علي الوردي وموقفه من المؤسسات الدينية

303

23-4-2014-1-d

الشيخ خالد البغدادي ..

علي الوردي حصل على الماجستير عام 1948م، من جامعة تكساس الأمريكية وحصل على الدكتوراه عام 1950م، من الجامعة نفسها ، وصفه في رئيس جامعة تكساس عند تقديم الشهادة له: (أيها الدكتور علي الوردي ستكون الأول في مستقبل علم الاجتماع)، كتب في طبيعة المجتمع العراقي بنحو خاص، وقرأ العديد من الظواهر، إلا أن قراءته العديد من التأملات تستوقف ذوي الاختصاص ، واليوم نريد أن نطالع ما كتبه الوردي عن علماء الشيعة وكيفية تعاطيهم مع المجتمع العراقي، والمظاهر الدينية التي كان يعيشها المجتمع المذكور.
في محطتنا اليوم من (متاهات المشككين) لنا وقفة مع الدكتور علي الوردي وتبيان موقفه من علماء الشيعة بالذات. وهل أن الأقوال الواردة في هذا الخصوص هي كلمات تحاكي الواقع أم إنها كانت متجنية عليه؟ هذا ما سيطلعنا عليه سماحة العلامة الشيخ خالد البغدادي في حلقته هذه من (متاهات):
من المعروف في علم المنطق أن الاستقراء الناقص بملاحظة بعض الجزئيات لا يمكن استشفاف حكم عام منه يطال بقية الجزئيات التي لم يتم الاطلاع عليها، فإن أقصى ما يوفره لنا الاستقراء المذكور هو الظن بالحكم لا الجزم به. ومن هنا لا يليق بمن يتابع الظواهر الاجتماعية أن يلاحظ بعض الجزئيات ليعمم منها سلوكا عاما يطال فئة مهمة في المجتمع، فضلًا عن التقصير الحاصل في قراءة الظاهرة نفسها وعدم الخوض في أسبابها ودواعيها، فإن كل ظاهرة في المجتمع توجد فيها ثلاثة أبعاد هي: الشخص والفكرة والمبدأ، والاقتصار على قراءة الظاهرة من خلال الشخص نفسه دون الترقي إلى مناقشة الفكرة أو المبدأ فيه الكثير من التعسف في قراءة الظاهرة، فضلًا عن الافتقار إلى الموضوعية وما ينبغي أن يلم به من يدعي الاختصاص في قراءته لظواهر المجتمع.
ولنا في هذه الأسطر القليلة وقفة مع الدكتور علي الوردي في قراءته لواقع علماء الشيعة في العراق وما لهم من دور وسلوكيات في التعاطي مع العامّة.
• ففي كتابه (دراسة في طبيعة المجتمع العراقي) يذكر علي الوردي هذه العبارة:
(لعلني لا أغالي إذا قلت إن فقهاء الشيعة هم من أكثر الناس دأباً في طلب العلوم الدينية واللغوية، وفي التنافس عليها، فهم لا يعتمدون على مرتبات مخصصة لهم يأخذونها من الحكومة، بل يعتمدون على ما يردهم من الناس من أموال والناس بطبيعتهم حريصون على أموالهم، فهم لا يعطونها إلا لمن يثقون بعلمه وتقواه من الفقهاء، ولهذا أصبح كل فقيه شيعي واثقاً بأن مصيره المعاشي والاجتماعي منوط بمبلغ تبحُّره في العلم وزهده في الدنيا)ص230.
إن محل التأمل في كلام الوردي هو عبارته الأخيرة ، فإنها تعطي للمتلقي صورة مشوهة عن الواقع العلمائي لفقهاء الشيعة، فهذه العبارة توحي بأن رجل الدين إنما هو أسير أموال الناس، يعيش على ما تجود به أيديهم من فتات الدنيا وحطامها، وهذا منحى وطرح خطير وأسلوب متعسف في بيان واقع العوائد المالية للمؤسسة الدينية وكيفية تمويلها الذي خطته لها يد السماء قبل أن يأتي الوردي ويختزله هنا ببيانه الذي وقف فيه عند الأشخاص دون الولوج إلى عمق الفكرة أو المبدأ الذي تقوم عليه العوائد المالية المذكورة.
