الربيع العربي والشيعة العرب
محمد المحفوظ ـ باحث إسلامي حجازي
التنوع والتعدد في الآراء والقناعات والميولات، ظاهرة أصيلة وراسخة في حياة الإنسان الفرد والجماعة، ولا يمكن أن نتصور حياة إنسانية بدون هذه الحقيقة.. فإذا تشابه واتحد الناس في اللون، فهم مختلفون ومتنوعون في القناعات الدينية والثقافية.. وإذا تشابه الناس في القناعات الدينية والثقافية، فهم متعددون في القوميات والإثنيات..
وهكذا تصبح حالة التعدد والتنوع، حالة طبيعية في الوجود الإنساني.. ولكن هذه الحالة الطبيعية، قد تتحول إلى عبء على استقرار الناس وأمنهم… حينما لا يتم التعامل مع هذه الحالة الطبيعية بعقلية استيعابية، تبحث عن سبل لإدارة هذه الحالة، دون توسل أساليب عنفية وقسرية لاستئصالها…
فالتعامل الإنساني الخاطئ مع هذه الحقيقة الإنسانية، هو الذي يحولها، من مصدر جمال وحيوية للوجود الإنساني، إلى فضاء للتناحر والتقاتل.. ومن منبع للخير المعرفي والاجتماعي، إلى مبرر للنبذ والاستئصال وتغييب المختلف..
فيصبح لدينا وتحت سماء الوطن الواحد والمجتمع الواحد، مجموعة من المجتمعات، لكل مجتمع عالمه الخاص ورموزه الخاصة وهمومه واهتمامه الخاص، مع انعزال وقطيعة تامة مع المجتمع الخاص الآخر..
وهكذا تتحول التعددية الدينية والمذهبية والقومية، من حالة طبيعية في الوجود الإنساني، إلى مصدر للشقاء والتباغض والإحن المفتوحة على كل احتمالات الخصومة والنزاع..
ومن منطلق رفضنا للفتن الطائفية، والتصنيفات الاجتماعية التي يترتب عليها المنع من بعض الحقوق أو المنح للحقوق بدون كسب حقيقي يقوم به، وكل أشكال التحريض المذهبي نحاول أن نقترب معرفيًّا وسياسيًّا من مسألة أساسية مطروحة في دوائر الفكر والسياسة وهي طبيعة رؤية وموقف الشيعة العرب من تطورات الربيع العربي. ونحاول أن نوضح هذه الرؤية والموقف من خلال النقاط المحورية التالية:
الربيع العربي.. ولعبة المصالح:
أولا: أعتقد أن ما جرى من تحولات سريعة في العديد من الدول العربية، هي تحولات نابعة من الإرادة الداخلية وبفعل هيمنة الأنظمة الشمولية على كل المقدرات والإمكانات، مما فجر الأوضاع باتجاه الانعتاق والتحرر من كل القيود..
ولكن ولاعتبارات عديدة ذاتية وموضوعية، دخل على خط هذه التحولات القوى الدولية، وبالذات الغربية، وبعض القوى الإقليمية لتوجيه هذه التحولات والسيطرة على حركتها.. وثمة مؤشرات عديدة على أن بعض القوى الدولية والإقليمية تمكنت من الوصول إلى هدفها والتحكم في مسيرة ومصائر هذه التحولات والتطورات الدراماتيكية..
لهذا فإن هذه التحولات هي ثورات لم تكتمل.. ويبدو أن الإرادة الغربية وبالخصوص الأمريكية، اتجهت صوب التفاهم مع القوى الإسلامية المعتدلة والقبول بها كنخبة سياسية جديدة تحكم في دول الربيع العربي.. ضمن قناعة استراتيجية أمريكية مفادها: إننا لا يمكن أن نواجه الشيعية السياسية واستمرار النفوذ والتمدد الإيراني بدون خلق وبعث السنية السياسية من جديد.. لهذا فإن الربيع العربي، يشكل لحظة الانبعاث الجديد للحركية الإسلامية – السنية، وإن هذه الجماعات تعيش في هذه الحقبة أزهى عصورها، إذ تمكنت شعوبها من إسقاط رموز بعض الأنظمة السياسية العربية التي مارست كل أنواع الظلم والحيف بحق الحركة الإسلامية..
