التلوث الإشعاعي في العراق وضرورة معالجته

920

14-7-2014-4-d

انتشر التلوث الإشعاعي في العراق بعد حربي الخليج الأولى (1980- 1988) والثانية (1991) وتفاقم عوامل عديدة نتجت عن سقوط آلاف الأطنان من القنابل التي يحتوي بعضها على اليورانيوم المستنفذ.
يعتبر التلوث الإشعاعي أحد صور التلوث ذات التأثير العالمي. وهو يشمل ليس التربة فقط، وإنما الماء والهواء أيضًا، لذا فإن خطر تلوث البيئة بأنواعها الثلاث وارد نتيجة لتزايد استعمال الإنسان للمواد المشعة الطبيعية أو الصناعية. وهذه الأخيرة هي الأخطر بكثير لارتفاع نسبة الإشعاع فيها. ويحصل تعرض الإنسان للمواد المشعة صناعياً كنتيجة لتساقط الغبار الذري من القنابل النووية أو الانبعاثات في الاستعمال الصناعي والعسكري للطاقة النووية وغيرها من المواد المشعة مثل اليورانيوم.
وقد أدى التلوث الذي سببه القصف بالصواريخ والقذائف خلال حرب الخليج الثانية عام 1991 نتيجة  لاستخدام قوات الحلفاء للقنابل المضادة للدروع والمغلفة بطبقة من اليورانيوم المستنفذ وكذلك نتيجة لحرق الدبابات والمركبات التي تغلف جدرانها الخارجية باليورانيوم المستنفذ، الذي حل محل التيتانيوم المستعمل سابقأ في تغليف القنابل والدبابات والمصفحات لحمايتها والذي أدى إلى درجات من التلوث عالية جدأ تتطلب الاهتمام الكبير والسرعة في البدء بمكافحة هذا النوع من التلوث الذي ينطوي على أخطار إشعاعية وكيميائية بالغة الخطورة. وكانت البنى التحتية للدولة العراقية الهدف الرئيسي من العمليات العسكرية للحلفاء، مما أدى ذلك القصف إلى انهيار كافة المنشآت التحتية من منظومة تصفية المياه ومعالجة المياه الثقيلة وتصريفها وأصبح ضخها مباشرة في نهر دجلة والمياه الجوفية وعجز البلديات عن القيام بواجباتها في انتشال الفضلات الصلبة من مراكز المدن لأجل معالجتها وتصريفها.
اليورانيوم المستنفذ واستخداماته
اليورانيوم المستنفذ هو مادة اليورانيوم المتبقية بعد استنفاذ نظائره المشعة والمنشطرة في المفاعلات النووية، أو من نواتج معاملات التخصيب حيث يعامل اليورانيوم بنظائر منشطرة. وتسميته مستنفذ) مجازية التعبير عن استنفاذه للعناصر المنشطرة ذات النشاط الإشعاعي، لكن الحقيقة هي أنه يبقى محتفظًا بنشاط إشعاعي وخواص اليورانيوم الطبيعي الكيميائية، فيما عدا انخفاض في نسب تواجد النظيرين 234 و 235. وتقل نسبة الإشعاع فيه إلى النصف تقريبأ( (0.681 ميلليكيوري في اليورانيوم و 0.389 في اليورانيوم المستنفذ، وهو يتوفر بأسعار منافسة للمواد عالية الكثافة كالتنغستون والتيتانيوم، مما أوجد له تطبيقات تجارية وعسكرية كثيرة. إن مادة اليورانيوم المستنفذ تستعمل في صناعة القذائف المضادة للدروع وكذلك في صناعة صفائح الدبابات والمدرعات لمقاومته القذائف المضادة للدروع ويستعمل أيضاً لحفظ توازن السفن والطائرات بسبب ثقله لأنه أثقل من معظم المعادن، فكثافته تبلغ حوالي ضعف كثافة الحديد. تبلغ طاقة (أشعة ألفا) في الشظايا المتطايرة من الأسلحة كالدبابات وغيرها نحو 4.2 مليون الكتروفولت، وهي أشعة قوية كفيلة بإحداث تأينات وتدمير مسامي في جلد الإنسان الذي يمسك بها أو يلمسها. وتبعث هذه الشظايا أشعة بجرعة مكافئة مقدارها 300 ملليريم في الساعة.
