كيف أصبح الـ(أبوذية) شاقول الشعر الشعبي؟

306
10-2-2013-02

في واحدة من الأمسيات الدينية التي تتصف بعمومية الحضور من حيث السن والثقافة والتحصيل العلمي وتكون الأجواء الروحانية هي المسيطرة على مثل هذه المجالس التي يحضرها الصغير والكبير من كل طبقات المجتمع، فقيرهم وغنيهم جاهلهم ومتعلمهم، أحبَّ أحد شعراء الشعر الشعبي من الذين يرتادون النوادي الدينية والأدبية في لندن اختبار قدرة الحاضرين على فهم الكلمات الدارجة من خلال قطعة من شعر الأبوذية التي تتسم بوجود الجناس في ثلاثة أشطر من الأربعة التي يتكون منها بيت الأبوذية، والجناس هو عبارة عن توافق الكلمات رسماً وافتراقها معنىً من قبيل جَنَّة وجِنَّة وجُنَّة، فالأولى من الجنان والفردوس والثانية في مقابل الإنس وهم الجن والثالثة الوقاية والستر، فالكلمات الثلاث من حيث الرسم والكتابة واحدة وتختلف في المعنى، وهذا هو الجناس. وفي سبيل ترغيب الحاضرين على التفاعل مع فقرته داخل الأمسية قدّم ألف جنيه استرليني (1570 دولارًا) للإجابة، وكان الشاعر الشعبي واثقاً من انعدام الإجابة، لأن بيت الأبوذية الذي أتى فيه من الجناس ما يصعب فك رموز معانيها، ربما نظر إلى الصبية والناشئين الذين اصطفوا أمامه ومعظمهم من ولادات خارج العراق حيث يصعب على عدد غير قليل منهم فهم الكلمات العربية الفصحى فما بالك بالدارجة.

في الواقع لم يغرني الألف جنيه لأنني على دراية بأن بنساً واحداً منها لن يدخل جيبي فالرهان في مثل هذه الحالة بعيد عن الحلِّية، كما كنت أدرك أنه غير جاد في الدفع، فكيف له أن يحرّك مصارين جيبه وهو يعيش على الضمان الاجتماعي ومساعدة الدولة (!)، فتركت الآخرين يجيبون ولما عجزوا أعلن انتصاره، فقلت له وهل أنت على استعداد لدفع الألف جنيه ؟، فأفصح عن ابتسامة عريضة فيها معالم القبول مع الثقة التامة بانعدام المجيب، فشرحت له معاني الجناس في الكلمات الثلاث من الأبوذية التي أنشأها، فأُسقط في يديه وحتى لا يصاب بالدوار قلت له لا تقلق والألف جنيه لك مني هدية، فراح يسأل بعد أن بلع ريقه عن كيفية معرفتي بهذا الجناس، فقلت له وبصراحة الواثق من جهله بالكثير من الكلمات والمصطلحات الشعبية، إنَّ قراءتي الأدبية لعشرة أجزاء من شعر الأبوذية ضمن أجزاء دائرة المعارف الحسينية فتحت لي بعض الآفاق في كيفية تقطيع الجناس وفهم أصل الكلمة ورسمها حتى يتسنى لي فهم الكلمة وتمييزها عن الكلمتين الأخريتين.

تذكرت هذه الحادثة الأدبية وأنا بصدد قراءة كتاب “الأبوذية بين التأصيل والتفعيل” من إعداد المستشار القانوني والشاعر العراقي الأستاذ فؤاد الشيخ علي العبادي الحياوي، الصادر نهاية العام 2012م (1433هـ) عن بيت العلم للنابهين في بيروت في 120 صفحة من القطع المتوسط، والذي يمثل بدوره قراءة وإعدادًا لمقدمة الجزء الأول من ديوان الأبوذية للدكتور الشيخ محمد صادق الكرباسي الصادر عام 2007م عن المركز الحسيني للدراسات بلندن في 564 صفحة من القطع الوزيري.

