السُنَن الإلهية في القرآن الكريم

247

الحاج فلاح العلي

(مدير مؤسسة الحكمة للثقافة الإسلامية)

أجمع العقلاء في كل العصور على وجود نظام دقيق  يُسيِّر عالم الموجودات ، من ورائه حكمة بالغة، وعقل مدبر وعلم محيط، وقوة قاهرة جبارة ولطف خفي . إنها قدرة الخالق العظيم والرب الرحيم سبحانه وتعالى ، فقد رسم “خريطة طريق” لكل موجودات الكون، ابتداءً من نواة الخلية أو أصغر وانتهاءً بالمجرة أو أكبر، ولولا هذا النظام وهذه السُنَن لما صار عالم الإمكان ، ولما صار الوجود.

   فقد خلق الله الأشياء في الوجود ومنحها صفاتها، سانًّا لكل شيء منهجًا وطريقة لديمومة بقائه، فجعل بعض الموجودات صلبة كالصخر والمعادن، وجعل بعضها مائعًا كالماء والسوائل، وغازًا كالهواء، وجعل بعضها ليِّنًا، وجعل بعضها يابسًا، وجعل النهار منوّرًا، وجعل الليل مظلمًا، وجعل العين مبصرة، والأذن سامعة، وجعل النار محرقة، وجعل الحياة في الماء، وقدّرَ الموت على الأحياء….

   خلق الله الكون وما حوى ، من فيض لطفه ورحمته، وفق نظامٍ متناهٍ في الدقة ، مما حدا بالعلماء أن يبنوا نظرياتهم وقوانينهم ويصدروا نشراتهم العلمية، استنادًا إلى تلك الدقة المذهلة في النظام الكوني، وعرفوا من خلال ذلك الوقت الذي تقطعه الأرض بدورانها حول الشمس، أو دوران القمر حول الأرض، وعرفوا أيضًا ساعات اليوم والشهر والسُنَّة ، وبداية كل شهر شمسيًّا كان أم قمريًّا ، فعرفوا خسوف القمر أو كسوف الشمس لمئات، بل لآلاف السنين القادمة ، وحددوا مسارات الكواكب والأجرام السماوية والأبعاد والمسافات بين تلك الكواكب . وقد نوه القرآن الكريم في كثير من آياته إلى النظم التي تُسيِّر هذا الكون . قال تعالى: (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ * لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا الليْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) {يس:40} ، فبهذه القوانين التي أودعها الله في الكون ـ مثل قانون الجاذبية ــ تتم حركة هذا الكون ، ويسير وفق نظام قد رسمه له الخالق سبحانه ، أي إنه يسير بموجب سُنَّة سنها الله له ، فلا يحيد عن هذه السُنَّة طرفة عين أبدًا ، وإلا لتبعثرت الكواكب والنجوم ثم اصطدمت ببعضها وتفجرت في الفضاء وانتهى كل شيء.

   وكذلك جميع القوانين التي تنظم عالم الموجودات ، هي سُنَن إلهية ، كنظام الحياة ، ونظام الزوجية ونظام الأمومة ، ونظام الأمم والشعوب ، ونظام اللغات ، ونظام الموت ، ونظم أخرى رئيسية وفرعية كثيرة جدًّا ،  فهي سُنَن إلهية لا يمكن تخطيها أو تجاوزها.

   وكمثال على هذه السُنَن ، والتي هي من الآيات والأسرار العظيمة التي أودعها الله في مخلوقاته هي (الغرائز) ، ولعل أهمها ( الغريزة الجنسية) ، أو الاحتياج الجنسي ، وبالتالي  (نظام الزوجية العظيم) ، وخلق الذكر والأنثى من كل نوع في الوجود ، واحتياج كل من الذكر والأنثى للآخر ، وسر انجذاب أحدهما للآخر، الذي يجعلك تشعر وكأن المخلوق الأول  قد شطر نصفين (ذكر وأنثى)، أو سالب وموجب ليستديم هذا الانجذاب وهذا الاحتياج ليكمل أحدهما الآخر حين اللقاء ، ثم لينجبا مخلوقًا جديدًا من ذات النوع يحمل إحدى صفات الأبوين من ناحية الذكورة أو الأنوثة ، فلا يولد مخلوق جديد إلا بانجذاب الأبوين الذكر والأنثى والتقائهما،  وهكذا لتستمر الحياة ، وخير من يؤيد هذه الفكرة ما روي عن أبي جعفر الباقر عليه السلام : (أن الله خلق حواء من فضل الطينة التي خلق منها آدم) (بحار الأنوار – العلامة ألمجلسي – ج 11 – ص 99). أي من ذات الطينة التي خلق منها آدم ، وهذا مثل وأنموذج لخلق الذكر والأنثى ، وكذا جميع الأنواع فإنَّ ذكرها وأنثاها خُلقا من مادة واحدة ، ليكمل أحدهما الآخر وليتم التناسل .إنها سُنَّة الله في ديمومة الحياة.

