أديرةٌ وكنائسُ في النَّجف نواقيسُها توحِّدُ اللهَ

312

4-5-2012-1

تحقيق: حيدر حسين الجنابي
خاص لـ((موقع الحكمة))

ثلاثة وثلاثون كنيسة وديرًا تنتشر في أرض النجف ، شاخصة  أطلالها هنا وهناك، دليلًا ماديًّا على تاريخ كنائسها ، وأنغام نواقيسها التي كانت تنشر الديانة المسيحية  للعالم، والتي تمثل المرجعية العليا للمسيحيين القدامى.

    ولعل كنوز النجف وأهميتها ودورها الذي أثبتته  التنقيبات، التي أجريت في الكنائس ، تلقى اهتمام “دولة الفاتيكان ” لكي تساعد في إبراز معالم النجف المسيحية، التي تمثل رسالة حية  يمكن أن تساهم في حوار الحضارات والأديان ، وتبين أن النجف عبر التأريخ لم تفرق بالدين والمذهب، بل  احتضنت الجميع ، فكانت ومازالت مدينة التعايش السلمي بين الأديان ، لأ نها…” النجف  الحضارة “.

 مسيحيو النجف علماء في الطب والمنطق

    تقول الباحثة سلمى حسين ” كان للحيرة دور كبير في نشر الديانة المسيحية وخصوصًا المذهب النسطوري الذي ينسب للبطريق ((نسطوريوس)) المتوفى سنة  450ميلادية، وكان المركز الرئيسي للمسيحية في الحيرة، ومنها تسربت إلى الجزيرة العربية، وتعلم المسيحيون السريانية ، فكتبوا ورتلوا بها ، ثم نشروها في بلاد فارس واليمامة وعمان، ثم من اليمامة انتقلت إلى نجران واليمن ومناطق أخرى “.

    وعن تسميتهم بالنصارى تذكر سلمى “سمي مسيحيو الحيرة بالعباد بعد أن آمنوا بالدين المسيحي ، وفق المذهب النسطوري في القرن الرابع الميلادي ، وأول من آمن ودخل الدين المسيحي، النعمان بن المنذر الأول، أو الأكبر(    403-431 ) م ، ففي عام 420 م حدثت فتنة بين المسيحيين والوثنيين، فانتصر النعمان الأكبر للمسيحيين وحماهم ، وكانت هذه الحادثة دليلًا على حرية اعتناق المسيحية عند عرب الحيرة، وهناك رواية تؤكد أن القديس سمعان ، شفى النعمان من مرض عصبي ألمَّ به، وذلك بإخراج الشيطان من جسده فتنصَّر “.

4-5-2012-2

روائع الفن والعمران

    وتوضح  الباحثة حسين “أن الأديرة كثيرة وهي منتشرة  في محافظة النجف الأشرف، وقد كشفت التنقيبات وجود كنيسة كبيرة جدًا في ظهر الكوفة، ومن أشهر كنائس النجف : دير الأساقف، و دير ابن مزعوق ، ودير الأعور ، ودير بيعة المزعوق ، ودير أبلج ، ودير ابن براق ، ودير ابن وضاح (المعروف بمار عبدا معري)، ودير أذر منج المعروف (أذرمانج)، ودير أبي موسى ، ودير بني صرينار ، ودير بني مرينا، ودير بونا ، ودير نوما ، ودير الحريق، ودير حنة، المعروف (الأكيراح)، ودير الحرقة ، ودير هند الصغرى، ودير الجرعة المعروف (دير عبد المسيح بن بقيلة)، ودير الجماجم، ودير عبد يشوع، ودير العذارى ، ودير اللج المعروف(اللجة)، ودير مازفانثون، ودير مارت مريم، ودير محراق، ودير هند الكبرى المعروف (أم عمرو)، ودير ذات الأكيراح، فضلًا عن وجود دير الزرنوق، ودير سرجس، ودير الأسكون “.

    وفي ما يخص بناء الأديرة والكنائس، تبين سلمى :”كانوا يستخدمون الآجر والمرمر والجص والقرميد، مما جعلهم يحترفون روائع الفن والعمران في كنائسهم، فالدير كلما كبر زاد عدد الرهبان والمتدينين فيه، وكان كل دير محصَّنا بسور مكين شاهق يدفع عنه شر الهجمات ويقيه من المعتدين”.

