حدود الحجاب والاختلاط بين الرجل والمرأة
عبد اللطيف بري..
ما هي أسس العلاقة الخارجية بين المرأة والرجل؟ وما هي شروط الاختلاط المحتشم؟ للإجابة نستعين بقوله تعالى:(قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون * وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن ولا يبدين زينتهن…) النور/ 30 ـ 31.
هذه الكلمات العالية الناهية تستبطن إشارات وإيحاءات عديدة، من هذه الإشارات والإيحاءات أن (من) في قوله تعالى: (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم) قيل هي للتبعيض أي أن يغضوا بعضاً من أبصارهم، أي أن غض البصر ليس مطلوباً بالشكل الكامل أو بشكل مطلق، فهو أحياناً يكون مطلوباً وأحياناً يكون النظر حلالاً غير محظور، ون الغض هنا ليس كلياً، بل المقصود أن يغض بعض البصر أو في بعض الأحيان كحالات الريبة وخوف التحرش وثورة الرغبة الجنسية.
ثم إن غض البصر بين المرأة والرجل ليس مختصاً بأحدهما دون الآخر. كثيرون يقولون إن الدين يخنق المرأة، ويجعل كل الالتزامات عليها! أما الرجل فهو حر طليق لا يحمله الإسلام شيئاً. كلا! هؤلاء الذين يقولون هذا الكلام في كتب حديثة تصدر من دور نشر تعتبر نفسها متطورة ومتقدمة، يجهلون الإسلام ولا يعترفون بجهلهم .. إن الإسلام لم يحمل المرأة أعباء دون الرجل، إنما حمّلها مسؤوليات وحمّله مسؤوليات حفظاً للطرفين، ولتتوازن الحياة.
القرآن هنا أمر الرجل بغض البصر كما أمر المرأة.. والقرآن حينما يتعرض للمؤمن يتعرض للمؤمنة.. ويتكلم عن السارق والسارقة، والزاني والزانية، والسائحين والسائحات، والقانتين والقانتات، والصائمين والصائمات، والحافظين فروجهم والحافظات.
ويقدم القرآن أحكامه أحياناً بشكل شمولي كقوله تعالى: (وأقيموا الصلاة…)، (وآتوا الزكاة…)، (كتب عليكم الصيام…) إلا حينما يختص الحكم بالمرأة وحدها أو بالرجل وحده، فيتم التخصيص لأن هناك قضايا تتعلق بالرجل كرجل، وقضايا تتعلق بالمرأة كمرأة. مثلاً قضية الحمل والدورة الشهرية والنفاس تتعلق بالمرأة كمرأة، والإسلام في غير هذه الجوانب التي تتعلق بالمرأة كمرأة وبالرجل كرجل، يبني أحكامه على أساس متساو بين الجنسين. وفي هذه الآية التي نحن بصددها: (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم) يقول تعالى كلك: (وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن) فهذه الآية الكريمة ألزمت المرأة وألزمت الرجل وأشارت ضمناً إلى صحة الاختلاط بشروطه.
لأن الغض إنما يجب حين تكون المرأة مختلطة في حياة الرجال ويكون الرجل مختلطاً في حياة النساء، وإلا فما معنى الأمر بغض النظر إذا لم يجز الاختلاط المحتشم بين الرجال والنساء في حياتهم الاجتماعية الإسلامية؟
وهنا يثور سؤال: هل إن الأصل في الأحكام الشرعية بالنسبة إلى المرأة أن تكون في بيتها، ويكون الخروج من البيت استثناء وحالة ضرورية (أم إن الأصل أن تكون المرأة خارج البيت، وأن التزامها بالبيت حالة استثنائية)
بعضهم يقول إن الأصل أن تكون المرأة رهينة البيت، ومشاركتها في أنشطة الحياة في الخارج استثناء، وينسون هذه الآية التي تشير إلى الغض، مما يوحي باختلاط الحياة الاجتماعية بين الجنسين، كما ينسون الدور السياسي للمرأة في حياة الإسلام، وكيف أشار القرآن إلى مبايعة المرأة لرسول الله (ص) ودورها في عملية المبايعة ودعم الإسلام بوقوفها إلى جانب المسلمين، كما إنهم ينسون مشاركتها في صلوات الجمعة والجماعة والأعياد وما إلى ذلك، ويقولون إن خروج المرأة فرع وجزء، والتزامها في البيت هو الأصل، وآخرون يقولون كلا إن خروج المرأة هو الأصل، أما التزام البيت ففرع وجزء، ويستدلون بما ذكرناه.
