المبادرة التي تبنتها دائرة صحة النجف الأشرف باستيعابها النازحين إلى المحافظة من ذوي المهن الصحية وضمهم إلى ملاكها الوظيفي ، متجاوزةً الرتابة الإدارية ، ومختزلة الإجراءات المعقدة التي درج المواطن على مواجهتها في الدوائر الحكومية، وواضعة قراراتها قيد التنفيذ بعد مدة وجيزة من صدورها ، حيث باشر أكثر من مئة نازح وظائفهم موزعين على مختلف المؤسسات والدوائر الصحية ضمن حدود المحافظة ؛ هذه المبادرة تستحق الإشادة بكل عبارات الثناء والتقدير والاحترام . ويُفترض ألا يشك منصف بعد هذا بوجود عقول نيّرة راجحة تقف وراءها ، وأشخاص تجلّت فيهم الروح الوطنية الجميلة التي آثرت على الذوات ، هؤلاء الذاهلين حتى عن أسمائهم ، في غمرة ما ابتلوا به من خوف وجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات، كما كشفت عن قابلية متميزة لدى إحدى الدوائر الحكومية في المحافظة للتعامل مع الأزمات الإنسانية الطارئة بمستوى عال جدًّا من الجاهزية والواقعية وروح المسؤولية ، ومن يعتقد خلاف ذلك فليأتنا بمَثلٍ من محافظة أخرى، لا بل من دولة أخرى قريبة أو بعيدة ، بادرت في خضَّم من التدفق البشري المهول ، ونزوح جماعي مباغت كهذا الذي شهدناه إلى توفير أكثر من مئة فرصة عمل لأكثر من مئة شخص نازح أو مُهَجَّر أو لاجئ في ظرف شهرٍ أو أقل، واستوعبتهم في دائرة حكومية واحدة، وبسلاسة وانسيابية توهم بأنهم إنما عادوا إلى أعمالهم في النجف بعد انقضاء مدد إجازاتهم . هذه المبادرة الرائدة نتمنى اتخاذها أسوة حسنة في جميع قطاعات محافظة النجف الأشرف العامة والخاصة ، كأن يقوم مجلس المحافظة العتيد بتشكيل “لجنة دمج المهجرين” ، لخلق فرص عمل لذوي الاختصاصات والمهن الأخرى ، التي كانوا يزاولونها في محافظتهم قبل وقوع التهجير ، على أن تعمل اللجنة بالمقابل على حث المديريات والمؤسسات والدوائر الحكومية وأرباب المهن الحرة على تدوين شواغر وظائفهم وفوائضها في لائحة خاصة لدى اللجنة ، وبذلك تكون عاصمة أمير المؤمنين (عليه السلام) التي أوقفها على اللائذين بقبره الشريف قد حازت – عن جدارة واستحقاق – قصب السبق في تعاملها مع إحدى الأزمات الإنسانية المربكة بأسلوب حضاري مفعم بروح الإنسانية والواقعية والرقيّ ، بدرجة تضاهي حتى الدول المتقدمة في تعاملها مع أزمات كهذه . كما تكون قد جسدت على أرض الواقع تصنيف إمامنا أمير المؤمنين (عليه السلام) للناس بأنهم إما أخ لنا في الدين أو نظير لنا في الخَلق ، وبذلك ينهض الجميع في هذه المدينة المقدسة ، كلٌّ من موقعه ليجعل منها بحق “عاصمة الإنسان” كائنًا ما كان دينه أو مذهبه أو جنسه أو لونه أو عرقه . إن الأنظار لَشاخصة إلى النجفيين الكرام لِتشهد لهم مع التاريخ الذي يدوّن أحداثها ، بتراكم مواقفهم النبيلة وإضافتها إلى رصيدهم في إضفاء المعاني السامية على الحياة من أجل استمرارها وديمومتها ، على أرض لم يكن فيها قبل أن ترتقي إلى ما هي عليه اليوم من شموخ، سوى قبر تحلّق الناسُ حوله ذات يوم ، ليصبح رمزًا للحياة نفسها . والله من وراء القصد.