وإزاء هذا المتغير الاستراتيجي نحن بحاجة إلى التأكيد على العناصر التالية:
العنصر الأول: صياغة رؤية فكرية واستراتيجية وخطاب سياسي يواكب هذه المتغيرات ويساهم في تبريد التوترات ذات الطابع المذهبي من جراء التباين في القناعات والمواقف تجاه بعض تطورات وتحولات المنطقة..
العنصر الثاني: القيام بمبادرات وخطوات عملية مدروسة، تستهدف نسج علاقات إيجابية وحيوية مع القوى الصاعدة والجديدة في مناطق التحول والمجتمعات التي شهدت الربيع العربي..
العنصر الثالث: تشجيع الوجودات الشيعية في تونس ومصر وبقية دول الربيع العربي، على الانفتاح على الساحة العامة وعدم الانغلاق، والانخراط في مشروعات سياسية وطنية وعدم التفكير في بناء أحزاب سياسية شيعية في هذه المناطق.. فنحن نرى أن المصلحة تقتضي أن تعمل الوجودات الشيعية على ضوء هذه المتغيرات على محورين أساسيين وهما:
– 1بناء الجمعيات والهيئات والمؤسسات الثقافية والاجتماعية، التي تمارس النشاط الثقافي والاجتماعي على قاعدة المشترك الإسلامي والوطني، وتخفف من الأنشطة ذات الطابع المذهبي.. فهذه الوجودات على هذا الصعيد، من الضروري أن تقدم نفسها بوصفها جماعات ثقافية وفكرية، تحمل مشروعًا ثقافيًّا لوطنها ومجتمعها..
2- المساهمة مع بقية القوى الوطنية في بناء أحزاب وتكتلات سياسية وطنية بعيدًا عن النزعات الفئوية والحزبية.. فلا مصلحة في تقديرنا للوجودات الشيعية في هذه الدول في بناء مشروعها السياسي على قاعدة مذهبية.. فنحن نرى أن المصلحة تقتضي أن تنشط هذه الوجودات على المستويات الثقافية والفكرية والإعلامية ضمن مؤسسات وأطر رسمية، وعلى المستوى السياسي الانخراط في مشروعات سياسية تلتقي معها في الرؤية وطبيعة الخطاب والأولويات السياسية والوطنية..
وأعتقد أن النخب الإسلامية – الشيعية، معنية في ظل هذه الظروف الحساسة إلى تطوير نظام العلاقة والتعاون بين مختلف أطرافها ومكوناتها..
وإن اللحظة التي نعيشها بكل زخمها وعقدها، تتطلب منا قراءة دقيقة وعميقة لها، وذلك حتى نقف في الجانب الصحيح من حركة التاريخ، وحتى نحافظ على كل مكاسبنا النوعية. ولا خيار أمامنا إلا القبض على مصيرنا، وذلك لأنه «لم تعد هناك إلا وسيلة واحدة للتنبؤ بالمستقبل، هي أن نبتكره» على حد تعبير ستيف جوبز.
تيارات وأطياف متعددة:
ثانيًّا: من الضروري في هذا السياق، بيان حقيقة اجتماعية – ثقافية – سياسية، وهي أن الشيعة في كل مناطقهم ودولهم، ليسوا حزبًا واحدًا أو رأيًا واحدًا.. وإنما هم كبقية المجتمعات الإنسانية في أوساطهم تيارات فكرية وسياسية عديدة.. ولذلك لا يصح التعامل معهم، بوصفهم كتلة بشرية واحدة ومتجانسة في كل شيء..
كما أن غيرهم من المجتمعات، ينبغي أن لا يتم التعامل معهم بوصفهم كتلة واحدة، متجانسة.. فمجتمعاتنا جميعًا بصرف النظر عن دينها أو مذهبها أو قوميتها، وسواء كانت تشكل أكثرية في مجتمعها أو أقلية، لا فرق.. هي مجتمعات متعددة ومتنوعة فكريًّا وسياسيًّا وثقافيًّا، وتحتضن توجهات وأطياف وتيارات عديدة، سواء كانت دينية أو فكرية أو سياسية..
وعلى ضوء هذه الحقيقة، ينبغي أن نتعامل مع كل الملفات والقضايا الشيعية.