وقد أظهرت الاستطلاعات الميدانية والقياسات التي أجراها فريق من مركز أبحاث اليورانيوم الأمريكي بالتعاون مع جهات علمية دولية أخرى، وأجرى مسحأ موقعيًّا لبعض مسارح العمليات العسكرية في وسط البلاد وجنوبها أن ارتفاع مستوى التلوث الإشعاعي في مناطق شاسعة من أجواء بغداد ومناطق جنوب العراق كان واضحًا حيث بلغ عشرة أضعاف المستوى الطبيعي. والغريب أن القراءات الإشعاعية كانت أعلى في الهواء أكثر من التربة، ولعل هذا مؤشر على أن الدقائق المشعة التي يحملها الغبار والهواء من النوع الدقيق الذي يسهل استنشاقه وترسبه وبقاؤه في حويصلات الرئة.
لقد وصلت مستويات الإشعاع في النبات والحيوان عام 1996 في البصرة 14 مرة أكثر من الكمية المحددة للسلامة المعتمدة من قبل منظمة الصحة العالمية. وفي مطلع عام 1992 استغرب الأطباء في العراق من ارتفاع نسبة الولادات الشاذة، حيث أن بعضها كان بشعًا وغريبًا وغير مألوف، ولم يتوقعوا رؤيته إلا في مصادر الكتب أو ربما مرة أو مرتين في الحياة. وقد ازدادت الإصابات بالسرطان وخصوصًا بين الصغار الذين هم أكثر حساسية للإشعاع من الكبار. وفي دراسة حول الإصابات بمرض السرطان أخذت عينة من الجنود العراقيين تتكون من 1400 جندي من الذين كانوا في أماكن قصفت بشدة قرب مدينة البصرة، فظهرت زيادات مطردة بين عامي 1991 و 1996. فمثلًا مقابل عشر حالات إصابة بمرض إبيضاض الدم) لوكيميا (في عام 1991 كانت هناك 106 حالات عام 1996. أما الإصابة بسرطان الدماغ فقد ارتفعت من حالة واحدة عام 1991 إلى40 حالة في عام 1996. وقد عثر فريق مركز أبحاث اليورانيوم الأمريكي المشار إليه أعلاه خلال جولته على حالات من آلام المفاصل والرعاف والتهابات عصبية وآلام في الظهر واضطرابات في النظر وحرقة في البول لدى السكان القريبين من موقع الدروع المصابة، وهي أعراض تشابه أعراض التعرض الإشعاعي. وقد اخضعوا لفحص أولي وأخذت عينات من بولهم للتحليل والدراسة.
خطوات المعالجة
وبسبب تعقد هذا النوع من التلوث ولخطورته الكبيرة المباشرة على حياة الناس لا بد من الاتفاق مع شركات عالمية للبدء بالعمل والتنسيق مع الكادر العلمي الأكاديمي العراقي، وذلك لصعوبة مكافحة مثل هذا النوع من التلوث بالإمكانيات الخاصة والحاجة إلى الوسائل والمعدات الكاشفة المعقدة والمتوفرة لدى الشركات المتطورة فقط. كما لابد من التحقق من دور اليورانيوم المستنفذ في تلويث التربة وتحديد خارطة جيولوجية لتواجد اليورانيوم 238 وارتفاع تراكيز الرادون 226 المتحلل من عائلة اليورانيوم في التربة. وذلك يساعدنا على رسم خارطة مسح إشعاعي للعراق والعمل على إيجاد خطة عمل لإزالة الآليات والمدرعات الملوثة من المناطق السكنية والعمل على تنظيف التربة الملوثة. وهذه القضية تحتاج إلى بحث معمق لمعرفة حقيقة الآثار لمادة اليورانيوم المستنفذ على الكائنات الحية وبيئة التربة على وجه الخصوص.