السهل الممتنع

واللغة الدارجة المستعملة في شعر الأبوذية كما في الألوان الشعرية الأخرى لا تختلف من حيث كثرة الاشتقاقات وتعدد المعاني عن اللغة الفصحى، فهي كثيرة ومتشعبة، ولذلك ليس من السهل معرفة المعنى إن لم يكن المرء محيطًا بها على خلاف اللغة الفصحى التي يمكن فهمها بشكل عام ظاهريًّا ويُتاح الرجوع إلى معاجم اللغة للوقوف على الاشتقاقات والمعاني، فالمصري بإمكانه التعرف على كلمة عربية فصيحة ولكن يعجز عن إدراك معنى كلمة دارجة في جنوب العراق، والعكس صحيح أيضًا، وكذا الأمر بالنسبة للجزائري واللبناني واليمني وهلّم جرّا.

وهذه حقيقة معروفة ميدانيًّا ويؤكد عليها المعد الحاج فؤاد العبادي وهو في معرض الإشادة بالمؤلف الدكتور الكرباسي الذي استطاع في الأجزاء العشرة من ديوان الأبوذية الخاص بالنهضة الحسينية أن يستوعب معاني 3186 بيتًا من شعر الأبوذية أي (9558) كلمة جناس فضلًا عن معاني الكلمات الأخرى التي تخللت أبيات الأبوذية، وهي بالتأكيد أكثر من عشرة آلاف كلمة متوزعة في فهرس اللهجة وغيرها، ويستشهد الأديب العبادي بكلمة “طاح” وتعني بشكل عام وقع أو سقط ومثّل لها بأربعة عشر نموذجاً، فهي بمعنى: انهدم الجدار، ونضج الرطب، وفقد العقل، وفقد النصيب، وأُشبع ضرباً، وأبلى بلاءً حسناً، وبدأ تناول الطعام، وسقط من على ظهر جواده، وامتلأت الأنهر ماءً، وغرُبت الشمس، وأفَلت النجوم، وزال الصبغ، وانتشر الظلام، وهطل المطر.

إنَّ إدراك المعنى وبخاصة في جناس شعر الأبوذية ليس بالأمر الهين حتى على الذين يتحدثون باللغتين الفصحى والدارجة إن كانوا في العراق أو الجزائر أو المغرب أو الإمارات أو خوزستان في جنوب إيران الذين يتحدث أهلها العربية، من هنا يرى الكرباسي وهو يتحدث عن فن الجناس: (إن عملية الجناس في الأشطر الثلاثة فن بديع اتصفت به بعض الأوزان أو الألوان من الشعر الدارج ويستلزم ذلك في بعض الأحيان إضافة حرف أو إمالته أو إسقاطه وربما رُكِّبت كلمتان معاً ليؤدي مجموعمها الجناس المطلوب، ولذلك يُعد حل هذا الجناس من اللغز الذي يُمتحن به في الندوات الأدبية ويتفاخر الشاعر بإنشائه أيضًا، وكلما كان الحل أصعب أُشيد بمهارة الشاعر أكثر)، فالكلمات تبدو من النظرة الأولى سهلة طيعة ولكنها في واقع الحال عصية على الفهم إلا لمن مارسها كتابة أو قراءة أو من خلال التخاطب اليومي، فهي من السهل الممتنع، بل ربما كانت من الصعب المستصعب، ولهذا تُختبر قوة الشاعر الشعبي على النظم وتمكنه من الشعر الدارج بمدى قدرته على نظم الأبوذية، فهو عند كثير من الشعراء والناقدين شاقول الشعر الشعبي يُعرف به حسن النظم من رديئه، من هنا فإنَّ الشاعر العبادي عندما وقف على الأجزاء العشرة وما حوتها من أبيات عبّر عن استغرابه للكم الهائل من الأبوذية قائلًا: (إن الأمر فاق تصوري، ووجدت نفسي أمام موسوعة عن الأبوذية، والأكثر من ذلك أن هناك عشرة أجزاء فقط في الإمام الحسين(ع)، وهذا ما لم أكن أتصوره في يوم من الأيام، إذ كان عهدي بالأبوذية أنه شعر محلّي، تستهويه قلة من العراقيين وبعض عرب الجنوب في إيران، وهو من الصعوبة بمكان أن الكثير منهم لا ينظمه أو من لا يمكنه حتى فهمه، لما يحمله من الجناس، الذي يحتاج إلى فكِّ معانيه، حيث يحصل فيه من التحريف والدمج اللذين ليس بالسهل على كل أحد تأصيله ليرجع إلى جذوره ويفهم منها المعنى المراد).