   لقد بين القرآن الكريم هذه السُنَّة الإلهية ــ الخلق عن طريق الذكر والأنثى ــ ليس لخلق الإنسان فحسب (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى…) {الحجرات:13} ، وإنما لخلق الحيوان والنبات أيضًا ، قال تعالى : (جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا ) {الشورى:11} بل تعدّى ذلك في الإشارة إلى سُنَّة الله في الخلق من الزوجين، حتى لبعض المخلوقات التي لم تدركها عقولنا ولم تعرفها علومنا ، فضلًا عن الإنسان والحيوان والنبات، قال تعالى :

 (سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ) {يس:36}

   وقد زاد على ذلك ليبين لنا سُنَّة الزوجية في الخلق كافة بقوله تعالى :

 (وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) {الذاريات:49}

   وهذه دلالة واضحة على أن جميع المخلوقات حتى الجمادات منها خاضعة لهذه السُنَّة الإلهية ، وهي الخلق أزواجًا أزواجًا ، وما نظام الأقطاب الموجبة والسالبة وانجذاب المختلف، وتنافر المتشابه ، والذي نتج عنه( نظام الجاذبية )، وبه تحددت مسارات الكواكب في أفلاكها ، واعتدلت في مداراتها وفق ميزان دقيق، و الذي لولاه لما استمر الكون في حركته ثم وجوده ، إلا صورة من سُنَّة الزوجية في هذا الكون، وهذا من أَظهَرِ النعم التي أفاضها الله تعالى على الوجود ، ومن أوضح السُنَن الإلهية في الكون.

   نصل بذلك إلى أن كل سُنَّة من سُنَن الله تعالى في الكون لها آثارها وعواقبها، فحركة الأرض والشمس آثارها الليل والنهار والفصول الأربعة، وسُنَّة نزول المطر نتيجته وعاقبته خروج الزرع ، وسُنَّة التقاء الذكر والأنثى آثاره التناسل والتكاثر.

   فإذن، نفهم من ذلك أن هذه السُنَن والقوانين هي مقدمات لنتائج ، وهذه النتائج  قد تكون سُنَن ومقدمات لنتائج أخرى، وهكذا تستمر المقدمات والنتائج سُنَن مرتبطة بسُنَن أخرى .

   هناك سُنَن مرتبطة ببعضها ارتباطًا ماديًّا فقط، فمثلا الكائنات الحية خلقت وفق سُنَّة ونظام، وبما أنها حيًّة فتحتاج إلى سُنَّة ديمومة الحياة، والحياة تحتاج فيما تحتاج إلى الماء ، وسُنَّة شرب الماء يؤدي إلى الارتواء، وديمومة الحياة ومخالفة هذه السُنَّة، أي عدم شرب الماء يؤدي إلى العطش ثم الهلاك، وبذلك تتوقف الحياة . وبعبارة أخرى أن لا حياة بلا الماء ، وقد بين الله سبحانه هذه السُنَّة بقوله: ( وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ ) {30:الأنبياء}.

   نلاحظ أن تسلسل هذه السُنَن ماديًّا فقط ، أي ارتباط بين الحياة والماء ، وهناك سُنَن مادية مرتبطة بنتائج وسُنَن مادية أو معنوية أو هما معًا ، مثل حركة الكواكب ودقة نظامها ودوران الأرض حول محورها وحول الشمس وما ينتج من الليل والنهار والشهور والفصول الأربعة والخسوف والكسوف ، وهذه يترتب عليها السُنَن والفروض الإلهية على الإنسان، كالصلاة والصيام والحج والخمس والزكاة وغيرها، والتي بدورها تعتبر سُنَنا لها آثارها ونتائجها.  وهكذا جميع السُنَن الإلهية .  (فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلًا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلًا){فاطر:43}.