فهل من سائل للوردي في عبارته المشوشة هذه ، عن الجهة التي أوجبت على الناس دفع هذه الأموال والتي يصطلح عليها شرعاً بـ: الحقوق الشرعية، إلى الفقيه الجامع للشرائط، ومن ثم هل إن أخذ الفقيه لهذه الأموال وصرفها يكون بشكل عشوائي أم إنه يخضع لضوابط شرعية يلزم توفرها عند الأخذ والعطاء؟! فهذا مطلب علمي كان ينبغي للوردي بيانه ولو بكلمات قليلة حتى تتضح للقارئ الذي يطالع كلماته، الصورة كاملة وليست مجتزأة أو مشوشة بالشكل الذي طرحه هنا، والذي ربما أراد من خلاله أن يمرر غاية في نفسه يناهض بها الدين وأهله، وهو غير بعيد لمن يطالع كلمات الوردي ويتابعها.
فالذي أوجل على الناس دفع الحقوق الشرعية (المالية) إلى الفقيه الجامع للشرائط إنما هو الشارع المقدس، والذي حدد صرف هذه الحقوق في مواردها المخصصة لها هو الشارع المقدس، والذي حدد المواصفات والشرائط اللازم توفرها في الفقه الآخذ لهذه الحقوق ـ من الاجتهاد والعدالة والإيمان ونحو ذلك ـ هو الشارع المقدس .. فإذا كانت كل الأمور هي بتوجيه من الشارع فما الذي كان يهدف إليه من عبارته القارصة هذه، والتي ألقاها على عواهنها من دون بيان علمي رصين للنظرية والتطبيق؟! أو إلى من كان يهدف الوردي من عبارته هذه؟!
• ولأن الحقيقة ناصعة لا يمكن للوردي أو غيره إخفاءها أو مصادرتها بالمرة، فتراه يضطر إلى الاعتراف بزهد علماء الشيعة وعزوفهم عن الدنيا، إلا أنه لم يفتأ أن يعود إلى طريقته المعروفة من خلط السم بالعسل، ليقول كلاماً هو أقرب إلى التصريح بأن هذا الزهد إنما كان لغايات هو الحصول على رضا الناس لغرض الاستيلاء على أموالهم فقط.. فانظر إلى قوله في المصدر ذاته (ص231): (الواقع إن الكثيرين منهم يعانون الشيء الكثير من الحرمان وشظف العيش. فالموارد التي تردهم لا تكفي لأن يعيشوا بها عيشة مرفهة، ولكنهم على الرغم من ذلك منكبون على دراستهم انكباباً يدعو إلى إعجاب، فكل واحد منهم يأمل أن ينال بعمله وزهده ورضا الناس. وتلك هي الغاية التي يسعى إليها طيلة حياته، فإذا وصل إليها بعد كفاح طويل صار مجتهداً كبيراً يشار إليه بالبنان).
فالغاية إذن عند علماء الشيعة في سعيهم وتحصيلهم العلمي، حسب بيان الوردي المتقدم، هو الحصول على رضا الناس، فهم يواصلون الليل بالنهار تحصيلًا وجهدًا وانقطاعا من أجل هذه الغاية لا غير، ولا هم لهم سوى أن يحصلوا على فتات الناس وحطامهم، لأن هذا الأمر هو من لوازم الرضا المذكور، مع أنه في احسن الاحوال ـ حسب اعتراف الوردي نفسه ـ ان ما يحصلون عليه لا يكاد يسد رمقهم فضلاً عن أن يمكنهم من العيش برفاهية.
وكما نلاحظ فإن الغاية لا تكافئ الوسيلة بأي حال من الأحوال بل هي تكشف عن جملة تناقضات لا يرضاها ادنى الناس علماً وفهمًا لنفسه فضلًا عمن يكون فقيها ومضطلعاً بعلوم الدين ومنقطعاً في تحصيلها ليلة ونهاره، فإذا كانت الغاية هي رضا الناس والحصول على فتات الدنيا فهذا الامر يمكن الحصول عليه بأقل القليل من الجهد الذي يبذله الفقيه في تحصيله العلوم، فما بال هذا الفقيه يعمل لما لا يناله، وينال ما لا يوازي عمله بأي حال من الأحوال وهل يمكن ان يكون الحمق لهؤلاء الناس ـ حاشاهم ـ قسمة متساوية لا يبغون عنها حولًا؟! إن هذه الكلمات ستقض على الوردي مضجعه يوم يلتقي بأناس كان قد ظلمهم ولم ينصفهم وتجنّى عليهم ولم يعطهم حقهم.
