مقاهي النجف الأشرف: شاي عراقي بنكهة الهال والتأريخ

434

9-5-2012-4

تحقيق: حيدر حسين الجنابي

لا يخلو زقاق أو محلة في مدينة النجف الأشرف من وجود مرجع أو شخصية إسلامية أو مكتبة عامة أو مرقد أو مكان تراثي أو أثري يتحدث عن مدينة الألف عام.

 وللشاي طعم مختلف…

    ما إن تسير وسط محلة المشراق في المدينة القديمة، حتى تسمع صوت (اثنان شاي …أبو عبد الله)، وتتكرر الأصوات حتى تدلّكَ رائحة الشاي إلى مقهى جميل تزين جدرانَه صورُ العلماء والمراجع والمنشدين الحسينيين والشعراء، وتشاهد وسطه رجلًا يبلغ من العمر 43 عامًا قضى 25 سنة منها في المقهى، ورغم مرور ربع قرن لوَّنَ الدهرُ فيها شعرَ رأسه، كما لوَّنَ الشايُ أصابعَ يديه لكنه ما زال مبتسمًا، ويطرق بيده قدح الشاي (الاستكان) الفارغ بالماعون مع الملعقة فيصدر بحركة أصابعه أنغامًا جميلة تتحدث عن فن ومهارة وهو ينادي ( شاي.. شاي ..شاي)

    فعند جلوسك وسط زحام الزبائن والزائرين الذين يتلفتون يمينًا وشمالًا، وتتراقص أعينهم على جدران المقهى وهم مسرورون، فرحون، يتأملون عشرات الصور، ويخيَّل للجالس في المقهى أنه في معرض فني رائع تتحدث فيه الصور التي نصبت نفسها على الجدران لترسم تأريخَ مدينةٍ غفا على ضفافها ألف عام، حتى باتت عاصمةَ الدنيا بماضيها وحاضرها ومستقبلها .

    فما إن يتنفس الصبح في مدينتي، بعد أن ترتل حناجر مآذن النجف الأشرف الأذان والدعاء، وتبدأ الطيور تسبيحها، وينطفئ نور المصابيح في محيط العتبة العلوية المقدسة بعد الساعة الخامسة فجرًا، حتى يأتي -أبو عبد الله- إلى محلة المشراق وسط المدينة القديمة التي لا تبعد إلا أمتارًا عن المرقد الطاهر ليبدأ يومًا جديدًا في حياته وهو لا يفارق الطاقية السوداء التي تتوج رأسه.

    ويتحدث أبو عبد الله -فاضل الكعبي- قائلًا : ” أبدأُ عملي بفتح باب المقهى وأرش الماء أمام الباب وأردد : بسم الله …يا فتاح، يا رزاق. أصبحنا وأصبح المُلك لله، ثم أبدأ بتجهيز الشاي المملوء بالهيل، في أباريق مصنوعة من الخزف الصيني (الفرفوري) مستخدمًا الماء الساخن ، وأضع تلك الأباريق على مكعبات الفحم الأحمر والرمادي “.

    ويتابع: ” ما إن يجهز الشاي حتى تملأَ المقهى رائحةُ الهيل (حَبّ الهال) التي تغازل التأريخ فيمتزج بعطر النجف و يتعانقا، ثم يأتي الهواء مسرعًا ليحملهما معًا إلى روّادِ المكان وزائري النجف المارّين من أمام المقهى المقابل لمطعم كباب الحويشي “. 

    فجأة يمسح الكعبي يديه، وهو يرتدي قميصًا وبنطالًا، ليتحدث عن ذكرياته: “عندما بدأتُ العمل مع عمي (والد زوجتي) وهو رجل كبير في السن، بدأت أشتري الصورة بعد الأخرى وأقوم بتعليقها، حتى أصبح مقهاي القديم الذي لا يتجاوز ثمانية أمتار، يرتدي ثوبًا تطرِّزُه صورُ مراقدِ الأئمة(عليهم السلام) وعلماءِ الدِّين، وصورٌ تراثية “. 

9-5-2012-3

    ويبين أبو عبد الله سببَ وضع صور مراجع النجف الأشرف : ” أضع صورَ العلماء لشدة حبي لهم كلهم دون استثناء، وتطبيقًا لقول الرسول الأكرم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم ): {النظر إلى وجه العالم عبادة}، ولطالما حلمت بأن أجمعهم معًا، فهم قادتنا ورمز وحدتنا وتكاتفنا، كما النجف رمز لمدن العالم لوجود التعايش بين أتباع الأديان ، الذي وضع أسسه الإمامُ عليٌّ بن أبي طالب (عليه السلام) “. 