    وأضافت: “من أشهر علماء المسيحية من أبناء الحيرة : ((ماراثيليا))، والقديس ((حنا نيشوع))  (من عشيرة ملك الحيرة النعمان بن المنذر)، والقديس ((ماريوحنا)) (هوشاغ ) وهو الذي حضر مجمع إسحاق الجاثليق عام410م ، و((شمعون)) الذي أمضى أعمال مجمع ((بهيالا)) سنة486م ، و((شمعون)) الذي حضر مجمع (أقاق)، و((شمعون بن جابر)) الذي نصر الملك النعمان الرابع سنة 594م، وبنى الكنائس المعظمة ، ومن أعيان النصارى ((عبد المسيح بن بقيلة)) ، وكان لهم نظام ديني ورتب ورؤساء ومرؤوسون وزعماء دين، ومن أسماء الزعامات المعروفة آنذاك ((الأبيل))  (المسيح بن مريم)، البطريرك(رئيس النصارى)، الجاثاليق(دون البطريق)، الأسقف والمطران ، الحَبر (من رؤساء النصارى)، وأغلب المبشرين  كانوا علماء في الطب والمنطق ، ووسائل الإقناع والتأثير في النفوس، و كان للدير دور كبير في نشر الثقافة وتدريس مختلف العلوم والمعارف”.

4-5-2012-3

33 كنيسة وديرًا في بحر النجف والحيرة والكوفة

    أما أستاذ التاريخ الأول في جامعة الكوفة الدكتور حسن عيسى الحكيم فيقول : ” تحولت الحيرة إلى الديانة المسيحية بعد أن كانت وثنية ، وانتشرت في ربوعها السريانية ، وعلى إثر ذلك انتشرت الأديرة في الحيرة و في ظاهرها ، وغالبًا ماكان المسيحيون يتخذون من منطقة ظاهر الحيرة مكانا لهم ، لأن الراهب والمتدين المسيحي كانا يختليان في منطقة بعيدة عن السكان للتعبد ، ولكون بحر النجف كان يقع في ظاهر مدينة الحيرة، وهو منطقة خالية من السكن ، لذا اختار رجال الدين المسيح المعابد والكنائس فيها، فضلًا عن انتشار الكنائس قرب مدينة الكوفة  ومنها ((عاقولا)) التي تقع بين الكوفة والحيرة (منطقة مطار النجف الأشرف الدولي ومعامل الإسمنت حالياً) وأنشئت فيها كنائس ، فالسريان كانوا يسكنون ((عاقولا)) ، وبنيت كنيسة هند الصغرى على خندق الكوفة (الذي يعرف بكري سعدة حاليًا)، أما في إحدى المناطق على حافة بحر النجف فكان يقع دير هند الكبرى بين النجف والحيرة قرب قصر الخورنق” .

    ويبين الدكتور الحكيم “لدينا رواية تؤكد أن خالد بن الوليد عندما أراد أن يفتح الحيرة عام12هـ، عسكر في أرض النجف في منطقة الغري ثم بدأ يسقط القصور الواقعة بين النجف والحيرة فضلًا عن احتلاله الأديرة في هذه المنطقة، وكان ابن الوليد يخير المسيحيين في فتح كنائسهم حربًا أم سلمًا ، وكانوا يدفعون الجزية فغالبًا ما تفتح الكنائس سلمًا، فهناك حادثة تؤكد أن الراهب المعروف عبد المسيح بن بقيلة في الحيرة، جرت بينه وبين خالد بن الوليد محادثة وتحاور قبل دخول الأخير مدينة الحيرة، وتضيف الرواية أن ابن الوليد سأل الراهب عبد المسيح ماذا أدركت في هذا المكان (الحيرة) -قال : أدركت سفن الهند والصين وهي تمخر في هذا البحر، وأشار عبد المسيح إلى بحر النجف “.

    ويتحدث  الحكيم عن عدد الأديرة  فيقول : ” قمت بإحصاء الكنائس ودونتها في كتاب ((المفصل في تأريخ النجف الاشرف)) ، وفي كتابي الآخر ((مدينة الحيرة))، وتوصلت إلى وجود  33ديرًا منتشرًا في المثلث الحضاري، النجف والكوفة والحيرة، ثم تتوغل الأديرة لتصل إلى منطقة الرهبان في بحر النجف، التي تقع بالقرب من منطقة الرهيمة التي لاتبعد عن النجف سوى20كم، إذ توجد بقايا لأديرة في المنطقة “.

    ويؤكد الحكيم: “حينما انتهى دور الحيرة كدولة كبيرة وهيمن الإسلام على هذه المنطقة، بقيت الكنائس والمسيحيون، ويروى أن الإمام عليًّا (عليه السلام) أثناء خلافته في الكوفة، مر بأحد الأديرة، وكان الناقوس يُدَقُّ، فسأل الذين كانوا معه؟ ماذا يحكي هذا الناقوس، فقيل له يا أمير المؤمنين وهل يتكلم؟  قال الإمام (عليه السلام): نعم يتكلم ، وبدأ الإمام عليٌّ  (عليه السلام) يفسر نغمات الناقوس ودقاته ، مؤكدًّا أن فيها نوعًا من العبادة والتوحيد لله سبحانه”.

