المؤلف: ولتر ستيس، الفيلسوف الأمريكي (1886-1967) اصدر عدة مؤلفات في الفلسفة والتصوف ترجمت أغلبها إلى العربية ، أكثرها شهرة بين قراء العربية “الزمان والأزل :مقال في فلسفة الدين ” الذي أصدره عام 1952وترجمه إلى العربية الدكتور زكريا إبراهيم 1967 المترجم :أ.د إمام عبد الفتاح إمام وهو مترجم قدير خاصة في مجال الفلسفة والميثلوجيا الدينية فضلًا عن كونه مفكرًا غزير الإنتاج والتأليف .
يقع الكتاب على ثلاثة أجزاء ، وكل جزء من عدة فصول غير متساوية ، يحمل الجزء الأول عنوانًا عامًّا هو صورة العالم في العصر الوسيط ، يعرض فيه المؤلف تصورات إنسان العصور الوسطى عن العالم ، وهو مقسم على ثلاثة فصول ، وقد التمس المؤلف في الفصل الأول جملة التصورات الدينية التي تشكل العقل الغربي في العصور الوسطى، وهي برمتها ما تحمله الإصحاحات، بسيطرة النظرية التي تقول بمركزية الأرض في الكون وأن تاريخ الخلق لا يتعدى الخمسة آلاف سنة وستكون نهايته بعد أقل من ألفي عام، وهنالك خطة إلهية تحكمها أهداف في ذهن الخالق ويمكن لبني البشر أن يدركوا كنه بعضها ، فقد ذكر لهم الكتاب المقدس أن ظهور قوس قزح مثلا ، هو إنما يذكر الإنسان بوعد ربه الذي تعهد لهم بعدم إغراق الأرض بالطوفان مرة أخرى ، فعلى الإنسان أن يدرك غرضية الكون وأن كل شيء في هذا الكون الفسيح له غرض . وفي الفصلين الثاني والثالث يدرس المؤلف ثلاث أفكار يطلق عليها صفة رئيسية ، هي الله ، غرضية العالم ، النظام الأخلاقي (ص30) ، وبالقدر الذي يتعلق في مفهوم كلمة “الله ” يتساءل عن معناها الموروث منذ القدم حيث يعتقد الناس إن عقل الإله أشبه بعقل البشر، وتظهر الفكرة الأولى في معرفة نوع الوجود الإلهي الذي نؤمن به، والتمييز بين اعتقاد البسطاء واعتقاد الصوفية وماذا يعني لنا إن الله عقلًا وروحًا .
وهناك تفسيران للظاهرة الطبيعية ، التفسير الغائي الذي يبين الغاية أو الغرض ،والتفسير الآلي الذي يقدم لنا السبب وليس الغاية ، والتمييز بين التفسيرين على جانب كبير من الأهمية لفهم تاريخ الإنسانية ، فهما اللذان يحددان نقطة التقاطع بين العقل في العصر الوسيط والعصر الحديث، حيث سيطر الدين على العقل في العصر الوسيط وكانت السيطرة للعقل في العصر الحديث، وكان الدين قد ارتبط بالتفسير الغائي في حين أن العلم قد ارتبط بالتفسير الآلي . ويستدرك المؤلف قائلًا : كان الإيمان بالغرضية قديمًا ويضرب في الماضي الإنساني السحيق وليس إنتاجًا مسيحيًّا .
ويطرح المؤلف في الفصل الثالث موضوع العالم بوصفه نظامًا أخلاقيًّا ، فيقسم الأخلاق إلى : 1. موضوعية : تكون فيها القيم غير خارج رغبات البشر ومشاعرهم وآرائهم، وأن العلم قد غيرها . 2. ذاتية :وترجع إلى الذوق ،وحيادية القيم .
وفي الجزء الثاني من الكتاب يعرض ستيس صورة العالم في العصر الحديث ،فهو يراه مستعرًا بالصراع بين العلم والدين ، والإنسان حائر بين معتقداته التي تمنحه الاستقرار وبين المكتشفات العلمية التي تزلزل تلك القناعات، فقد ظهرت المكتشفات العلمية في القرن السابع عشر، فكان القرن الثامن عشر هو قرن الشك الديني ومولد العقل الحديث ، ثم أصبح القرن التاسع عشر هو قرن الأديان، وذلك لهيمنة الفكر الرومانسي عليه ، ويتحدث المؤلف عن التغيرات التي أحدثها العلم في العقل الحديث ، فبعد اختراع التلسكوب ورؤية النجوم التي أثبت أنها مثل الأرض ،وأنها تتكون من مواد خشنة ، وليست مادة أثيرية لقربها من الإله كما كانوا يزعمون ، وبعد أن استمع العالم إلى قول نيوتن بأن الكون آلة محكمة الهندسة ومهندسها هو الله ، جاء “لابلاس” الذي يروى أن نابليون قال له ” انا اعرف يا مسيو لابلاس انك الفت كتابا عظيما عن نظام الكون لكنك لم تذكر الخالق ” فرد لابلاس قائلا “لست بحاجة إلى هذا الفرض ” وأصبح من الجلي أن نزعة شكية كبيرة قد أعقبت نشأة العلم تلك ، فكان ملك انكلترا في القرن الثامن عشر يشكو من ان نصف الأساقفة ملاحدة !!