    ويتابع قائلًا: إن “صور مراجع التقليد والمنشدين الحسينيين (الرواديد) والشعراء، تذكرني بآداب النجف الأشرف وبعلمها وثقافتها، حتى إنني أحدِّقُ في عيون الناظرين الذين يحتسون الشاي داخل المقهى وخارجه ، فهم يحدقون في الصور التي باتت لوحة تتحدث عن تأريخ المدرسة الفكرية والعلمية التي دَرَّستِ الدنيا ولم تدرُس عند أحد، فهي مدينة باب علم الرسول صلى الله عليه وآله”. 

    ويختم أبو عبد الله بقوله : “يفرح الناس عندما يشاهدون الصور وكأنهم يجلسون بمتحف أو معرض للصور القديمة والحديثة وهم يمسكون قدح الشاي الحار بين أيديهم، وكلٌّ ينظر إلى المكان المقابل له وعيونهم تتراقص على جدران المقهى، ثم يفتشون بين الجدران والصور عن شخصية إسلامية يحبونها، أو مرجعًا للتقليد كانوا يقلدونه، أو ما زالوا على تقليده من العلماء الماضين (رحمهم الله)، أو الباقين (حفظهم الله)”. 

    أما متذوقو الشاي فلهم أراؤهم وانطباعاتهم في هذا المقهى، لكن ما استوقفني، أن رجلًا كان يرتدي العقال و(اليشماغ) جلب له أبو عبد الله الشاي ووضعه على منضدة صغيرة بُنِّيَّةِ اللون، بدأت ترتجف أثناء تحريك الملعقة وسط الكوب، فامتزج صوتها مع صوت الطقطقة ، والمسبحة الكهرب التي بيده لتشكل الأصوات سيمفونية من طراز خاص . 

    ويستمر الرجل بتحريك الملعقة دون أن يشعر بأن الشاي صار باردًا، لأنه رحل مع الصور حيث هي، وبدأ حديثه مع شخصياتها، سابحًا في الخيال، وما إن عاد من رحلته حتى تكلَّم معي قائلًا: “أنا زائر من بعقوبة، أزور النجف كل شهر، أرتاد هذا المقهى أول مرة، وأرى حديقة الصور الرائعة أمامي، والتي رحلت بي إلى ذاكرة الستين عامًا “. 

    ويضيف الحاج حسين عبد الله (73 عامًا) “وددت لو كانت داري هنا لأكون قريبًا من المقهى لأنني أُعجبت به كثيرًا فالنَّجف تملك روحي وقلبي”. 

    ولـ”إبراهيم رضوان” (54عامًا) من لبنان رأيٌ آخر فيقول “المرة الثالثة التي أزور فيها أمير المؤمنين (عليه السلام)، وأحس فيها بأني أعيش وأمشي على الأرض التي عاش فيها الأنبياء والرسل والأولياء(عليهم الصلاة والسلام)، فأنا أحب النجف وأهواها، وقد أتيت اليوم لاحتساء الشاي في هذا المقهى الجميل وكأني أجلس في مكان تراثي”. 

    ويبين جبار عبد العباس (47 عامًا) من الكوفة “هذا المقهى قَلَّ نظيره، وقبل احتسائي للشاي بنكهته المميزة ، أتطلع إلى صور تلك الكوكبة من العلماء والقادة والشخصيات الأدبية فهي صور مثيرة للإعجاب وبعضها نادر، لذا أرتاد متحف الصور دائمًا”. 

    ويتحدَّثُ مسلم شاكر(33عامًا) من بغداد: “ينتابني إحساس غريب عندما أتجول في المدينة القديمة، فهذا المقهى مميز بالذات بما فيه من صور للشخصيات الإسلامية”. 

    ويوضح غزوان العيساوي (30 عامًا) من النجف: “أذهب يوميًّا إلى المقهى، وأقف ببابه وأنادي أبو عبد الله …أين الشاي”، ويضيف “كلما نظرت للمقهى وما فيه أفرح كثيرًا، وأقول إن مقاهي النجف جميلة، والجميل أيضًا أن صاحب المقهى قد جمع مقتنيات لأنواع الأباريق ومواد المقهى فوق رؤوس الناس بين الصور”. 

    فلم يكن مقهى الكعبي هو الوحيد، وليست محلة المشراق فقط تحوي مثل هذا المقهى المميز فالنجف الأشرف متميزة بكل شيء، بأهلها وبتأريخها وبمكانتها بين المسلمين، ولا يخلو زقاق أو محلة في مدينة النجف الأشرف من وجود مرجع ديني أو شخصية إسلامية أو مكتبة عامة أو مرقد أو مكان تراثي أو أثري يتحدث عن مدينة الألف عام، مدينة الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام)،  التي عصمها الله سبحانه، فهي عاصمة لمن يحبُّ عليًّا(عليه السلام)، وهي عاصمة العواصم، ولابد للحكومة العراقية أن تهتم بها كثيرًا، فهي مدينة الزعامة الشيعية في العالم، والتعايش بين أتباع الأديان.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

*