الانقسام الطائفي.. البحرين وسورية نموذجًا:
ثالثا: يبدو من الكثير من الشواهد والمعطيات، أن الانقسام الطائفي والمذهبي في الأمة، انقسام حقيقي، وموجود في كل المجتمعات بمستويات متفاوتة.. فكل المجتمعات وبسبب عوامل موضوعية وذاتية عديدة، تعيش مرحلة انبثاق هوياتها الفرعية، وهي هويات متصارعة، وتستدعي باستمرار أحن التاريخ وذكريات الحروب والانفصال بينها..
وأعتقد أن التشظي المذهبي الذي تشهده أمتنا في هذه اللحظة الحساسة من تاريخنا الجماعي والمشترك، انعكس بطريقة أو أخرى على حدثين أساسيين في المنطقة وهما:
– 1 الحدث البحريني وما رافقه من تطورات سياسية واجتماعية، تطالب بالحرية والانصاف وانجاز تحولا ديمقراطيا حقيقيا في المشهد السياسي..
وأعتقد أن الكثير من الأطراف”الإسلامية «السنية»، تعاطت مع هذا الحدث، الذي هو في دوافعه وشعاراته وأهدافه، جزء أصيل من حركة الربيع العربي، بخلفية التوتر الطائفي الموجودة في كل الساحة الإسلامية.. لذلك اعتبرت ما يجري في البحرين حركة خارجية في دوافعها وأهدافها وتعاملت بإهمال حقيقي ومؤسف مع تطورات الأحداث في البحرين. وعلى افتراض صحة التحليل السائد في الإعلام العربي، وهو أن ما يجري في البحرين هو تدخلات إيرانية – صفوية – مذهبية، لذلك وقفت غالبية الجماعات الإسلامية «السنية» موقف المتفرج أو المؤيد للسلطة ومنطقها وخطابها حول ما يجري في البحرين.. وتغافلت عن حقيقة المطالب المحقة التي يطالب بها شعب البحرين، وهي مطالب في شعاراتها الجوهرية وأهدافها السياسية بعيدة كل البعد عن النزعات الطائفية والمذهبية..
2 – الحدث الآخر هو الحدث السوري، والذي اندفعت فيه غالبية القوى الإسلامية «السنية» في تأييد الثورة، وساهمت بطريقة أو بأخرى في الحشد الطائفي والمذهبي، وتغافلت عن كل السياقات الإقليمية والدولية والتي وقفت وتدخلت بأشكال عديدة في الواقع السوري..
وفي المقابل وقفت غالبية القوى الشيعية موقف التأييد للنظام السياسي في سورية، لأسباب متعلقة بطبيعة موقف النظام من المشروع الصهيوني والصراع العربي – الصهيوني. وحين التأمل في موقف غالبية القوى الشيعية من الحدث السوري، فإننا نجده يحتوي على مكونين أساسيين:
المكون الأول: القبول التام بمنطق ضرورة الإصلاح السياسي والدستوري والاقتصادي والديمقراطي في الواقع السوري، وإن النظام السياسي يمتلك القابلية للقبول بكل مقتضيات وآليات الإصلاح السياسي والدستوري في سورية..
المكون الثاني: رفض السياقات والتدخلات الإقليمية والدولية، والتي دخلت على خط مطالب الشعب السوري المحقة في الإصلاح والديمقراطية..
وأعتقد أن غالبية القوى الشيعية على هذا الصعيد، لم تتمكن لاعتبارات عديدة من تظهير موقفها الاستراتيجي والسياسي ببعديه من الأحداث في سورية..
فهي مع الإصلاح والتحول الديمقراطي، وفي ذات الوقت ضد المخططات الإقليمية والدولية، التي اغتنمت فرصة الأحداث في سورية، ودخلت على خط هذه الأحداث الأهداف ليست بالضرورة هي أهداف الثوار في سورية..
وعلى كل حال ما أود أن أقوله في هذا السياق، هو أن غالبية القوى والجماعات الإسلامية السنية والشيعية وقعت من جراء أحداث البحرين وأحداث سورية في مأزق أخلاقي وفي بعض جوانبه مبدئي..
