الثقافة من دون مشاريع ثقافية مخطَّط لها بعناية وتركيز، فكرا وتطبيقا، تبقى بلا حول ولا قوة، اسمها موجود نتداوله بألسنتنا، وفعلها غائب، نشعر بغيابها ونراه بأعيننا!، لذلك لا دور للثقافة من دون مشاريع يضعها أهل الثقافة ومن يعنيهم أمرها، وهم الذين يشرفون على تنفيذها، ولكن غالبا ما ترافق ذلك إشكاليات ذاتية، بين مرحلتي التخطيط والتطبيق، هذه الإشكاليات ستكون سببًا في تعويق المشاريع الثقافية، إن لم ينتهِ الأمر بتدميرها كليّا. فما هي أسباب العقبات التي تقف بوجه الثقافة، وما نوع ودرجة تأثير تلك الإشكاليات، ولماذا تنتهي المشاريع الثقافية للفشل أو العدم، ومن ثم انعدام تأثيرها في حياتنا التي هي أحوج ما تكون إلى الحضور الثقافي، والتفعيل الفكري الاستثنائي الذي يستنهض طاقات الناس، ويزج بهم في مساحات السمو وانفتاح الوعي، ومن ثم الوصول إلى مرتبة من العيش، تتسق مع ما يحدث في العالم من تطورات هائلة ومستجدات على مدار الساعة. المعوقات قد تتنوع وتتعدد بتنوع وتعدد الإشكاليات الذاتية، والأخيرة غالبًا ما يكون مصدرها فريق العمل المشرف والمخطط للمشروع الثقافي بصورة فردية أو جماعية، فالنفس البشرية كما هو مثبت مجبولة على التنافس وتمجيد الذات وتضخيمها، وانتهاز الفرص لعرض كينونتها على أنها الأفضل والأكثر إبداعًا وانجازًا من سواها، قد يصح هذا الوضع وهذا التوصيف النفسي والعملي على جميع مجالات الحياة العملية، أو تلك التي تتيح مجالا للتنافس من أجل التفوق في تحقيق الذات، ولكن فيما يتعلق بالثقافة ومجالاتها المتعددة، لابد أن يكون الإنسان هنا في مأمن من إشكاليات الذات، ولا نعني هنا التنافس المسموح به، بل نعني الصراعات التي قد تتسبب بها الطموحات الشخصية المبالَغ بها. من هنا ليس أمام المثقف طريق آخر سوى تجاوز الإشكاليات الذاتية وترويضها، ومن ثم جعلها سببًا يدفع المثقف نحو الانجاز الأفضل من خلال المشاركة الفعالة في انجاز المشاريع الثقافية، ليس من أجل تلميع الذات وتضخيمها، بل من أجل الإسهام في تطوير مجتمع واعٍ مثقف، يرفض الصراعات ويحترم التنافس الحر، ويحث نفسه على الانتقال من مرتبة أدنى إلى أعلى دائما، وهذا يتطلب إجراءات فعلية كثيرة أهمها: – أن يتحلى المثقف بملَكة الإيثار، ويتمكن من نفسه بدلا من حدوث العكس. – المشروع الثقافي القائم على العمل الجماعي لا يحتمل الصراع قط. – أولوية الإنجاز الجماعي تفوق بأهميتها الذات الفردية في جميع الأحوال. – عندما يكون المثقف قادرًا على التنافس الحر ستكون النتائج مضمونة لصالح الثقافة والمثقفين معًا. – دحض الصراع، وتقديم التنافس كسلوك ذي أرضية فكرية ثابتة، سينتقل بلا أدنى ريب إلى القاعدة المجتمعية الأوسع، وهو ما يحقق تطورًا ملموسًا في نظرة الناس لما هو أكثر بعدًا وفائدة، وهذا ما يقود إلى تحقيق قفزة في التفكير والسلوك المجتمعي. – أن لا تتفوق الذات الفردية على الذات الجمعية، وهذا يقع على عاتق المثقف قبل غيره. – وعندما يتم تحييد إشكاليات الذات المثقفة، ودفعها نحو التنافس الحر، لن يكون هناك خوف على المشاريع الثقافية، لأن الصراع سينتفي بكل أشكاله. وأخيرًا، سوف يفهم ويعي المثقفون تلك الفائدة الكبرى من العمل الجماعي القائم على الانجاز الثقافي الأفضل، وهو في جميع الأحوال يشكل بديلا أرقى من الصراع المعَدّ لإثبات الذات الفردية على حساب الذات الجمعية المثقفة.