرى السيد المسيح يقابلهم بأقذع الأوصاف فيصفهم بأنهم : جيل شرير وفاسق .

   ولكن مع ذلك فإن السيد المسيح هنا يعطيهم هذه الآية وهي أنه قال لهم بأنه سوف يكون مثل يونان النبي (يونس) الذي مكث في بطن الحوت ثلاثًا ثم خرج حيًا ، فإنه سوف يكون مثله ثلاثة أيام وثلاث ليال !! في بطن الأرض ثم يخرج حيًا .

   ولكن مصيبة هذه الأناجيل أنها تناقض نفسها بشكل مريع ، حيث نرى نصًا في (مرقص) ينفي كون المسيح وعدهم بآية وأن المسيح قال بأن هذا الجيل لا يرى آية !! فانظر إلى النص واحكم أنت أيها القارئ :

   (فخرج الفريسيون وابتدؤوا يحاورونه طالبين منه آية من السماء لكي يجربوه. فتنهد بروحه وقال لماذا يطلب هذا الجيل آية. الحق أقول لكم لن يعطى هذا الجيل آية) . إنجيل مرقص/ الإصحاح 8 : 11.

   فأي النصين أولى بالتصديق أيها المسيحيون ؟ نصٌّ يصف السائلين بأنهم جيل شرير وفاسق.. ومع ذلك سوف يعطيهم النبي آية؟  ونص يرفع كلمة جيل شرير وفاسق وينفي أن يكون المسيح قد أوعدهم بآية وينفي على لسان السيد المسيح نفسه بأن هذا الجيل لا يرى آية .

   فأين قولكم بأن السيد المسيح أخبر الناسَ بموته وأنه مثل النبي يونس سوف يمكث في بطن الأرض ثلاثة أيام وثلاث ليال ويخرج؟  ومع ذلك لو سلمنا جدلا بصحة النص، فإن عيسى بقي في بطن الأرض يومًا وليلة ،  لأنه دفن ليلة السبت وقام يوم الأحد صباحًا.

خلاصة الكلام 

   أن السيد المسيح عليه وعلى أمه السلام لم يُصلَب لأنه جاء برسالة وقد أكملها على أتم وجه، ثم ذهب إلى ربه وهذا القول ليس من عندنا بل قول السيد المسيح نفسه كما في إنجيل يوحنا حيث يقول : (أنا مجدتك على الأرض، العمل الذي أعطيتني لأعمل قد أكملته والآن مجدني أيها الأب) إنجيل يوحنا الإصحاح 4:17-6

 

فماذا بعد الحق إلا الضلال .

 

***

هامش :

(1)   لم يتفق من كتب مذكرات المسيح في ما يُسمونه الأناجيل الأربعة على كيفية ظهور المسيح بعد صلبه ودفنه وقيامته . فقد اختلفوا في مسألة لمن ظهر السيد المسيح ؟ فقد اتفق مرقص ومتى على أن الظهور كان للتلاميذ في الجليل. ولكن لوقا ويوحنا جعلا أن الظهور كان في أورشليم. مرقص ويوحنا جعلوا الظهور لاثنين من عابري السبيل المسافرين إلى قرية عمواس التي تبعد عن أورشليم (60 غلوة)!والغلوة الواحدة طبقا للمسافات التي قدرها كوجلر ( Kugler) تساوي 124 كيلو مترا. اختلافات عملية الظهور راجع إنجيل متى الإصحاح 28 : 9 ، 17. و مرقص الإصحاح 16 : 9 ، 14 . و يوحنا 20 : 13 ولوقا 24 : 13 ، 43 . اقرأ واعجب هل اتفق هؤلاء على رأي واحد؟

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

*