الشخصية العراقية .. عرض لكتاب الباحث العراقي د. إبراهيم الحيدري
صدر للباحث الاجتماعي العراقي الدكتور إبراهيم الحيدري الجزء الأول من كتاب الشخصية العراقية -البحث عن الهوية عن دار التنوير، بيروت في 296 صفحة. والكتاب محاولة جادة لدراسة الشخصية العراقية وتحليلها تحليلًا سوسيو-ثقافيا وتفكيك مكوناتها وعناصرها الأولية وتشخيص خصائصها وسماتها الثابتة والمتغيرة وفق ما استجد من تغيرات وتحولات بنيوية خلال العقود الأخيرة، وكذلك معرفة أسباب المحنة والانكسار الذي أصاب الشخصية العراقية بعد تعرضها إلى انتهاكات فظيعة على طول التاريخ، وبخاصة تحت حكم النظام الشمولي السابق ومن ثم الغزو والاحتلال، وهو ما عرض ثوابت الشخصية العراقية إلى هزات عميقة تشير إلى ضعف بنية الشخصية وانقسامها على ذاتها إلى واحدة متسلطة قامعة وأخرى نكوصية عاجزة.
فمنذ تشكيل الدولة العراقية والعراق أمة تبحث عن دولة ودولة تبحث عن هوية وهو ما يدفع إلى بحث العوامل والأسباب الذاتية والموضوعية التي تتحكم فيها، انطلاقًا من معرفة الذات ونقدها قبل الدفاع عنها وجلدها وتخطي معرفة الذات إلى الآخر لمواجهة السلبيات بجرأة وشجاعة عن طريق النقد والنقد الذاتي.
وعلى الرغم مما مر على العراق من كوارث ومحن، فقد بقيت الشخصية العراقية حيَ بناءة وانفعالية قلقة ومسالمة بطبيعتها، ولها قابلية على الصبر والتحمل وقدرة عالية على التكيف مع الظروف المتغيرة والتمسك بالحياة. والدليل على ذلك هو تجاوز العراقيين حربا أهلية طاحنة وصمودهم أمام نيات تدمير الوطن وتجزئته إلى دويلات طوائف.
يتعرض المؤلف في الجزء الأول إلى دراسة التكوينات الاجتماعية المتنوعة والهويات المتعددة والثقافات الفرعية المختلفة والأجيال والنخب المتعاقبة وتحليل العوامل التي أثرت وتؤثر في انقسام الهوية إلى هويات فرعية متصارعة في محاولة لاستشراف شخصية عراقية متكاملة وهوية وطنية واحدة.
يتضمن الفصل الأول إطلالة تاريخية عن العراق أرضًا ومجتمعًا وحضارة انطلاقًا من أن الباحث الاجتماعي إذا أراد معرفة حاضره واستشراف مستقبله لابد له من فهم ماضيه وتتبع مسيرته وتأشير المحطات التي توقف فيها الزمن أو التي تحرك فيها وما حدث فيها من قطيعات حضارية وتحولات بنيوية وتغيرات اجتماعية واقتصادية وسياسية مؤكدا على أهمية الفكر الاجتماعي والاقتصادي والسياسي وأنماط الإنتاج المتعايشة التي كان لها تأثير عميق على المجتمع وتشكيل شخصية الفرد العراقي.
وفي الفصل الثاني تعرض المؤلف إلى إشكالية الدولة وروح المواطنة والهوية، إذ إن تشكيل الدولة العراقية عام 1921 كان نتاجًا مشوهًا لنمط الهيمنة الكولونيالية آنذاك حيث تكون من جماعات تحالف تقليدي، من شيوخ العشائر وكبار الضباط في الجيش العثماني والأشراف وتجار المدن والأفندية الذين شكلوا نخبة سياسية غير منسجمة، لذلك عانى العراق وما يزال يعاني من ضعف الدولة وروح المواطنة والهوية مما أنتج صراعات أيديولوجية وإثنية وقبلية وطائفية، خصوصا وان العراق يمثل قطعة موزاييك فسيفسائية ملونة تمتاز مكوناته بالتعدد والتنوع والاختلاف وكذلك بالتسامح والتعايش فيما بينهم .