 

السُنَن التشريعية :

   هذا من ناحية السُنَن الإلهية في الماديات المحسوسة ، وقد قدمنا ذلك لنتوصل من خلالها إلى السُنَن التشريعية التي تنظم حياة الفرد والمجتمع ، باعتبارها الأمر الذي جاءت من أجله الرسالات والرسل، بل هي غاية الخلق والوجود ، ولنعرف من خلالها مكامن الخطر التي تحيق بالإنسان كي نتجنبها ، وسبل الخير والسعادة كي ننتهجها ونفعلها .

   نستطيع أن نقسم السُنَن التشريعية بحسب آثارها ، كما يلي :

أولاً :

السُنَن ذات الآثار الدنيوية التي وردت في القرآن الكريم:

ومنها على سبيل المثال :

– إِن تَنصُرُوا اللهَ …=…. يَنصُرْكُمْ .. وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ .

– وَمَن جَاهَدَ ….=…فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِه ِ.

– وَمَنْ نُعَمِّرْهُ….=…. نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ .

– وَمَن يَتَّقِ اللهَ….=…. يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا.

– وَمَن يَتَّقِ اللهَ….=…. يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا.. وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ .

_ فَأَمَّا الزَّبَدُ…=… فَيَذْهَبُ جُفَاءً … وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ…=… فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ .

– وَمَن يَبْخَلْ….=…. فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ .

ثانياً :

السُنَن ذات الآثار الأخروية التي وردت في القرآن الكريم:

 ومنها على سبيل المثال :

– إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا…=…إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا.. وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا.

– إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ….=… نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ…وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيمًا .

– وَمَن كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى….=…. فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى …وَأَضَلُّ سَبِيلاً 

– وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ….=….فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا.

_ وَمَن يَتَّقِ اللهَ ….=….يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ..وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا

– وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ ….=….يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا

 – مَن جَاء بِالْحَسُنَّة…=… فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا.

ثالثاً:

السُنَن ذات الآثار المشتركة (دنيوية وأخروية) التي وردت في القرآن الكريم، ومنها على سبيل المثال :

– وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي..=..فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا..وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى .

– ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا….=…. السُّوأَى .

– وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ….=…. نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ .

– وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُ….=…. فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ .

– وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ ….=….إِلَّا بِأَهْلِهِ .

– إِنْ أَحْسَنتُمْ …=….أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ . وَإِنْ أَسَأْتُمْ….=…. فَلَهَا .

– مَنْ عَمِلَ صَالِحًا…=… فَلِنَفْسِهِ..وَمَنْ أَسَاء…=… فَعَلَيْهَا .

   هذه بعض الأمثلة عما ورد من السُنَن في القران الكريم ،وكلام الله واضح لا يحتاج إلى إيضاح . ويتبين ذلك جليًّا من القصص والحكايات التي حكاها القرآن الكريم عن الأمم السالفة ،

   فالقرآن ليس كتاب حكايات وقصص وإنما كتاب هداية ،  ومقتضى الهداية يتطلب ذكر مصائر الأمم والشعوب السابقة التي التزمت بنهج الله وقوانينه وتلك التي تمردت على الله ومناهجه ورسله (تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَآئِهَا ) {101: الأعراف} ، ثم يوضح سبحانه في موضع آخر غاية سرد هذه القصص بقوله: (يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَن الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ){26: النساء} وكذلك قوله: (قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَن فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِينَ) {137: آل عمران}.

   ختامًا نقول : إن القرآن الكريم يزخر بالآيات المباركات التي توضح وبشكل لا يقبل التأويل أن الذي يسير وفق السُنَن المرسومة له ينجو ويفوز، وبالعكس تمامًا من يخالف هذه السُنَن يهلك ويخسر، فلا يلومنَّ إلا نفسه  ، (أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وِأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) {70:التوبة} .

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

*