لهذا فإننا نعتقد أن الأجندة المذهبية أو واقع الانقسام الطائفي الموجود في الأمة، ساهم بطريقة أو بأخرى في المأزق الأخلاقي والوقوف مع طرف ضد آخر.. مما أفضى إلى المزيد من التوتر والتخندق الطائفي في الأمة. وأبانت تطورات الربيع العربي، وطبيعة الانقسام الطائفي والمذهبي الذي برز في الساحة وتفاقم من جراء الموقف من الأحداث في البحرين وسورية، عن حاجة الساحة الإسلامية إلى تطوير العلاقات والتواصل والتفاهم بين القوى الإسلامية السنية والشيعية. وإن الاكتفاء بالخطابات العمومية والمواعظ الأخلاقية، لم يعد مجديًا، ولم تتمكن على المستوى الواقعي هذه الخطابات العامة، من صياغة رؤية مشتركة للطرفين.. وأعتقد أن جميع القوى بمستوى من المستويات، خضعت للعصب المذهبي والقاعدة الاجتماعية الخاصة، وصاغت بعض مواقفها على ضوء شبكة المصالح الخاصة.. فبدل أن تكون هذه القوى طاقة توحيدية وجامعة في الأمة، تحولت لأسباب ذاتية وموضوعية إلى جزء من حالة الانقسام المذهبي في الساحة الإسلامية. وأعتقد أن الخروج من حالة الانقسام، تقتضي العمل على بناء حالة جديدة من التفاهم والتلاقي على قاعدة تشبيك المصالح والاستقلال في القرار السياسي بعيدًا عن عمليات الاستقطاب العملي أو الدولي..
فالوطنية السورية اليوم تقتضي من جميع القوى والأطراف، وقف عمليات القتل والتدمير والجلوس معًا على طاولة واحدة، لتدارس أمر الوطن والخروج بتسويات مشتركة تنقذ الجميع من أتون التدمير المتبادل..
ومن المؤكد أن الانكشاف الأمني والسياسي لسورية أمام التدخلات الإقليمية والدولية، يفضي إلى تعقد الأزمة، لأن لهذه التدخلات أجندة، ليست بالضرورة منسجمة ومصالح الشعب السوري..
لهذا كله فإننا نعتقد أن المصلحة الوطنية العليا لسورية، تقتضي إنجاز مصالحة وطنية حقيقية، تفضي إلى تحولات سياسية وديمقراطية حقيقية في المشهد السوري..
الشيعة.. جزء أصيل من المنظومة العربية:
رابعا: يبدو أن بعض الأطراف في الساحة العربية والإسلامية، تتعامل مع النظام العربي الرسمي القائم على إقصاء الشيعة وعدم إشراكهم الحقيقي في الحياة السياسية لأوطانهم، بوصفها ثابتة من الثوابت التي ينبغي أن لا يمسها أحد.. فالشيعة هم طيبون ومندمجون في أوطانهم، ما داموا بلا نخبة سياسية ودينية تطالب بإنصافهم وإعطاءهم حقوقهم الدينية والمدنية..
أما إذا عمل الشيعة على تنظيم أحوالهم، وصياغة خطاب سياسي لشؤونهم، وعملوا على معالجة حالات التمييز الطائفي الذي يتعرضون إليه في أكثر مناطق وبلدان تواجدهم، فإنهم بقدرة قادر، يتحولون إلى طابور خامس، ويتحركون وفق أجندة خارجية وخاضعون للنفوذ الإيراني..
وفي سياق دهاء النظام العربي الرسمي وبالذات بعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران، فإن النظام الرسمي عمل بطريقة أو بأخرى على التعامل مع الملفات الشيعية في كل المنطقة العربية عبر البوابة الإيرانية.. فحينما يتحركون ويطالبون بحقوقهم المشروعة، فإن إيران هي التي تحركهم.. فالشيعة في المنطقة العربية ليسوا إيرانيين، ويعتزون بأوطانهم، ويعملون بكل إمكاناتهم لرفعة أوطانهم.. ولن تتجلى هذه الحقيقة بشكل ناصع لا لبس فيه إلا مع تغيير المعادلة الطائفية التي أرسى دعائمها ومبرراتها النظام العربي الرسمي منذ زمن بعيد..
فالشيعة في كل أوطانهم العربية حقيقة اجتماعية وثقافية، ولا يصح تجاهلهم أو نكران حقوقهم العامة، أو التعامل معهم بوصفهم طارئين على الحياة والواقع العربي..