قام المؤلف بتقسيم تاريخ العراق الحديث منذ تأسيس الدولة العراقية إلى ثلاث مراحل تمثل كل مرحلة منها جيلا. الجيل الأول هو جيل التأسيس الذي يمتد من بداية القرن الماضي حتى الحرب العالمية الثانية. وقد سبقه جيل ما قبل التأسيس (جيل العمامة والطربوش) الذي وضع اللبنات الأولى لمشروع النهضة في العراق. والجيل الثاني هو جيل البناء الذي حاول بناء أسس عراق جديد كان يمكن أن يقود العراق إلى الاستقرار والحداثة والتقدم الاجتماعي. وقد ساعد ذلك الجيل على إنتاج ملامح طبقة وسطى نامية أخذت على عاتقها بناء مؤسسات الدولة والمجتمع المدني. وكادت فترة الخمسينات ان تكون فترة ذهبية في تاريخ العراق الحديث، غير أن نظام الملكية الكبيرة والعلاقات شبه الإقطاعية سبب نزوحا ريفيا واسعا إلى المدن الكبيرة مما أنتج بطالة وبطالة مقنعة كان لها آثار وخيمة على المجتمع العراقي ما يزال يجني ثمارها العراقيون حتى اليوم.
أما الجيل الثالث فهو جيل الضياع، جيل الحرب والحصار، الذي انقسم بدوره إلى جيل ما قبل صدام حسين، الذي حافظ على شخصية ذات سمات وخصائص ثابتة تقريبا، وجيل الضياع أو جيل ما بعد صدام حسين، الذي نشأ وترعرع في ظل الحروب والحصار والقمع وتشوه الشخصية والذي لا يحمل سوى ذاكرة القتل والدمار.
كما بحث المؤلف نشوء وتطور الطبقات الاجتماعية في العراق منذ نهاية القرن التاسع عشر وكذلك تطورها خلال فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية ومساهمتها في بناء العراق وكذلك دورها في ثورة 14 تموز ثم ضمورها بعد صعود المؤسسة العسكرية إلى السلطة ودخول العراق في الحرب العبثية مع إيران.
وفي محاولة لمعرفة الذات ونقدها ركز المؤلف على دراسة إشكالية الهوية، لان سؤال الهوية يطرح نفسه بصيغ مختلفة وسياقات متعددة باعتباره إشكالية ذهنية تطرح نفسها في أوقات التحديات المصيرية والأزمات الثقافية، حيث تتحول أحيانا إلى أزمة نتيجة الأوهام المبالغ فيها والخوف عليها من الآخر المختلف، وكذلك من الانتماءات والولاءات والتصورات الأيديولوجية، مؤكدا على أن إشكالية الهوية في العراق ترتبط بإشكالية الحرية، وان أزمة الهوية ترتبط قبل كل شيء بأزمة الديمقراطية. كما طرح المؤلف للبحث موضوع الثقافات الفرعية وخصوصياتها وظهورها على مسرح الأحداث خلال العقود الأخيرة. وبالرغم من أنها ليست ظاهرة جديدة، ولكن بروزها على مسرح الأحداث السياسية بشكل كاد أن يؤدي بعد الاحتلال إلى حرب أهلية، فإنها تعبر عن فشل الدولة وكذلك المكونات الاجتماعية في حل مسألة الهوية وتطوير مؤسسات مجتمع مدني قادر على تحقيق عقد اجتماعي لمشروع وطني يوحد العراقيين في هوية وطنية واحدة.
ومن الجدير بالذكر أن كتاب الشخصية العراقية يتكون من ثلاثة أجزاء، الجزء الأول يتضمن البحث عن الهوية والجزء الثاني يبحث في خصائص وسمات الشخصية العراقية التي تغيرت خلال العقود الأخيرة. أما الجزء الثالث فيبحث في تشوه الشخصية العراقية في مرحلة ما بعد السقوط وما أفرزته من فوضى وخراب ما زلنا نجني ثماره حتى اليوم.
إن ما حدث من تغيرات بنيوية عميقة خلال العقود الأخيرة، بسبب الاستبداد والحروب والحصار ومن ثم سقوط النظام السابق والغزو والاحتلال وما أعقبه من فوضى وتفكك وخراب، عملت على تكوين مجتمع مغترب وثقافة مستلبة وشخصية منقسمة على ذاتها إلى واحدة متسلطة قامعة وأخرى نكوصية خاضعة.