ومن ذلك أبوذية عميد الشعر الحسيني الدارج الحاج جابر بن جليل البديري الكاظمي المولود في مدينة الكاظمية سنة 1374هـ، وهو يخاطب الحبيب:


حبيبي إنْشِعَب گَلْبي إعْلَيكْ شَعْبانْ
جَبينَكْ مِثِلْ ضَيْ الْگُمَر شَعْبانْ

 كِتَلْني الْعِطَشْ وِاحْنَه بْشَهَرْ شَعْبانْ

 شَهَرْنَه الْيِجي اشْراحِ يْصيرْ بِيَّه


فالجناس وقع في شعبان، فالأولى: أي شُعبتان تثنية الشعبة من تشعب، والثاني: من شعَّ وبانَ، والثالثة: شهر شعبان، فالشاعر يخاطب الحبيب ولسان حاله: إنَّ قلبي لرؤيتك انشعب وانقسم قسمين، وجبينك شعَّ وبان وأضيئت صفحته، والعطش لرضاب حبك قتلني رغم أننا في شهر شعبان، وماذا سيحلُّ بي عندما يأتي الشهر القادم وهو شهر رمضان شهر الصوم!


المولدة والمطلقة


ولأنَّ شعر الأبوذية ذو حبكة وتعقيد في تنظيم جناسه، والبيت ذو الأشطر الأربعة بمجموعها تشكل قصة قصيرة فيها بداية ونهاية، فإن الناظمين لها على نوعين: أحدهما ينظمه من وحي ذاته دون أن يتأثر ببيت من الأبوذية أو من نص شعري أو نثري، ويُطلق على مثل هذه الأبوذية بالمطلقة في قبال الأبوذية المولدة، والثانية تشبه إلى حد كبير الاقتباس والتضمين في الشعر القريض، وحسبما يقول الكرباسي: (المطلقة تعني أن الشاعر نظمها من وحي خياله دون أن يلجأ إلى شعر غيره، والمولدة وهي التي تنظم من وحي خيال شاعر آخر من خلال مجاراة بيت شعري وغالباً ما يكون هذا البيت من الشعر القريض ولا اختصاص لهما بالأبوذية)، وكلما قلل الناظم من الاقتباس والتضمين قرب من الأبوذية المطلقة حتى وإن كانت أبوذيته مولدة فإنها لا تقلل من شأنه كشاعر بخاصة إذا كان ينظم على ألوان مختلفة وأغراض متنوعة، ومثال الأبوذية المولدة، قول الشاعر العراقي خالد البارودي:

صُفَه گلْبي عَلَى الْمَحْبوبْ مِنْخالْ

 عِمَيتِ وْعَيْبْ افِرْزَنْ خالْ مِنْ خالْ

 تِحِبْ النّاسْ إلْبْوَجْناهْ مِنْ خالْ

 إشْلونْ آنه وْلَحِبْهَه الخالْ هِيَّه


فالجناس في “منخال”، فالأولى وتعني المُنخل المستعمل في نخل الطحين، والثانية بمعنى الخِل من الصديق أو الحبيب، والثالثة بمعنى الشامة أو الخال، والشاعر على ما يبدو اقتبس المعنى من قول الشاعر من البسيط:

الناس تعشق مَن خال بوجنته … فكيف بي وحبيبي كله خال


فالشاعر البارودي أو الذي يستنطقه وقع في حب فتاة سوداء، ففي الوقت الذي يروق للحبيب حب المحبوب أو صاحب الشامة (الخال)، فإن الفتاة التي وقع في حبها هي الخال بعينها، ويحمل البيت القريض والأبوذية معنى الكناية والدلالة دون أن يصرح الشاعر بأن حبيبته ذات بشرة سوداء، ولهذا لا غرو أن يصف الأديب العراقي علي بن عبد علي الخاقاني المتوفى سنة 1398هـ هذا اللون من الشعر بأنه: (أقرب الفنون إلى المشاعر والنفوس الرقيقة التي صهرها الحب المجهد، والعشق القاتل).