مسؤولية الأكثرية:
خامسًا: إن المسؤول الأول عن دمج الأقليات في أوطانها ومجتمعاتها، هي الأكثرية.. فإذا تعاملت هذه الأكثرية بكل أطيافها وتياراتها، بانفتاح ومرونة مع الأقليات وحقوقها وهمومها، فإن هذا التفاعل الإيجابي، سيفضي إلى المزيد من دمج الأقليات في محيطها الاجتماعي والوطني..
أما إذا تعاملت الأكثريات بعصبية مذهبية وبانغلاق طائفي وببث لثقافة المفاصلة والكراهية لاعتبارات عقدية وأيديولوجية تجاه الأقليات، فإن النتيجة هي المزيد من تشبث الأقليات بهويتها وخصوصيتها كخط دفاع أخير عن الذات .
من الضروري أن تنفتح الأقليات على محيطها، وتتفاعل على نحو إيجابي مع فضائها الوطني.. ولكن فعالية هذا الانفتاح، مرهون على قدرة الأكثريات على تجاوز عصبياتها، والتعامل مع الأقليات على قاعدة المواطنة المتساوية في الحقوق والواجبات.. فالتمييز الطائفي الذي يتعرض إليه الشيعة العرب في أغلب مناطق وجودهم، هو يحمل الواعين والمخلصين من أبناء الأكثرية، مسؤولية العمل والنضال من أجل إنهاء كل أشكال التمييز الذي يتعرض إليه شركاءهم في الوطن لاعتبارات مذهبية.
. ومن الضروري في هذا السياق القول: أن المشكلة الطائفية، ليست مشكلة خاصة بالأطراف التي تتعرض للتهميش والتمييز، وإنما هي مشكلة وطنية، ومن الضروري والواجب الأخلاقي والوطني، أن يتحمل الجميع مسؤولية العمل لتفكيك كل الحوامل التي تغذي نزعات التمييز والتهميش في كل المناطق والبلدان..
حماية الأقليات:
سادسًا: معالجة مشكلات أهل السنة في البلدان والمناطق ذات الأكثرية الشيعية.
لا ريب أن أحد روافد التوترات الطائفية والمذهبية في المنطقة، يعود إلى واقع الأقليات سواء كانت سنية أم شيعية في مناطقها.. لهذا فإننا نعتقد أن معالجة مشكلات أهل السنة في البلدان والمناطق ذات الأكثرية الشيعية، يساهم في إزالة الكثير من عناصر الالتباس والتوتر، كما أنه ينسجم ومطالباتنا بالإنصاف والعدالة.. فالمجتمع الذي يطالب بالعدالة، ويناضل ضد التمييز والتهميش، ينبغي أن لا يقبل أي شكل من أشكال الظلم والتمييز يقع على أي إنسان بصرف النظر عن دينه أو مذهبه..
ونحن نعتقد أن لكل بلد خصوصيته وظروفه، ولكن نجاح أية دولة في إدارة أقلياتها على نحو صحيح وإيجابي، يساهم في تعميم النموذج الصالح، وإزالة بعض عناصر الالتباس والتوتر..
ومن هذا المنطلق نحن نرفض أي شكل من أشكال التمييز يقع على أهل السنة وبالذات في المناطق الذين يشكلون هم فيها أقلية.. فنحن مع إنصاف الجميع، ونيلهم لكل حقوقهم، والتعامل معهم بوصفهم مواطنين كاملي المواطنة في الحقوق والواجبات..
ولا ريب أن سعي الحكومات والدول التي تحكم من قبل أكثرية شيعية، إلى تحقيق العدالة والإنصاف مع الأقلية السنية، سيساهم في تطوير العلاقات السنية – الشيعية على مختلف الصعد والمستويات..
رهاب الطائفية :
سابعًا: لأسباب سياسية وطائفية ومجتمعية عديدة، انتشرت في المنطقة العربية ما يمكن تسميته «شيعة فوبيا»، بحيث ازدادت عمليات التحريض التي يصل بعضها إلى حد التحقير لكل ما يمت بالشيعة من تاريخ وشخصيات وعقائد، وبرزت على السطح مقولات تبث الكراهية المذهبية، وتدعو إلى الاستئصال والمفاصلة الشعورية والعملية والاجتماعية..