• وفي تخبط واضح في تبيان الحقيقة القرآنية والنبوية التي يسير عليها علماء الشيعة في مداراة العامة للوصول بهم إلى بر الأمان في ما يتعلق بشؤون دينهم ودنياهم ، ترى الوردي ينحى منحىً أقل ما يقال عنه أنه عيال على معارف الدين وأهله، وأنه كحاطب ليل لا يجيد سوى القيل والقال… فانظر إلى قوله. في المصدر ذاته(ص232): (إن العامة بوجه عام ميالون للخرافة في شؤونهم الدينية، وكثيراً ما يبتدعون طقوساً وعقائد جديدة، حسب مقتضيات ظروفهم وحاجاتهم النفسية والاجتماعية. والملاحظ أن فقهاء الشيعة يدركون ذلك في اكثر الاحيان ولكنهم لا يستطيعون أن يفعلوا شيئاً إزاءه. فهم يخافون من العامة خوفاً شديداً، ولا يحبون معارضتهم في شيء إلا قليلاً).
وهنا لابد لنا أن نعيد للوردي رشده ونذكره بأن مداراة العامة ـ بشكل عام ـ إنما هي سياسة قرآنية وسيرة نبوية وسلوك سار عليه الأئمة الهداة من آل محمد (ع).. فها هو القرآن الكريم، مدار للعامة الذين كانوا مولعين بشرب الخمر، فلم يقم بتحريم الخمرة دفعة واحدة، بل يمهد ذلك على مراحل ثلاث، فينزل في المرة الاولى ما يبين جانباً من جوانب الخمر بأن فيها إثما كبيراً، قال تعالى (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ) فلما نزلت هذه الآية تركها بعض الناس، وقالوا: لا حاجة لنا فيما فيه إثم كبير، ولم يتركها بعضهم، وقالوا نأخذ بمنفعتها، ونترك إثمها، فنزلت هذه الآية: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى)، فتركها بعض الناس وقالوا: لا حاجة لنا فيما يشغلنا عن الصلاة، وشربها بعضهم في غير أوقات الصلاة حتى نزلت: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)، فصارت حراماً عليهم، حتى صار يقول بعضهم: ما حرم الله شيئاً أشد من الخمر، إذا أكد تحريم الخمر والميسر بوجوه من التأكيد: منها: تصدير الجملة بإنما.
ومنها: أنه سبحانه وتعالى قرنهما بالأصنام، ومنها: انه جعلهما رجساً، ومنها: أنه جعلهما من عمل الشيطان، ومنها: أنه أمر باجتنابها، ومنها: أنه ذكر ما ينتج عنها من الوبال ثم ذيله بالتهديد والوعيد منه بقوله تعالى: (فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ)، فتحريم القرآن الكريم ـ كما شاهدناه ـ لم يأت دفعة واحدة، ولم يكن بأسلوب واحد، أو طريقة واحدة من البيان، وإنما كان على دفعات متعددة وبعدة بيانات، وليس ذاك إلا مداراة للعامة وترغيباً لهم في الوصول الى الهدف المنشود من امتثال التكليف والعمل به، وهذه السياسة القرآنية من المداراة تراه سبحانه حتى يندب أنبياءه للعمل بها مع اطغى طغاة الارض، فانظروا إلى قوله سبحانه تعالى لموسى وأخيه هارون(ع) حينما بعثهما إلى فرعون: (اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى)، وإلى هذا المعنى كانت تشير كلمات النبي الاعظم(ص) حين قال: (إنا معاشر الأنبياء أُمِرنا أن نكلم الناس على قدر عقولهم) ـ أمالي الصدوق: 341 ـ وفي هذا الصدد أيضاً يقول الإمام الصادق(ع): (مداراة الناس نصف الإيمان والرفق بهم نصف العيش) (الكافي 117 باب المداراة)، وكما جاء عنه(ع) قوله: (قال رسول الله(ص): أمرني ربي بمداراة الناس كما أمرني بأداء الفرائض) (المصدر نفسه). هذا، ومن راجع الباب المذكور ـ باب المداراة ـ في كتاب (الكافي) اطلع على جملة مهمة من الأحاديث الشريفة التي تبين طبيعة المداراة وأهدافها والغايات المستوحاة منها شرعاً، فعن الإمام الصادق(ع)، قال: (قال رسول الله(ص): ثلاث من لم يكن فيه لم يتم له عمل: ورع يحجزه عن المعاصي الله، وخلق يداري به الناس، وحلم يرد به جهل الجاهل) (المصدر نفسه)، فالمداراة التي يعمل بها العلماء هي ليس أمراً منفصلاً عن الورع والأخلاق الحميدة، وإنما هي حلم ينبغي أن يشتمل عليه العالم في التريث بالناس حتى تسنح له الفرصة التي تمكنه من تبليغ أحكام الله إليهم، وفي وقت تكون نفوسهم قد استعدت لقبول الأحكام والعمل بها، تماماً كما شهدناه في مراحل تحريم الخمر من قبل المولى سبحانه وتعالى.