4-5-2012-4

طبيب مسيحي يشخّص حالة الإمام عليٍّ

    ويضيف الحكيم : ” في عهد الإمام علي بن أبي طالب  (عليه السلام) كانت الأديرة تؤدي دورها الديني ، وعندما ضُرب الإمام (عليه السلام) في  19رمضان، جيء له بطبيب مسيحي من منطقة عين التمر يسمى ((أثير السكوني)) الذي كشف عن رأس الإمام (عليه السلام) وقال له: ” يا أمير المؤمنين إنك ميت، فاعهد عهدك فالضربة وصلت إلى الدماغ”، وهذه دلالة على أن المنطقة المسيحية تمتد من الحيرة وضواحيها إلى عين التمر في كربلاء”.

    ويتابع الحكيم “إن الشابشتي في كتاب “الديارات” يكتب عن أديرة العراق، ويحدد الأديرة الموجودة في منطقة بحر النجف، ولو جمعنا الشعر الذي قيل في هذه الأديرة فيمكن أن يصل إلى ديوان أو أكثر، لأن محاورات شعرية كانت تجري في هذه الأديرة والكنائس في محافظة النجف الاشرف “.

    ويبين: “لدينا نصوص لشعراء الكوفة ومنهم الشاعر أبو نؤاس وهو من  شعراء العصر العباسي الذين يخرجون إلى الأديرة ، وهم ينشدون الشعر وكثيرًا من الشعر العربي مدوَّنٌ ضمن هذه الأديرة التي بقيت إلى منتصف العصر العباسي، ومن ثم بدأ الناس يهاجرون إلى بغداد”.

أكبر مقابر المسيحيين في العراق نجفية

    ويؤكد محمد الميالي مدير آثار محافظة النجف الأشرف: “أجرينا مسوحات حديثة بخصوص الأديرة والكنائس، ولم تكتمل المسوحات بعد، ولكن تشير إلى وجود الكنائس من منطقة مطار النجف الأشرف الدولي إلى ناحية الحيرة ثم المناذرة وصولاً إلى بحر النجف، كعيون الرهبان وقصور الأثلة، ولدينا إحصائية بخصوص المناطق المنقبة في محافظة النجف تصل إلى 200 موقع أثري ونعتقد أن العدد سيزداد في حال إتمام عملية المسح الحديث، وخاصة مسوحات الآثار المسيحية في المحافظة، كما تحيط بالكنائس مقابر مسيحية، ولعل التنقيبات الأخيرة أثبتت لنا أن أكبر مقبرة للمسيحيين في العراق توجد في محافظة النجف الاشرف مساحتها 1416 دونم تقع في منطقة تسمى ((أم خشم))  تحوي قبورًا كثيرة جدًّا للنصارى “.

4-5-2012-5

أديرة وقصور

    ويذكر الدكتور محمد باقر البهادلي “ارتبطت مدينة النجف، تأريخيًّا وجغرافيًّا بالحيرة والكوفة. فالوجود العربي القبلي كان متمركزًا حول منطقة النجف في العصر الذي سبق الإسلام، وإن هجرت القبائل إليها ازدادت بتجمع من عرب المناذرة والحيرة، كما يقصدها الأمراء والملوك لغرض الصيد والتمتع بهوائها النقي، وقد تناثرت بالقرب منها الأديرة والقصور مثل قصر الخَوَرْنَق والسدير”.

وردٌ وخزامى وأقحوان وبنفسج

    ويضيف الباحث هاشم ناصر المحنك : “إن الأديرة كانت منتشرة  في الكوفة، ومن أشهرها ((ديرحرقة)) و((دير أم عمرو)) و((ديرسلسلة)) فضلًا عن ((دير الجماجم)) الذي كانت تصنع بالقرب منه الكؤوس الخشبية، وكانت هذه الأديرة معروفة ببساتينها الواسعة وأزهارها إذ كانوا يزرعون فيها الورد والعذراء والخزامى والأقحوان والبنفسج”.

    ويمكن الإشارة إلى أحد أقدم النصوص الأدبية التي يصف فيها أبو الفرج الأصفهاني تلك الأديرة في النجف :

بـمارةَ    مريمَ     الكبرى        وظِلِّ    فِنائِها       فقفِ

بقصرِ أبي الخصيبِ المشـ      رف الموفي على  النجفِ

فأكنافِ الخَوَرْنَقِ    والسـَّ       ديرِ   ملاعبِ      السلفِ

إلى       النَّخلِ    المكمَّم ِ        والحمائمِ   فوقَه    الهُتُفِ

مدينة ما سجدت إلا لله

لعل عمر النجف الذي يمتد إلى أكثر من مليون سنة حسب ما ذكرته التنقيبات الأثرية التي ترجعه إلى عصر البلايستوسين المتوسط وما بعده من العصور حتى العصر الحجري القديم؛ يبين لنا أهمية هذه المدينة المقدسة التي خَرَّجَتْ مدارسُها آلافَ العلماء المسيحيين والمسلمين، وملايينَ العباد الذين لم يسجدوا  إلا لله .

4-5-2012-6

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

*