خياطة الأباريق والأواني والصحون مهنة نجفية أثرية عمرها 12 قرنًا

1٬215

19-5-2012-r1

تحقيق: حيدر حسين الجنابي

 خاص لـ((موقع الحكمة))

لم تكن مهنة تصليح الصحون والأباريق والأواني وخياطتها مهنة شعبية من التراث القريب كما صنّفها الكثير من المؤرخين والباحثين والصحفيين، فقد أثبتت التنقيبات الأثرية، أن خياطة (الفرفوري) مهنة أثرية تجاوزت أكثر من ألف  ومائتي عام .

الصحن المكسور دليل أثرية المهنة

ولعلَّ الصحنَ المكسورَ الذي عثر عليه في مدينة الكوفة المقدسة، والذي يعود إلى نهاية العصر الأموي وبداية العصر العباسي دليلٌ كبيرٌ على أثرية المهنة حيث تظهر عليه آثار الخياطة التي جرت عليه في حينه.

لقد ((انقرضت)) هذه المهنة التي عاشت منذ مئات السنين في محافظة النجف الأشرف، تاركةً خلفها ذكريات السنين .

 فالحياة البسيطة، والحرمان، وضعف الوضع المعيشي، وحرص الإنسان على الحفاظ على أوانيه وحاجياته المنزلية؛ كلها عوامل ساهمت في ازدهار مهنة  خِياطة ((الفرفوري)) التي كانت دكانًا متجولاً يتنقل بين الأزقة القديمة، ينشد  لهم فيها خيّاط الفرفوري بصوته الصدَّاح، ويصلح بأنامله  تلك الحاجيات، لعله يعيد إلى الناس بسمتهم،  بإصلاح  ما تكسَّر من أباريقهم وأوانيهم .

19-5-2012-r2

مزراف ونورة ببياض البيض

يقول الحاج عامر أبو منير،(77 عامًا) (( تصليح الأواني (الفرفوري) مهنتي التي ورثتها عن آبائي وأجداي. فمنذ 64 عامًا  وأنا أمارسها ، وعلمتها لأولادي الذين هجروها بسبب انقراض هذه المهنة وعزوف الناس عنها، وإهمال تصليح مقتنياتهم بسبب أسعار الأواني الزهيدة جدًا، فقد كان جَدّي يجلس في دكانه الصغير الذي لايتجاوز ثمانية أمتار وسط قطع الخزف المكسورة هنا وهناك،حتى بدأت الناس تقل شيئًا فشيئًا مما دفع والدي إلى التجوال بين البيوت )).

ويضيف قائلاً ((  أتقاضى عن التصليح ألفين، وأحيانًا ثلاثة آلاف دينار، والسعر حسب نوعية المسامير التي نستخدمها وحجم الكسر والمادة المراد تصليحها، فقبل البدء في عملية اللصق أنظف الأواني إذا كانت مُتَّسخة بماء، وأحرص على تنظيف الحواف المكسورة لإزالة الدهون، إذ أقوم بخياط الـ((فرفوري)) بمثقب خاص لدي (المزراف)،  ثم أُحدث ثقوبًا في قطع الخزف المهشمة وأربطها بسلك معدني وألحمها بمادة النورة المخلوطة ببياض البيض وأتركها إلى أن تجف، فيعود الإبريق أو الصحن أو الإناء المهشَّم  صالحًا للاستخدام مرة أخرى بعد ثبيت الشرخ الحاصل في هذا الصحن أو ذاك، ومنذ بداية عملي حتى الآن لم ينكسر أي صحن عندي أثناء عملية دق المسامير)).

ويوضح الحاج عامر: (( سابقًا كنت ألجأ إلى تركيب خلطة من بياض البيض والنورة، وأدق المسامير خلف الصحن حتى لا يظهر أثر للكسر، أما الآن  فتغير الحال، وأصبحت عشرات المواد اللاصقة، ومن مختلف الدول، متوفرة في الأسواق،  مما سَهَّل عملية التصليح)).

ويضيف:(( قبل سنين  طويلة كنا نتجول في الأزقة والشوارع، ونذهب للبيوت، وكنت أقوم بتصليح الأواني وأنا جالسٌُ على باب الدار ومعي عدة التصليح، إذ كنت أتقاضى مبلغًا لايقل عن ((عانه)) ولا يزيد على 30 فلسًا بحسب العملة العراقية  المتداولة في  أربعينيات القرن الماضي)).

