كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) عن المحن التي مني بها الحديث الشريف

226

مقتبس من كتاب (في رحاب العقيدة) لسماحة المرجع الديني الكبير السيد الحكيم (مدّ ظله)

ورد أن أمير المؤمنين عليه السلام سئل عن أحاديث البدع وعما في أيدي الناس من اختلاف الخبر، فقال عليه السلام: «إن في أيدي الناس حقاً وباطلاً، وصدقاً وكذباً، وناسخاً ومنسوخاً، وعاماً وخاصاً، ومحكماً ومتشابهاً، وحفظاً ووهماً. ولقد كذب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على عهده، حتى قام خطيباً، فقال: من كذب عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار. وإنما أتاك بالحديث أربعة رجال ليس لهم خامس:

رجل منافق مظهر للإيمان، متصنع بالإسلام لا يتأثم، ولا يتحرج، يكذب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم متعمداً. فلو علم الناس أنه منافق كاذب لم يقبلوا منه، ولم يصدقوا قوله. ولكنهم قالوا: صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، رأى وسمع منه، ولقف عنه، فيأخذون بقوله. وقد أخبرك الله عن المنافقين بما أخبرك، ووصفهم بما وصفهم به لك. ثم بقوا بعده (عليه وآله السلام)، فتقربوا إلى أئمة الضلالة، والدعاة إلى النار بالزور والبهتان، فولوهم الأعمال، وجعلوهم حكاماً على رقاب الناس، وأكلوا بهم الدنيا، وإنما الناس مع الملوك والدنيا، إلا من عصم الله. فهو أحد الأربعة.

ورجل سمع من رسول الله شيئاً لم يحفظه على وجهه، فوهم فيه، ولم يتعمد كذباً. فهو في يديه يرويه، ويعمل به، ويقول: أنا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. فلو علم المسلمون أنه وهم فيه لم يقبلوه منه، ولو علم هو أنه كذلك لرفضه.

ورجل ثالث سمع من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شيئاً يأمر به، ثم نهى عنه، وهو لا يعلم، أو سمعه ينهى عن شيء، ثم أمر به، وهو لا يعلم، فحفظ المنسوخ، ولم يحفظ الناسخ. فلو علم أنه منسوخ لرفضه. ولو علم المسلمون إذ سمعوه منه أنه منسوخ لرفضوه.

وآخر رابع لم يكذب على الله ولا على رسوله، مبغض للكذب، خوفاً من الله، وتعظيماً لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولم يهِم، بل حفظ ما سمع على وجهه، فجاء به على ما سمعه، لم يزد فيه، ولم ينقص منه. فحفظ الناسخ، فعمل به، وحفظ المنسوخ، فجنب عنه، وعرف الخاص والعام، فوضع كل شيء موضعه، وعرف المتشابه ومحكمه.

وقد كان يكون من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الكلام له وجهان، فكلام خاص، وكلام عام، فيسمعه من لا يعرف ما عنى الله به، ولا ما عنى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فيحمله السامع، ويوجهه على غير معرفة بمعناه، وما قصد به، وما خرج من أجله. وليس كل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من كان يسأله ويستفهمه، حتى أن كانوا ليحبون أن يجيء الأعرابي والطارئ فيسألهعليه السلام حتى يسمعوه. وكان لا يمرّ بي من ذلك شيء إلا سألته عنه، وحفظته.

فهذه وجوه ما عليه الناس في اختلافهم وعللهم في رواياتهم» .

ويبدو أن سؤال السائل لأمير المؤمنين (صلوات الله عليه) كان نتيجة شيوع أحاديث البدع، واختلاف الخبر، بنحو أوجب تحير السائل والتباس الأمر عليه، بحيث لا يستطيع تمييز الحق بنفسه، حتى رجع لأمير المؤمنين عليه السلام وسأله. كما يبدو من جواب أمير المؤمنين عليه السلام أن عامة المسلمين في غفلة عن هذا الاختلاط والالتباس، فكل منهم يعمل بما وصل إليه من الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لحسن ظنه بمن حدثه به من الصحابة، من دون أن يتسنى لهم التمييز بينهم، ومعرفة المنافق المتعمد للكذب من غيره، والواهم من غيره، والذي يروي الناسخ من الذي يروي المنسوخ.