كخطوة أولى يتطلب الأمر جمع كل مخلفات الحرب بطرق علمية سليمة وتحت الإشراف المباشر لتجنب إصابة المواطنين بالمواد المشعة والمدمرة، كما حدث سواء منذ فترة قصيرة أو عندما عممت السلطة بعد عام 1992 على الأهالي بضرورة جمع تلك البقايا بدون إرشادات صحية عن كيفية القيام بذلك. ويتحمل مسؤولية تلك المستويات العالية من التلوث بالدرجة الأولى النظام المقبور لإهماله وابتعاده عن اتخاذ الخطوات الضرورية لسلامة البيئة والمواطنين في آن واحد. ومع ذلك فإن الاهتمام بهذا الجانب ولو متأخرًا يقلل من الخسائر التي تكبدها وسوف يتكبدها شعبنا بكافة قومياته وانتماءاته المختلفة والمرشحة للزيادة خصوصًا إذا لم تتخذ الإجراءات المباشرة للبدء بمكافحة هذا النوع من التلوث الخطير. لذلك لا بد من القيام بحملة وطنية لأجراء مسح إشعاعي شامل للعراق بالطرق التالية :
1- إجراء مسح أشعاعي بواسطة الطائرات للعراق من شماله إلى جنوبه لأجل تحديد خارطة مسح إشعاعي أولية باتجاه توضيح المناطق الأكثر تضرراً. وهذه العملية تحتاج لتعاون الولايات المتحدة الأمريكية.
2- توزيع مجموعات صغيرة لإجراء المسح الإشعاعي بواسطة العربات المزودة بكشافات) كيكر) لقراءة المستويات الإشعاعية المرتفعة. وهذه العملية تتطلب مسحًا ميدانيًّا تتم حسب الخرائط الجغرافية للمدن والأرياف وتتطلب الجهد والوقت لإنجاز المهمة بأخذ عينات من التربة والمياه وكذلك أخذ جُرع من بول السكان في تلك المناطق وإرسالها إلى مختبرات التحليل والإشعاع لأعداد الدراسات والأبحاث المطلوبة وطنياً من أجل التأكد من قضية اليورانيوم المستنفذ وإمكانية التطهير الشامل للتربة منه وهي عملية معقدة ومكلفة جدا.
3- تشكيل فريق علمي من الخبراء والباحثين في التحليل الكيمياوي والمهندسين المتخصصين في البيئة لأجل القيام بمسح كيمياوي للتربة العراقية ومياه الأنهر والمياه الجوفية والبحيرات وكذلك فحص سلامة الهواء في منطقة بغداد والمناطق التي تعرضت إلى حرائق النفط في جنوب العراق. ولابد من التفكير مستقبلًا في أنشاء شبكة منظمة لمراقبة نوعية الهواء وسلامته من التلوث الكيمياوي تنتشر من شمال العراق إلى جنوبه ومن غربه إلى شرقه تفصل كل مركزين بمسافة تحدد علميًّا.
4- فريق علمي بيولوجي يتشكل من المتخصصين والباحثين في علوم الحياة مهمته فحص الأنسجة الداخلية للحيوانات والنباتات في التربة والمياه للتأكد من عدم تسرب العوامل الكيمياوية السامة والمواد المشعة الخطيرة إليها ومدى سلامة الدورة الطبيعية للحياة فيها. ويتم ذلك بإنشاء مختبر للتحليل البيولوجي. ولابد أن يتم تجهيزه بأحدث معدات التحليل ليساعدنا على معرفة الأضرار التي لحقت بالإنسان والكائنات الحية كالأسماك والطيور والبكتريا جراء كل ما حدث في العراق.
هذا الموضوع هو جزء من دراسة مطولة بعنوان :
(التلوث البيئي في العراق وضرورة معالجته)

المصادر
1- شمسه سلمان وعلي عدنان جواد، البيئة وتلوثها بالأمطار الحامضية، 1998، منشورات فاليتا – مالطا.
2- الشيخلي محمد، البيئة والتنمية،العدد 8، ديسمبر/ 2003 – بيروت.
3- معروف بهاء الدين حسين- التلوث باليورانيوم المستنفذ في العراق 2003.
4- فيلسيتي أربوثنوت، اليورانيوم المستنفذ وتلوث البيئة، مجلة العالمي الجديد أيلول 1999 وترجمة العبيدي نديم جريدة الوفاق- كانون الأول 1999- لندن.
5- الصالح فؤاد، التلوث البيئي أسبابه، أخطاره.. مكافحته، دار جفرا للدراسات والنشر، 1997 – دمشق.

د. سلمان شمسه / هولندا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

*