19-5-2012-r3

صحون المشاهير

ويختم أبو منير حديثه: ((تأتي صحون نادرة فيها صور ملوك ورؤساء وفنانين مصنوعة يدويًّا بيد محترفين، عليها إمضاء صانعها  واسمه، وهذه سعر شرائها مرتفع جدًا، وتحتاج إلى مهارة ودقة في عملية تصليحها، ونأخذ أجورًا مرتفعة حسب نوعية المادة وصناعتها وقيمتها الشرائية، لأنها تحتاج إلى وقت طويل وجهد ودقة في العمل، فلا نقوم بلصق الصحن أو الـ((قوري)) والإبريق، لأنها طريقة فاشلة، بل نخيطها بسلك رفيع من أجل المحافظة عليها)).

مهنة أثرية

ويؤكّد المنقِّب الآثاري باسم كاظم عبود أنه (( خلال التنقيبات في مدينة الكوفة في تلِّ الصياغ عثرنا على صحن كان مكسورًا، يعود إلى القرن الثاني الهجري. أجريت عليه عملية تصليح وصيانة في تلك الفترة، إذ جرى تصليحه بمسامير حديدية وليست نحاسية، مما يشير إلى كيفية الحفاظ عليه وصيانته )).

ويشير عبود إلى أنه  ((قديمًا عثر على (الإناء النذري) المكسور آنذاك، وجرت له عملية تصليح بأسلاك نحاسية، وهذا الشيء موجود لدينا في فترات ما قبل الإسلام في الفترة السومرية والأكادية والبابلية )).

و…صناعة عريقة

وأضاف (( صناعة الفخاريات في العراق تمتد إلى عصور ما قبل التأريخ، ولدينا فخاريات عصور العبيد والوركاء، وفجر السلالات، والفترات السومرية والأكادية نزولاً إلى الفترات البابلية، لأن الإنسان عندما يحتاج إلى شيء يبدأ يفكر ثم يخترع ما يستفاد منه )).

ويمضي باسم في كلامه قائلاً : (( أما بعد الإسلام فأصبح التطوّر واضحًا، وأضيفت لصناعة الأواني والصحون أشياء جديدة، مثل عملية التزجيج و الطلاء بالألوان كالأخضر والأحمر والأصفر والأزرق وغيرها؛ ففي  السابق لم تكن الفخاريات مزججة أو مطلية)).

ويذكر المهندس صالح من الكوفة (58 عامًا) : ((عندما كنت صغيرًا أتذكر شخصًا إيرانيًّا يدعى((مشته علي)) كان يتجول في أزقة الكوفة وشوارعها، ذا صوت مميز، يضع على رأسه قطعة قماش، يعمل في تصليح الأواني، وكنت أراقبه عندما كان يجلس على عتبة دارنا، حاملاً حقيبة أو كيسًا فيه عدّة العمل، ليس له محل بل كان يتجول في المنطقة )).

19-5-2012-r4

صورة لملك العراق وأخرى للرئيس قاسم

ويضيف صالح : ((كان في بيتنا صحن كبير (بلم) فيه صورة ملك العراق (فيصل بن الحسين) الذي حكم العراق عام 1921، اشتراه أهلي بمبلغ 30 دينارًا، صانعه صيني، كما كان عندنا صحن صغير (ماعون ) فيه صورة الرئيس العراقي الراحل عبد الكريم قاسم الذي حكم العراق بعد ثورة 1958. كان سعر الأباريق والصحون مرتفعًا جدًّا، قد يكلف الموظف راتبَ شهر كامل آنذاك، مما جعل الأسر العراقية تلجأ إلى خَيّاط الـ ((فرفوري)) والأواني، فقد يصل سعر شراء إبريق الشاي الواحد إلى دينارين، ويختلف سعر التصليح والخياطة حسب نوع القطعة وحجمها، فكان يصلح الصحن الكبير الـ ((بلم))  بمبلغ 20 –  30 فلسًا، أما الإبريق ((القوري))  فمن 10- 20 فلسًا )).

ويضيف : (( كانت طريقة تصليح إبريق الشاي (القوري) تحصل بوضع قاعدتين دائريتين مصنوعتين من الحديد أو النحاس في أعلى الإبريق وأسفله، ويقوم المصَلِّح بتوصيلهما بواسطة قطع معدنية، فيمسي شكله مثل شبكة تحيط بالإبريق ، تقيه الكسر وتحميه.  أما الأواني والصحون، فكنت أشاهده يخرج قطعة خشبية في نهايتها خيط مربوط بها، وفي أسفل الخشبة رأس مدبَّب صغير يستخدمه لثقب المواد المراد تصليحها (المزراف)، إذ يبدأ بتحديد منطقة الثقب في الإناء ثم يحرك الخيط ليقوم بثقب الإناء من الجهتين، ويربطهما بواسطة قطعة معدنية صغيرة، بعدها يخرج مادة صمغية سريعة التصلب، ليقوم بلصق المادة بعد ربطها بالمسامير النحاسية أو الحديدية، من أجل إرجاعه إلى ما كان عليه قبل الكسر )).