هذا، فضلاً عن حالة التقية التي ينبغي على العالم العمل بها في مقام التزاحم بين الأهم والمهم، وهي ـ أي التقية ـ مفهوم قرآني نبوي ربما غاب عن الوردي فهمه وإدراك أبعاده وسبر معانيه. ومن يقرأ التاريخ يجد كيف أن الأئمة(ع) بل نفس الصحابة في زمن الخلفاء الثلاثة الأوائل كانت قد مرت بهم ادوار في حياتهم لم يقدروا معها أن يغيروا شيئاً مما تعارف عليه الناس وأشرأبوا محبته في قلوبهم، فانظر إلى قول أنس بن مالك فيما رواه الزهري عنه، قال: دخلت على أنس بن مالك بدمشق وهو يبكي، فقلت: وما يبكيك؟ قال: لا أعرف شيئاً مما أدركت إلا هذه الصلاة، وهذه الصلاة قد ضيعت (البداية والنهاية 9: 94)…
فهذا أنس بن مالك يشهد بما حصل من تغيير وتبديل في الكثير من معالم الدين حتى طال الأمر الصلاة وهي عمود الدين، ومع ذلك لم يستطع هو ولا جميع الصحابة العودة بالناس إلى ما كان الامر عليه أيام رسول الله(ص)… فإذا كان الأمر بهذا الشكل مع من هم مقربون من بلاط السلطان وفي دار الحكم ـ كأمثال أنس ـ ولم يستطيعوا أن يغيروا شيئأً مما غيره الناس واعتادوا عليه فما بالك بمن هم في حال من التضييق والتقتيل والتهديد والحبس والتهجير والمطاردة والتشريد كالأئمة(ع) وأتباعهم من العلماء الصالحين..
وفي بعض الأحيان قد يصل الشره بالعامة إلى عدم إطاعة إمام زمانهم وهو في سدة الحكم إذا طالبهم بتغيير ما اعتادوا عليه من عبادات باطلة أو سنن موضوعة ارتضاها البعض لهم، فها هو أمير المؤمنين(ع) عندما آلت الامور إليه طالب الناس بالكف عن أداء نافلة رمضان جماعة في المساجد والعودة بما كانت عليه أيام رسول الله(ص) من الصلاة بها فرادى، لأن صلاتها جماعة بدعة كما اعترف بها مبتدعها الذي قال: (نعمت البدعة هذه) ( البخاري 3: 58)، ولكن الناس لم يصغوا لقوله بل تصايحوا باسم مبتدعها حتى كادت أن تقع الفتنة فتركهم(ع) على ما كانوا عليه … فقد روى الشيخ الطوسي في (التهذيب) (3: 7 حديث 27) بسنده إلى الامام الصادق(ع): أن أمير المؤمنين(ع) لما قدم الكوفة أمر الحسن بن علي أن ينادي في الناس (لا صلاة في شهر رمضان في المساجد جماعة) فنادى في الناس الحسن بن علي بما امره به أمير المؤمنين(ع)، فلما سمع الناس مقالة الحسن بن علي صاحوا: وا عمراه! وا عمراه! فلما رجع الحسن إلى أمير المؤمنين(ع) قال له: ما هذا الصوت؟ فقال: يا أمير المؤمنين: الناس يصيحون: واعمراه! واعمراه! فقال أمير المؤمنين(ع): قل لهم صلوا. (انتهى).