الأولون يستدلون بآية الحجاب: (… وإذا سألتموهن متعاً فسألوهن من وراء حجاب…) الأحزاب/ 53، وبالخبر بأن صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها خارج البيت، إلى ما هنالك..
ونحن إذا تفحصنا النصوص نكتشف أنه لا يوجد هناك أصل شامل منصوص عليه في هذا الاتجاه أو ذاك الاتجاه.. هناك تشريعات عديدة في كل الاتجاهات حول المرأة، ما عدا الأصل الأولي العام وهو أصل البراءة الشرعية أو العقلية، أي الإباحة في كل شيء ما لم يرد فيه نص خاص أو عام، لذلك نقول: إن الإسلام جعل لكل حالة حكماً خاصاً بها، فلا نستطيع أن نقول إن الأصل هو الاختلاط أو عدم الاختلاط، لأن هناك اختلاطاً شرعياً واختلاطاً غير شرعي .. هناك اختلاط محتشم وهذا جائز شرعاً.. وهناك اختلاط غير محتشم وهذا حرام.
أجل في الحالات غير المنصوص عليها أو المشكوك فيها لابد من الرجوع إلى نصوص الإباحة الأساسية.. ولكن ما هي شروط الاختلاط المحتشم؟
من هذه الشروط: الحجاب. إذا أرادت المرأة أن تخرج إلى المجتمع، وتختلط في المجتمع، عليها أن تكون محجبة. فالحجاب هو أحد شروط الاختلاط المحتشم.
ما هي حدود الحجاب؟ بعضهم يتساءل كم يمكن أن يكون الفستان عالياً؟ هل يجب أن يجر الفستان أذياله على الأرض حتى يكون شرعياً؟ أو هل يجوز أن يعلو الفستان قليلاً عن القدمين، وهل يكفي أن تلبس المرأة هذه الثياب وتخرج إلى الخارج، أو أنه يجب عليها أن تلبس العباءة.
الآية القرآنية تقول: (… وليضربن بخمرهن على جيوبهن…) النور/ 31. هذه آية الخمار. والخمار هو ما تغطي به المرأة رأسها.. وهذا الخمار يشترط فيه إسلامياً أن يتدلى فيغطي فتحة الصدر والعنق، وهو المقصود بكلمة (جيوبهن) فلا يجوز أن تبقى فتحة الصدر ظاهرة عند المرأة..
الآية الأخرى: (يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن…) الأحزاب/ 59. الجلباب هو ثوب واسع فضفاض يغطي جسمها فوق ثيابها التحتية.. أما إذا لبست بنطالاً وخرجت بحجة أنه يغطي الجسم! فهو ليس شرعياً، وكذلك إذا لبست ثياباً ضيقة وخرجت وإن كانت محجبة، وحتى لو غطت كامل جسدها ما دام الغطاء ضيقاً يفصل مفاتنها فهو لا يكفي شرعاً.
يجب أن تكون الثياب واسعة على جسدها فلا تظهر تقاطيع جسدها، ولا تظهر مفاتن جسدها، وكذلك لو لبست ثياباً شفافة أو جلباباً شفافاً يكشف شبح جسدها، فلا يكفي شرعاً.. بل يجب أن تكون العباءة غير شفافة، والثوب الخارجي كالجلباب واسعاً، حينئذ إذا توفرت هذه الشروط في ثيابها فهي محجبة، ولا يوجد زي إسلامي معين، وإنما توجد شروط وأوصاف لحجاب المرأة سواء كان الفستان عالياً قليلاً أو كان يجرجر أذياله، المهم أن لا يخلق فتنة وإثارة أثناء المشي (… ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن…) النور/ 31.
