يظن النظِر العجلان أن النجف القديمة احترزت أركولوجيتها(*) احترازا عشوائيًّا ! لكن الدراسات الأكاديمية التي تناولت النجف طوبوغرافيًّا(*) أو أركولوجيًّا أو سوسيولوجيًّا(*) وسوى ذلك، أثبتت أن النجف القديمة (داخل السور) احترزت هيكلها وفق تخطيط واقعي منسجم ! يراعي أمن العائلة حين يكون الخطر آتيًا من الأجانب خارج السور، كالغزو وغيره، أو آتيًا من الأهالي داخل السور أو المحلة، ويراعي الاستقرار والراحة والتعاطي التجاري والسلعي كما يراعي المناخ بخاصة فصلي الصيف والشتاء، ومعظم الصور الملتقطة للنجف القديمة من الجو تظهر أن المباني والشوارع والأزقة والفضوات والأسواق، تمحورت حول ضريح الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلا) ! وليست النجف بدعًا في هيكلتها !. مدينة “سولت ليك سيتي” (عاصمة ولاية يوتا الأمريكية) تمحورت حول الــ”تمبل” (Temple) والناظر إليها من الجو يرى قطبية المعبد ، وهو مربع صغير وحوله مربعات تكبر شيئًا فشيئًا ! وهذه نظرية قديمة حديثة، فالمدن الحديثة تختار مركزيتها من أقدم مشهد وأهمّه، وتسميه الـ”داون تاون” ((Downtown! أو( (City center.
وقد نشأت مساكن النجفيين بادىء الأمر شمال الصحن الحيدري (سنة 787م) بهيئة طرف أطلق عليه المشراق، والمشراق أو المشراقة عند أهل النجف هو المكان الظليل الذي يمنع أشعة الشمس الحارقة ! ويلفظونها الـ”مشراكَـ”، ثم امتد البناء مع تكاثر السكان غرب الصحن وجنوبه، فكانت محلات سكنية جديدة مثل طرف الرباط (سمي بعد ها طرف العمارة)، وطرف الجية (سمي بعدها طرف الحويش)، وطرف الزنجبيل (سمي بعدها طرف البراق)، وكان النجفيون أو سكان النجف مكتفين بسور يحمي المدينة يحيط به من الخارج خندق تشعل فيه النار عند خطر الغزو، لأن النجف مرتفعة عن سطح البحر 500 مترًا ولا يمكن أن يبقى الماء في الخندق دون أن يغيض في الأرض، فضلًا عن شحة الماء في النجف ! ثم تنبه النجفيون إلى نقاط الضعف في السور الأول بحيث يمكن استغلالها حين يستحر القتال ! فبنوا سورًا ثانيًّا أعلى وأعرض وأصلد وأملس، ولم يعثر المؤرخون على تأريخ سنة بناء السور الأول ولا الثاني، فقد أهمل مؤرخو النجف المعاصرون لذلك الزمن تدوين ذلك ! وهكذا أخذت المدينة تتسع مساحة ويكثر سكانها بعد أن استطاع العقل النجفي تأمين تلبية حاجات المدينة من ماء وطعام وخضرة وفاكهة وكساء وإكسسوارات وأوانٍ فخارية أو نحاسيَّة ! وظهر تجار وموسرون، فاضطر زعماء النجف إلى بناء السور الثالث، وكان ذلك سنة 982م، وكان السور الثالث متينًا بحق، مستوفيًا اشتراطات أسوار قلاع القرون الغابرة ! ولم تعد هناك حاجة لتعزيز أمن النجف بسور رابع، فقد كان يكفيه الترميم والتحديث !
لكن تكاثر السكان وانتقال بعض البغادنة والسامرائيين والدليميين ممن يرغبون بمساكنة ضريح الإمام علي(عليه السلام) والتبرك بجيرته فضلًا عن تفاقم الغلو الطائفي في بغداد وبعض المدن البعيدة ! وما إن جاءت سنة 1010م اضطر الناس إلى دفع السور نحو الخارج من خلال إحاطته بسور رابع، فيكون طابوق الأسوار القديمة خامات لبناء البيوت الجديدة ولبث ضريح الإمام عليٍّ(عليه السلام) قطبًا تحيط به دوائر متعددة تضيق حين تقترب من الضريح وتتسع حين تبتعد عن الضريح !
وبات توسيع المدينة من خلال الاستحواذ على أراض جديدة يحيطها السور الجديد ! وكان محيط أوسع الدوائر 1721مترًا ! وهذا المحيط يعطي فكرة لعلماء الإحصاء لتقدير عدد سكان النجف ! واضطر النجفيون إلى كسر هيمنة الأطراف الأربعة التي تحيط بالنجف إحاطة السوار بالمعصم، فاستحدثوا محلات خارج المحلات لكنها متصلة بها بالتجاور العمراني والسكاني، فأشار المؤرخون إلى اجتراح محلات جدد مثل محلة البركة ومحلة النور في البراق، ومثل العلا والجلال في المشراق، وتوسعت محلات الجية والرباط توسعًا ملحوظًا ساعد عليه استغلال المكان من خلال بناء البيوت طوابق فوق بعض، وحفر السراديب ، واستغلال الأزقة للبناء فوقها والحفر تحتها ! وكان سكان البيوت المتصاقبة من أمام وخلف وجنب يتفقون على اقتسام ما فوق الزقاق أو تحته، وحين يختلفون يختارون فريضة يقرر لهم المساحات والحقوق فلا يعترض عليه معترض.
وقد لاحظ الرحالة ابن بطوطة الذي دخل النجف سنة 1326م أن النجفيين يبتكرون استغلال المساحات ، حتى إن بعض التكيات والجوامع تشتق من الصحن الشريف مثلًا ! أما الرحالة نيبور الذي دخل النجف سنة 1765م فقد أكد هذه الحيثيات حيث جاب المدينة محلة محلة، وزقاقًا زقاقًا، وتمكن من رسم خرائط ثمينة الأهمية.
لم تكن النجف قد خضعت عند نشوئها لخطط حكومية معينة لبناء المدينة منذ الوهلة الأولى، ولا حتى في مراحل توسعها حتى ثلاثينيات القرن العشرين كما هو الحال في مدينة الكوفة ، أو واسط ، أو بغداد ومع ذلك جاءت خطط النجف منتظمة الدروب أو الرحب والأسواق، محتشدة البيوت والمحال، فقد توسعت النجف بشكل تدريجي من دون أي ضابط، سوى أن تكون العمارة إلى أقرب ما يسمح به الموضع من ضريح الإمام علي (عليه السلام) . وهذا يفسر لنا بشكل واضح أسباب الازدحام الشديد في العمارة والسكن، يرافقه صغر مساحة الوحدات المنشأة كلَّما اتجهنا نحو الضريح المقدس.
(*)أَرْكيُولُوجيا : علم الآثار والفنون القديمة
(*)طُبُوغرافيا : ( البيئة والجيولوجيا ) طوبوغرافيا ، دراسة أو بيان الملامح العامة لسطح الأرض ، طبيعيَّة كانت أو صناعية ، ووصفها وتمثيلها على خرائط ” درس طبوغرافيا المكان ” .
(*)سوسيولوجيا : علم يدرس المجتمعات الإنسانية والمجموعات البشرية وظواهرها الاجتماعية