ومهما يطول الحديث عن الأبوذية المولدة والمطلقة، فإن هذا النمط من الشعر هو بحد ذاته من مولدات الشعر الدارج بشكل عام بحثه المؤلف الكرباسي في هذا الكتاب الذي يمثل مقدمة ديوان الأبوذية بشكل مفصل وانتهى به المقام إلى التأكيد بأن أرباب هذا الفن من الشعر الدارج هم: (أربعة شكّلوا هرم الأبوذية في العصر الأول لها حيث العبادي- حسين بن عبد الله آل مگن المتوفى نحو 1300هـ- في قمته وكل من الكربلائي- حسين بن علي المتوفى سنة 1328هـ-، والدويچي- زاير بن علي المتوفى سنة 1329هـ- في زاويتي قاعدته يتوسطهما الحلي- جعفر بن مهدي المتوفى سنة 1298هـ-، ويستحق كل من الكربلائي والدويچي أن يُطلق على كل منهما أمير الأبوذية أو عميدها حيث إنهما كانا من الدعامتين الأساسيتين لهذا النوع من الشعر الدارج، فالأول أبدع فيها وطورها، والثاني أكثر في الإنشاء عليها. ولاحتمال تقدم الكربلائي على صاحبه في الإنشاء ملازمته للعبادي بالإضافة إلى إبداعاته ربما استحق تلقيبه بأمير الأبوذية وتلقيب الدويچي بعميدها ويكون الحلي في قلب الهرم).

أما عن أقدم مَن وظَّف شعر الأبوذية في النهضة الحسينية، فإن الأديب والمؤرخ العراقي المولود سنة 1366هـ ثامر بن عبد الحسن العامري يرى أنَّ الشعراء الثلاثة عبد الأمير بن علي الفتلاوي المتوفى عام 1380هـ وعبود بن غفلة الشمرتي الخاقاني المتوفى عام 1356هـ وحسين الكربلائي المتوفى عام 1328هـ أول من نظموا الأبوذية الحسينية وبطريقة النعي. ويعتقد الكرباسي أن الثالث هو أقدمهم في ذلك يليه الثاني ثم الحاج زاير الدويچي في المرتبة الثالثة، وأخيرًا الفتلاوي.

ولا يخفى أن التفاصيل الدقيقة لبدايات شعر الأبوذية وتطوره ووزنه وألوانه وغيرها من العناوين المتعلقة بهذا النمط من الشعر الدارج استعرضتها بقراءة أدبية مستفيضة للجزء الأول من ديوان الأبوذية نشرت في وسائل الإعلام في 31/8/2007م تحت عنوان “حركة شعر الأبوذية بين عبودة وبوذا” وأُعيد طبعها في كتابنا “نزهة القلم .. قراءة نقدية في الموسوعة الحسينية” الصادر عام 2010م في 600 صفحة من القطع الوزيري عن بيت العلم للنابهين في بيروت، وبتعبير الأديب فؤاد العبادي: (وجدت في المقدمة الضافية التي أملاها صاحب الفضل والفضيلة آية الله الشيخ محمد صادق الكرباسي كمقدمة تمهيدية لكتابه القيِّم “ديوان الأبوذية” خير ما يمكن تقديمه لرواد الأدب الشعبي بل ولعموم الأدباء حيث لم يدع جانباً من جوانب البحث إلا وتطرق إليه بروح علمية وأكاديمية وبإيجاز غير مخلّ بالمقصود، مما جعله بحثاً غنيًّا لا يظمأ بعدها عشّاق هذا النوع من الأدب بل ومحبّو الأدب الشعبي كافة، لما امتاز به من التأصيل والتحليل وعمق التحقيق بما فيه الكفاية).


وحيث تعتبر دواوين الأشعار لكبار الشعراء الماضين والمجيدين من المعاصرين مدرسة لطلاب الأدب والشعر، فإن ديوان الأبوذية بدواوينه العشرة في باب الأدب الدارج تعتبر مدرسة، وكما يقول العبادي وهو يختم تقديمه لهذه المقدمة الوافية أن ديوان الأبوذية هو: (سِفر من الأسفار المعتبرة ومدرسة يدرس بها كل شاعر يريد أن يدرك أبعاد هذا الفن من فنون الأدب الشعبي).

المصدر: الرأي الآخر للدراسات- لندن

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

*