ما دام أن المرأة تلبس لباساً محتشماً وتجعل ثيابها الخارجية فضفاضة، ولا يبدو من جسدها إلا اليد والوجه، فهي تطبق شروط الحجاب الشرعي .. وأما في الوجه واليد، فقد اختلف الفقهاء. منهم مَن قال بالجواز، ومنهم مَن احتاط وجوباً، وغير ذلك.. ولكنهم اتفقوا أنه إذا شكلا حرجاً للمرأة نظراً لحاجتها الماسة الاضطرارية إلى التعامل مع المجتمع ومع الناس، فيجوز لها أن تكشف عن وجهها وعن يديها. فالحجاب إذن هو أول شروط الاختلاط المحتشم.
وقد يثور سؤال: لماذا أمر الله بالحجاب أساساً؟ الواقع إن قضية الحجاب ليست مختصة بالإسلام. بل إن ظاهرة الحجاب قديمة في كل الأديان، وليست من مختصات الإسلام، إنما الإسلام حدد لها شروطاً دقيقة، لأن الإسلام دين العالمين جميعاً، دين الأمم ودين الإنسانية.. فلابد أن يدخل في التفاصيل.
لماذا كان الحجاب؟ بعض الناس يحجبون نساءهم لأنهم لا يريدون أن تشترك نساؤهم في الحياة الاجتماعية قط، ولا أن يكون لهن دور في المجتمع قط. هذا ليس هو المقصود بالحجاب أساساً. الإسلام لم يطلب الحجاب للمرأة من أجل أن يعزز إثرة الرجل وأنانيته لإبقاء المرأة على حالها وتخلفها. كلا! بعضهم يقول إن الحجاب فرض من أجل إغراء المرأة للرجل! أما حينما تكون سافرة متبرجة غير محجبة فإنها تصبح عادية على مرّ الأيام.. ليس هذا هو السبب بحسب فهمنا للإسلام.
إن الحجاب بالنسبة للمرأة أدب إسلامي واحترام للذات، وكمال في مظهر المرأة أمام الرجل، وحماية وصيانة لها.. وقد وصف الله تعالى الحور العين، فقال: (وحور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون) الواقعة/ 22 – 23. إشارة إلى أن اللؤلؤ والشيء النفيس الغالي يكنُّ ويحجب ويصان، إشارة إلى نفاسته وأهميته وقيمته العظيمة، تماماً كقوله تعالى: (إنه لقرآن كريم * في كتب مكنون) الواقعة/ 77 – 78. وهذا يدل على نفاسة المرأة وقيمتها العظيمة في الإسلام، فهي كاللؤلؤ المكنون والكتاب الكريم!! وليست رخيصة ومبتذلة!
أجل فرض الإسلام الحجاب على المرأة ربما لسرعة انغواء الرجل بها والاعتداء عليها دون سرعة انغوائها به! كما أن الحجاب يتناسب مع طبيعة دور المرأة في الأسرة أكثر من دورها في الخارج. فدور المرأة في الحياة لصيق في الأسرة أكثر منه خارجها، نظراً لتربية الأطفال، ونظراً لما يعتري المرأة من حالات الحمل والدورة الشهرية والنفاس والإرضاع والتربية.. كل هذا يجعل مسؤولية العمل في الخارج على الرجل، ومسؤولية التربية في الداخل على المرأة.. حينئذ كان الحجاب يتناسب مع دور المرأة، ولا يتناسب مع دور الرجل الذي يجب عليه أن يخرج إلى الخارج، فيخوض غمار الحياة ويدخل لججها من أجل لقمة العيش! لذا فهو يحتاج إلى مساحة أكبر من حرية المناورة. وحينئذ يناسب الحجاب المرأة ولا يناسب الرجل وقد يكون في هذا تأييد للرأي الذي يقول بأن الأصل مكوث المرأة في بيتها، وقد قال تعالى لنساء النبي (ص): (وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى) الأحزاب/ 33.