فتحول الشيعة من جراء ذلك إلى عدو يجب محاربته، أو ما يشبه العدو، أو العدو المحتمل إذا استمر بعض أطرافه في خياراتهم السياسية والثقافية والوطنية.. ونحن إذ نسجل هذه الظاهرة الخطيرة التي بدأت بالبروز في المنطقة العربية، نود أن نؤكد على مسألتين أساسيتين وهما:
– 1 لا سبيل أمام المسلمين من سنة وشيعة، إلا التعايش والقبول بمقتضيات الاحترام المتبادل.. وإن نزعات التحريض والتحقير وصناعة العداوة الدائمة، تضر بالجميع، وتدخل المنطقة بأسرها في أجواء ومناخات كارثية على الجميع..
2 – ضرورة أن يسعى أهل الاعتدال والتعايش من مختلف المواقع المذهبية والاجتماعية إلى الانفتاح والتواصل وعدم الخضوع لمقتضيات الاصطفافات الطائفية المقيتة..
الطريق إلى التعايش:
حين الحديث عن التعايش بين مكونات وتعبيرات المجتمع والوطن الواحد، فإننا حقيقة نتحدث عن قيمتين أساسيتين وهما قيمة الاختلاف وقيمة المساواة..
فينبغي أن نعترف بحقنا جميعًا بالاختلاف، وهذا الاعتراف ينبغي أن لا يقود إلى التحاجز وبناء الكانتونات الاجتماعية المنعزلة عن بعضها، كما أنه ينبغي أن لايقود إلى التعدي على الحقوق..
فالتعايش هو حصيلة بناء علاقة إيجابية بين حق الاختلاف وضرورة المساواة.. وأي خلل في هذه المعادلة، يضر بحقيقة التعايش في أي مجتمع ووطن..
ومفهوم التعايش بطبيعته ومضمونه، لا يلغي التنافس أو الخلافات بين المكونات والتعبيرات والأطياف، وإنما يحدد وسائلها، ويضبط متوالياتها.. فالتعايش لا يساوي السكون والرتابة، وإنما يثبت الوسائل الإيجابية والسلمية لعملية التنافس والاختلاف، ويرفض الوسائل العنفية بكل مستوياتها لفض النزاعات أو إدارة الاختلافات والتباينات..
كما أن مفهوم التعايش، لا يرذل الاختلافات والتباينات بكل مستوياتها، وإنما يعتبرها حالة طبيعية وجزء أساسي من الوجود الإنساني، ولكنه يرفض أن تتحول عناوين الاختلاف والتباين، لوسيلة لامتهان كرامة المختلف أو التعدي على حقوقه الخاصة والعامة.
فالتعايش كمفهوم وممارسة، لا يشرع بأي نحو من الأنحاء، لأي طرف مهما كان الاختلاف والتباين، إلى التعدي على الحقوق أو تجاوز الأصول والثوابت في التعامل مع المختلف وفق ضوابط العدالة والمناقبية الأخلاقية.. لذلك يقول تبارك وتعالى في محكم كتابه [ولا يجر منكم شنئان قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى]..
لذلك فإن خلق معادلة متوازنة وحيوية بين مفهومي الاختلاف والمساواة، هو جذر التعايش وجوهره النوعي.. فالاختلاف لا يقود إلى الظلم والافتئات، بل يؤكد قيم العدالة والمساواة.
إذا تحققت هذه المعادلة، تحقق مفهوم التعايش في الفضاء الاجتماعي والوطني.. وبدون هذه القيم والحقائق لا ينجز مفهوم التعايش في أي مجتمع وفضاء إنساني..
ووفق هذه الرؤية فإن التعايش، لا يساوي أن يتنازل أحد عن ثوابته ومقدساته، وإنما يساوي الالتزام بكل مقتضيات الاحترام والعدالة لقناعات الطرف الآخر، بصرف النظر عن موقفك الحقيقي أو العقدي منها..
فالتعايش لا يقتضي الانشقاق أو التفلت من الثوابت أو الأصول لدى الأطراف، وإنما يقتضي الإصرار على خيار التفاهم وتوسيع المشترك وإدارة نقاط التباين وموضوعات الاختلاف بعقلية حضارية، توفر للجميع حق التعبير عن قناعاتها ووجهة نظرها، بعيدا عن الإساءة إلى الطرف أو الأطراف الأخرى…
فالاستقرار العميق في كل الأوطان والمجتمعات، هو وليد شرعي لحقائق التعايش ومتطلباته حينما تسود المجتمع بكل فئاته وشرائحه وأطيافه.
المصدر: مجلة الجزيرة العربية