أسباب المحن التي مني بها الحديث الشريف

كل ذلك بسبب الحجر على الحديث النبوي، والمنع من تدوينه، ومن الحديث به إلا في حدود ضيقة، تحت إشراف السلطة، وتبعاً لها، كما أشرنا إليه في جواب السؤال السابع من الأسئلة السابقة.

وبسبب ما هو المعلوم من عدم انتشار كبراء الصحابة وصلحائهم في البلدان إلا ضمن رقابة مشددة، لا يأخذون معها حريتهم في نشر حديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم، إما لمجافاتهم للسلطة القائمة وعدم تعاونهم معها، أو لتخوفها منهم، حتى حجرت عليهم، خصوصاً في عهد عمر حيث منعهم من الانتشار في البلاد. وكان اعتماد السلطة وتعاونها مع كثير من المنافقين والمؤلفة قلوبهم من مسلمة الفتح ونحوهم، كما تضمنه كلام أمير المؤمنين عليه السلام المتقدم، وتقدمت الإشارة إليه في جواب السؤال الرابع من هذه الأسئلة.

كل ذلك أوجب اختلاط الأوراق والتباس الحق بالباطل، وضياع الأمر على المسلمين، فكان عامتهم يعملون بكل ما وصل إليهم، ويعتقدون صدقه غفلة عن حقيقة الحال، وقد أدرك بعض الخاصة ذلك، فبقي متحيراً قد خفيت عليه معالم الحق، حتى اضطر للسؤال.

هذا كله في الصدر الأول بعد مضي أقل من ثلاثة عقود من السنين على وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والصحابة متوافرون، وفيهم العدد الكثير من أهل الورع والمعرفة، وقد أخذوا حريتهم في بيان الحقيقة، وفي نشر الحديث الصادق عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عندما ضعفت سيطرة السلطة في أواخر عهد عثمان.

وخصوصاً في عهد أمير المؤمنين عليه السلام، الذي كان عهده عهد انتصارهم، وانتصار أفكارهم التي يحملونها ويؤمنون بها، كما تقدم في جواب السؤال الرابع.

بدء محاولة التصحيح وإيضاح الحق في عهد أمير المؤمنين عليه السلام

وليت الأمر وقف على ذلك، ليبدأ التصحيح وبيان الحق في عهد أمير المؤمنين عليه السلام منه ومن أهل البيت عليهم السلام ومن المستحفظين من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، الذين أخذوا منهم، وحدثوا عنهم. والذين كان لهم ـ بسبب ما عرفوا به من صدق اللهجة ـ الأثر المهم بعد ذلك في التنبيه للحق والتذكير به، حيث حملوه وحفظوه ووعوه، وحدثوا به ونشروه، ودعوا له، وروجوه، على شدة المحنة، وطول المدة، وما عانوه من قسوة مواقف السلطة، وعامة الناس الذين تأثروا بتثقيفها وإعلامها.

نظير من ذكرهم الجوزجاني في كلامه المتقدم عن بعض الشيعة، ممن لا يرتضي هو ولا النواصب مذهبهم، حيث قال: «كان من أهل الكوفة قوم لا يحمد الناس مذاهبهم. هم رؤوس محدثي الكوفة. مثل أبي إسحاق ،ومنصور، وزبيد بن الحارث اليامي، والأعمش، وغيرهم من أقرانهم، احتملهم الناس لصدق ألسنتهم في الحديث».

الانتكاسة بمقتل أمير المؤمنين وإقصاء أهل البيت عليهم السلام عن الحكم

أقول: ليت الأمر وقف على ذلك، ليتم التصحيح وبيان الحق بجهود هؤلاء.

غير أن الأمر لم يطل حتى انطوى عهد حكم أهل البيت عليهم السلام، وجاء عهد معاوية الذي هو كما قال أمير المؤمنين عليه السلام: «ظاهر غيه، مهتوك ستره، يشين الكريم بمجلسه، ويسفه الحكيم بخلطته» .

وقد جاء ليعلن ـ بكل صلافة وصفاقة وجه ـ عن استهتاره في أول خطبة له بعد استيلائه على أمور المسلمين في النخيلة، قبل أن يدخل الكوفة، حيث قال: «ما قاتلتكم لتصلّوا، ولا لتصوموا، ولا لتحجّوا، ولا لتزكّوا. وقد أعرف أنكم تفعلون ذلك. ولكن إنما قاتلتكم لأتأمر عليكم. وقد أعطاني الله ذلك وأنتم له كارهون».

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

*