أما محمد جابر (45عامًا) وهو صاحب معمل لصناعة الفخاريات فيقول: (( بعد أن كان العراق معروفًا تأريخيًّا بصناعة الفخاريات والزجاج، وخصوصًا النجف والحيرة والكوفة، بات اليوم مستوردًا من مختلف أنحاء العالم )).

صناعة الأواني وزخرفتها

وعن صناعة الأواني يتحدث جابر: ((تصنع الأواني والأباريق من خليط مواد بعضها مصنوع من الخزف، وبعضها من الطين أو الزجاج، ويتفنن المهرة في صناعتها؛ ففي السابق كانت حرفًا يدويةً يصنعها أحد المهرة الفنانين، مما يجعل سعرَها مرتفعًا، ويزداد السعرُ كلما زادت قيمة المصنوع الفنية من حيث الزخارف والألوان، ويكتب توقيع المحترف، أما اليوم فقد ساهمت المصانع وتوفر المواد الأولية ووسائط النقل في انخفاض الأسعار، ما جعل أسعارها شبه مجانية، وجعل أغلب الناس لا تعبأ بتكسُّر الأواني أو تهشمها )).

ويتابع جابر ((كانت الزخرفة تنفَّذ بأساليب مختلفة منها طريقة الضغط على الإناء وهو لا يزال ليِّنًا، أو بطريقة الملقاط ،أو  بلصق خيوط من الزجاج إلى جدران الإناء وهو ليِّن، وغير ذلك من الطرق الأخرى)).

ويؤكد علي حيدر (65عامًا): (( قبل خمسين عامًا كان جدي وجدتي يخافان على الصحون والأواني منا لدى حملها، عندما كنا أطفالاً حتى لانكسرها، وغالبًا ما كانت جدتي تصرخ بنا لعدم لمسها والابتعاد عنها كي لاتنكسر، بسبب ارتفاع سعرها، فبعضها من النوع المزخرف النادر، وكانوا لا يستخدمونها إلا للضيوف “.

وأضاف عليٌّ  : ((سمعت جدتي تقول إن زوجها  اشترى أحد الصحون بربع دينار عراقي، وهو سعر يعتبرونه مرتفعًا في عام 1962، وكان آباؤهم وأجدادهم يحافظون على أوانيهم، وعندما ينكسر صحنٌ أو إناءٌ ما،  يذهبون به إلى السوق ليقوم المصلح بتصليحه، وما زلت أتذكر المحل المملوء بأوانٍ وصحون محطَّمة كثيرة وأقداحٍ كبيرة ومهشَّمة)).

19-5-2012-r5

يخيط الفرفوري بعانتين أو فلسين

أما الحاجّة نورية جاسم ( 72 عامًا) فتضيف (( لطالما كنَّا نسمع مُصَلِّحَ (خيَّاط ) الأواني والقوارير (الفرفوري ) التي نستخدمها في المطبخ، يدور في الأزقة و الشوارع، حيث يتجمع حوله عدد من النسوة  و يحضرن مالديهن من القوارير والصحون، ويقع التعامل معه على سعر التصليح، وأتذكر أننا كنا نعطيه المبلغ حسب نوعية الإناء أو الصحن وحجمه، وغالبًا ما كنا ندفع له ((عانتين)) أو فلسَيْن، على ماأذكر بعد مرور أكثر من 50 عامًا، والآن نستخدم أوانيَ وصحونًا مصنوعة من (البلاستك والفافون  والأستيل)،أو من الخزف الصيني بعد أن كنا نصلِّح الأواني وغيرَها لأكثر من مرتين )).

المتحف النجفي

ويقول سالم حسن (61عامًا): (( إن ازدهار مهنة تصليح  الأواني الزجاجية ( الفرفوري) لازمَ الوضعَ الاقتصاديَّ المترديَ والصعبَ بسبب الفقر والعوز المادي الذي أثر سلبًا في أغلب العوائل العراقية، وفي حياة الناس المعيشية، إذ كانت تتطلب من العائلة  الحفاظ على أواني المنزل لأطول فترة من الزمن، فقد تلجأ بعض العوائل إلى خياطة الإناء والإبريق وصحن الطعام مرات عديدة )).

مازال خيّاط الـ ((فرفوري)) يعيش بيننا رغم انقراض مهنة تصليح الأواني والأباريق ، فلا بد من الالتفات لهذه المهنة التي عاشت مع المجتمع العراقي سنين طويلة ،وحافظت على مقتنياته الخزفية والطينية عبر مئات الأعوام، بحلاوتها ومرارتها ، وحتى لاينقرض تأريخنا، فهي دعوة للمهتمين في النجف الأشرف لتوثيقها وجمع أدواتها. فربّما يصبحُ ((المتحفُ النجفيُّ)) يومًا، شاهدًا حيًّا على تأريخ مدينتنا العريق.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

*