وفي الفصل السادس يتساءل المؤلف : كيف يمكن للمكتشفات العلمية أن يكون لها علاقة مباشرة بالمشكلة الأخلاقية ؟
فيلجأ للقول إن الأخلاق هي مسألة بشرية تضرب بجذورها في الطبيعة البشرية وان حرية الإرادة ضرورية للاعتقاد بالمسؤولية الأخلاقية .ولا توجد رابطة منطقية بين المكتشفات العلمية والأخلاق وأن تكون المفاهيم العلمية الجديدة أثبتت إن العالم ليس نظامًا أخلاقيًّا وإنما هو نظام طبيعي تحكمه قوانين وليس أغراضًا.
ويطرح المؤلف في الفصل السابع تأثيرات المكتشفات العلمية على الفكر الفلسفي ،مشيرًا إلى أن الفلاسفة شكلوا جبهتين ، واحتدم الصراع بين المؤيدين والمحتجين لصالح الثورة العلمية ،مستعرضًا الكثير من الآراء والمواقف لعدد من الفلاسفة، والتي تتضمن احتجاجاتهم وردود أفعالهم لوقف مد المذهب الطبيعي ، معلنًا أن وظيفة العلم هي التنبؤ بالظواهر، وبالتالي تمكننا قدر الإمكان من السيطرة على المستقبل لصالحنا، وإن رفض البشر أن يقبلوا الحقيقة التي لا يرغبون فيها وفضلوا الإيمان بأحلام وأوهام مريحة ، وصفوة القول في ذلك إن “الرومانسية في الفن والمثالية في الفلسفة ولدتا من حركة واحدة للروح البشرية فهما معا يشكلان هجوما مضادا غير ناجح ضد النظرة العلمية للعالم ” ص271
وجاء الجزء الثالث بعنوان مشكلاتنا الراهنة ، وهو على فصلين العاشر والحادي عشر ،سوق فيهما المؤلف فحوى المشكلة الأساسية متسائلا بالقول : هل إن الدين حق أم هو مجموعة من الأفكار الباطلة والخرافات التي مصدرها النهائي لا يعدو أن يكون التفكير بالتمني ليس إلاّ ؟ لكنه يقف باهتمام أمام التجربة الصوفية واحتمال كونها حقيقية و صادقة ، والتي يراها أشبه بالحلم، وهي تجربة موضوعية تتضمن شيئًا حقيقيًّا هو الله وهو خالق الكون ، ولكن قد يقف المرء بالسلب من السلوكيات الدينية جمعاء ، وقد يطلق على نفسه “لا أدري” أو ملحدًا ولكن لا يمكن أن يكون لا ديني حتى لو اعترف بذلك ، ويبقى الدين الذي يؤمن به في صورة مشاعر دينية واضحة، ولا بد لكل إنسان أن يشق بنفسه طريقه الخاص وليس من حق أولئك الذين وجدوا طريقهم الخاص ، إدانة أولئك الذين عثروا على طريق آخر ، ويبدو أنها دعوة من المؤلف للتسامح الديني .
ويختتم ستيس كتابه بالفصل الحادي عشر والذي جعل عنوانه “”مشكلة الأخلاق” واصفًا الأخلاق بأنها تتعلق بما ينبغي أو لا ينبغي القيام به، وهنا لا بد من وجود إرادة حرة عند الناس، ويعتقد أن” بروجسون” على حق عندما ذهب إلى أن للأخلاق مصدرين هما الضغط الاجتماعي والدين، ثم يعود للقول :”إن العالم من منظور الزمان ليس نظامًا أخلاقيًّا ،لكنه نظام أخلاقي من منظور الأزل” ص371
ويشير المؤلف إلى أن التفكير في العالم الحديث قد سار في ثلاث خطوات: الخطوة الأولى قبول وجهة النظر الطبيعية عن العالم، والخطوة الثانية أنه يستنتج الذاتية من المذهب الطبيعي والخطوة الثالثة عندما استنتج النسبية من الذاتية .
وفي خاتمة الكتاب يذهب ولتر ستيس إلى القول بصحة كون المثل الأخلاقية العليا مجرد وسائل لتحقيق المتعة والسعادة، وهذا ما يمكن تبريره من الناحية الطبيعية، ولكن عندما يكون الأمر من أجل حياة لا تكون مجرد حياة حيوانية بدون غرض، تبذلها قطعة من الطين الحي بل هي تدفق من النور الإلهي الذي يفيض في ظلمة هذه الحياة .
فإن كتاب والتر ستيس ، الدين والعقل الحديث يشكل جهد فكري مفيد لأنه يتناول أخطر علاقة كونية في مسيرة الإنسان الفكرية للبحث عن خالقه وسر الخليقة ، إلا أنه يمكن إدراج جملة من الملاحظات لعل أبرزها :
1. يشكل هذا المنجز امتداد لكتابه “الزمان والأزل” وتجمعهما محاولة التوفيق بين النظرة العلمية والفلسفة المثالية، المعبر عنها بالديانات ، و أراد القول أن لا تعارض بين النظريتين، وهما مكملتان لبعضهما، ولا خلل أن يؤمن الناس بالدين والعلم معًا، بطرحه موضوعة التسامح الديني على أنها إحدى الحلول التي تدرأ الصراع بين الدين والعلم .
2. لم يتعرض المؤلف إلى المواقف المتشددة للحركات الدينية الأصولية وبالتالي مناقشة ما يسمى بالتدين السياسي .
3. أهمل المؤلف تجربة التصوف الإسلامي وهي الغنية بما يفيد البحث .
وبقدر تعلق الأمر بالدين والعقل الحديث، فقد عرض المؤلف أفكارًا جديدة تستدعي التأمل بمشكلة الإنسان الأزلية وحيرته في سر الوجود.