ولكن هذا لا يعني أن الأئمة(ع) والعلماء كانوا يسايرون العامة إلى نهاية الخط، بل هناك حدود لا يمكن تعديها في هذا الجانب، وذلك فيما إذا كان يدهم الإسلام أو المسلمين أمر يخاف معه على بيضة الاسلام ويخشى بواره، فتراهم(ع) أول المتصدين لذلك بل المضحين بكل غال ونفيس في سبيل رفع كلمة الإسلام والحفاظ على شريعة سيد المرسلين(ص)، وهذا المعنى قد تجلّى بوضوح في ثورة سيد الشهداء الحسين(ع) حينما كادت معالم الدين أن تندرس وهيبته أن تذهب بعد أن جلس على سدّة الحكم من يحتسي الخمر جهاراً نهاراً ويهارش القرود ويرتكب المنكرات ولا يتورع عن محرم في كتاب الله، فكانت تلك الثورة العظيمة التي صححت المسار للأمة وأعادت للإسلام روحه المحمدية الأصيلة، وهو الأمر الذي استشرفه النبي الأعظم(ص) من سبحات الغيب حين أخبر عن هذه الثورة العظيمة وأن بقاء رسالته العظيمة منوط بها كما هو المستشف من قوله(ص): (حسين مني وأنا من حسين)، وهكذا أيضًا كان الحال عند باقي الأئمة الباقين من ذرية الحسين(ع) وكذلك هو شأن العلماء التابعين لهم، في التصدي والتضحية من أجل نصرة الدين إذا ادلهمت به الخطوب وتصارعت النوائب..
• وفي موضوع آخر من كتابه ـ السالف الذكر ـ نجد الوردي لا يروق له أن يمدح أحد علماء الشيعة أو يذكرهم بخير، الامر الذي يؤشر لروح المنازعة والمماكسة التي كان ينطوي عليها هذا الرجل مع العلماء أو ربما حتى مع الدين، فانظر إلى قوله في المصدر ذاته (231): (زار أحد الصحفيين المصريين بعض المجتهدين الكبار في النجف، فكتب في صحيفة مبدياً إعجابه بحياة الزهد والبساطة التي يحييها أولئك المجتهدون، مع العلم أن لهم نفوذاً كبيراً على عشرات الملايين من الناس، وتجبى لهم الأموال من كل مكان، لم يدر هذا الصحفي أنهم حصلوا على ذلك النفوذ الواسع بزهدهم، ولو كانوا مترفين لفقدوا نفوذهم).. انتهى.
فيا لحظ العلماء مع هذا الوردي فحين يأتي الآخرون ويقولون إن علماء الشيعة زاهدون، ويبدون إعجابهم الفطري بذلك، يأتي الوردي ليقول إنهم زاهدون ليرضوا الناس وليستولوا على أموالهم، فتراه دائماً يفرغ القيم والصفات العالية عند العلماء من محتواها ليهوي بها إلى قاع التسافل ليرضي حاجة في نفسه.
• وفي خطأ منهجي تابع فيه المستشرقين، يظهر الوردي لقارئه أن فقهاء الشيعة هم ورثة المعتزلة في العلوم الفلسفية والكلامية، وأن هذه الدقة التي يتمتعون بها من عمق التفكير إنما هي من بركات متابعتهم للمعتزلة في نزعتهم الفلسفية، فانظر إلى قوله في المصدر ذاته (ص231): (مما يجدر ذكره أن فقهاء الشيعة هم ورثة المعتزلة في نزعة التفلسف وحرية التفكير، ولهذا وصلوا في تطوير فقههم إلى درجة كبيرة من الدقة والتشعيب). (انتهى).
ولا ندري هنا ماذا نقول أمام هذا الجهل بحقائق التاريخ ممن ينتمي لنفس حضارة المتحدث عنهم ويعيش بين أتباعهم ومحافلهم الثقافية ولا يتجشم عناء البحث عن الحقائق التي يتحدث عنها.. ولما نذهب بعيداً في هذه القراءة فلنأتي للوردي بكلمات أهل الاعتزال أنفسهم ليبينوا له بأن هذه العلوم التي أبدع فيها المعتزلة إنما كان مشكاتها هو أمير المؤمنين(ع).
وانتماء الشيعة له وأخذهم عنه إنما كان قبل الاعتزال بعشرات السنين.