في قبيلة الطوارق في أفريقيا في المغرب أو الجزائر الرجال يتحجبون والنساء يتبرجن عكس الطبيعة العملية للحياة.. وهذا غير منطقي. إن حجاب المرأة في الإسلام يحجب أنوثتها لا إنسانيتها، ويمنع غرائز الرجل أن تتفجر، وهو القوي جسدياً وهي الضعيفة جسدياً أمامه، فلا يغتصبها أو يعتدي عليها، أو يختطفها ويفترسها. قال تعالى في فلسفة الحجاب والحشمة: (ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين) أي أن الحجاب يحفظ المرأة من الأذى.
وفلسفة الحجاب في فهمنا هي أن الإسلام لا يريد أن تتفجر حالة طوارئ بين الرجل والمرأة، لأن الرجل والمرأة كلاهما يعيش حالة انجذاب نحو الآخر في صميم الطبيعة، وإن بنسب مختلفة، وحالة الطوارئ تشكل خطراً على الحياة الاجتماعية والأمن والسلامة والاحترام والاستقرار وصيانة حرية الآخرين، ولا سيما النساء.. وقد واجه الإسلام كل تلك المخاطر بالحجاب، وغض النظر، ومنع المصافحة، ومنع الخلوة المريبة بين الجنسين.. إلى ما هنالك من أحكام شرعية. فأول شروط الاختلاط المحتشم هو الحجاب.
وثاني الشروط للاختلاط المحتشم: غض النظر والبصر المتبادل بين المرأة والرجل عند الريبة وثورة الشهوة وهذا الحكم ظاهرة حضارية في التهذيب واللياقة، وليس ظاهرة متخلفة كما يقولون، فالرجل الذي يحدق في المرأة شزراً عمداً تتضايق منه المرأة والناس.. ويعتبر إنساناً غير مهذب.. والمرأة التي تحدق في الرجل شزراً تخالف أصول التهذيب بين الناس، ولا يشكل موقفها ظاهرة حضارية. في المجتمعات المتمدنة يغض الرجل والمرأة بصرهما، أو لا يحدق أحدهما في الآخر عادة ولا يراقبه. والإسلام كرّمنا بهذه الظاهرة المتحضرة قبل أكثر من ألف سنة.
وثالث شروط الاختلاط المحتشم: عدم ضرب الأرجل، خصوصاً مع الكعب العالي عندما تمشي المرأة. إذا سارت المرأة فلا تضرب برجلها فترن خلاخيلها. طبعاً الآن لا يوجد خلاخيل، لكن توجد ثياب خاصة، وكعب عال، فإذا ضربت المرأة برجلها يرن الكعب العالي، وترن له شغاف قلب الرجل!. فتلفت نظره! عليها أن تمشي بطريقة محتشمة ولائقة باحترام للذات وحياء كريم..
ومن شروط الاختلاط المحتشم أيضاً: عدم الاختلاء بين الرجل والمرأة إذا كان الاختلاء مريباً وغير مأمون.
ومن شروط الاختلاط المحتشم أيضاً: أن لا تضع المرأة خارج البيت عطوراً خاصة لتثير شهوة الرجال وأحمر الشفاه، فكل ذلك من المحرمات، أو مما يخالف فلسفة الإسلام في مظهر المرأة حينما تخرج إلى المجتمع. طبعاً إن هذه الوصايا للنساء لا للرجال، لأن الرجل عادة لا يضع أحمر الشفاه والأصباغ على وجهه. نعم، إذا تشبه بعض الرجال بالنساء، وبعض النساء بالرجال، فتخنث الرجل وترجلت المرأة، أو لبس الرجل ثياب المرأة، أو لبست المرأة ثياب الرجل، فإن ذلك يخالف المظهر الإسلامي.
هذه هي الشروط، فإذا دققنا فيها نكتشف من الإسلام وضع قاعدة عامة للعلاقة بين الرجل والمرأة في الخارج، هذه القاعدة هي حرمة الاختلاط غير المحتشم، وجواز الاختلاط المحتشم، بالإضافة إلى الكلام والتصرف المهذب البعيد عن الفحش والكلمات العارية.