يقول: ابن أبي الجديد المعتزلي في كتابه المعروف بـ (شرح نهج البلاغة) عن أمير المؤمنين(ع): (.. ما أقول في رجل تُعزى إليه كل فضيلة، وتنتهي إليه كل فرقة، وتتجاذبه كل طائفة، فهو رئيس الفضائل وينبوعها، وأبو عذرها، وسابق مضمارها، ومجلي حلبتها، كل من بزغ فيها بعده فمنه أخذ، وله اقتفى، وعلى مثاله احتذى، وقد عرفت أن أشرف العلوم هو العلم الإلهي، لأن شرف العلم بشرف المعلوم، ومعلومه أشرف الموجودات، فكان هو أشرف المعلوم… فإن المعتزلة ـ الذين هم أهل التوحيد والعدل و أرباب النظر، ومنهم تعلم الناس هذا الفن ـ تلامذته وأصحابه، لأن كبيرهم واصل بن عطاء تلميذ أبيه وأبوه تلميذه(ع) ، وأما الأشعرية فإنهم ينتمون إلى أبي الحسن الاشعري علي بن إسماعيل بن أبي بشر الاشعري، وهو تلميذ أبي علي الجبائي، وأبو علي أحد مشايخ المعتزلة، فالأشعرية ينتهون بالآخرة إلى أستاذ المعتزلة ومعلمهم وهو علي بن أبي طالب(ع)، وأما الإمامية والزيدية فانتماؤهم إليه ظاهر). انتهى.
فشهادة ابن أبي الحديد المعتزلي تكفينا في رد دعوى الوردي هذه، ولولا ضيق المقام لأسهبنا في رد الدعوى المذكورة وبيان عدم صحتها بالأدلة والوثائق التاريخية.
• ومن ثم في تصرف ملفت للنظر يصوب الوردي سهامه هذه المرة نحو الشعائر الحسينية، الركن المهم من اللحمة الشيعية، والتي تشكل عنصراً مهما من عناصر ديمومة المذهب الشيعي وحيويته، فانظر إلى قوله ـ في المصدر ذاته (ص237) ـ : (إن كل وجيه أو غني من الشيعة يميل إلى إقامة مجلس يقرأ فيه مقتل الحسين(ع) لمدة عشرة أيام، خصوصاً في شهر المحرم وشهر صفر من كل عام. ومن يشهد هذه المجالس ويستمع إلى القصائد الحزينة التي يلقيها الخطباء فيها، وإلى وصفهم مقتل الحسين وأولاده وأخوته وأقربائه(ع)، يحس بالميل إلى البكاء. وقد تفنن خطباء الشيعة في ذلك تفننا عجيباً بحيث استطاعوا أن يحدثوا في كل مجلس يخطبون فيه عويلاً شديداً. وكثيراً ما ينشدون الأشعار العامية بصوت حزين ومنغم فيحدثون أثراً بالغاً في النفوس).
ولا يسعني هنا إلا أن أقول بكلمة موجزة: إنه لم ترد في التراث لأهل البيت(ع) وأحاديث و أقوال من الحث على شيء كما وردت في إقامة الشعائر وقضية الحسين(ع)، فها هو الإمام الصادق(ع) يطلب من أبي هارون المكفوف أن ينشده في الحسين(ع). يقول: (أبو هارون): فأنشدته، فقال لي: أنشدني كما تنشدون (يعني بالرقة: أي بالطريقة التي تستعملونها عند الإنشاد التي فيها الرقة والتلاوة، والتي توجب التأثير في القلب، لا مجرد التلاوة). قال: فأنشدته:
أمرر على جدث الحسين وقل لأعظمه الزكية
قال: فبكى، ثم قال: زدني، فأنشدته القصيدة الأخرى.
قال: فبكى، وسمعت البكاء من خلف الستر، فلما فرغت قال: يا أبا هارون من أنشد في الحسين فبكى وأبكى كتبت له الجنة ـ إلى أن قال (ع) ـ ومن ذكر الحسين عنده فخرج من عينيه مقدار جناح ذبابة كان ثوابه على الله (عز وجل)، ولم يرضَ له بدون الجنة. (ثواب الاعمال للصدوق،84). فلا ندري بعد هذا ـ يا وردي ـ مَن مِن علماء الشيعة أفتى بحرمة الإنشاد على الحسين(ع)، وترقيق القلوب في الحزن عليه؟! ولعل الوردي كان يقصد بعض الشعارات التي كانت محلًّا للكلام عند بعض الفقهاء كالتطبير ونحوه، مع أن هذا المعنى ليس ظاهراً من كلامه، ومع ذلك نقول: إن هذا البعض قد ذكر ما ذكر بالعنوان الثانوي وليس بالعنوان الأولي، وهذا المعنى يفهمه من يعرف لغة الفقه واصطلاحاته، ولا أظن الوردي وأمثاله هناك.

مجلة يقظة / عدد 5/ التدقيق : “الحكمة”

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

*