النجف تضم أكبر مقبرة للمسيحيين القدامى

974

30-4-2012-b1

((ما أحسن منظرك وأطيب قعرك، اللهم اجعل قبري بها))

    هذه التمنيات لم تختصّ بالمسلمين، وإنما المسيحيون أيضًا كانوا يشاركوننا بقدسية الأرض. فالتنقيبات الأثرية، أثبتت وجود أكبر مقبرة مسيحية في العراق، في محافظة النجف الأشرف، فليس غريبًا على النجف أن تكون مدينة المقابر التاريخيةً، بعد أن احتلت وبجدارة الترتيب رقم (1) كونها مقبرة عالمية متنوعة تضم قبورًا فرثية ومسيحية وإسلامية تعود إلى آلاف السنين.

    فمقبرة وادي السلام ذات الطابع الإسلامي كانت ثانية مقابر العالم من حيث القِدَم والكِبَر بعد مقبرة الفاتيكان المسيحية، فالنجف وإن غمضت بين ربوعها جفون الأنبياء والرسل والزعماء والمصلحين والعلماء والمفكرين والأدباء وعامة الناس، وتوسدت ملايين الأجساد، بين رمالها، علَّها تنجو بفضل قدسيتها في الحياة الآخرة؛ إلا أنَّه  سيِّد النجاة وأقدسَ من فيها وجود الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام).

    وثمة تساؤلات كثيرة لدى الناس مثل : أليس من الغريب أن تكتشف مقابر النصارى.. ومتى أصبحت النجف مسيحية.. ولماذا اعتنق الناس المذهب النسطوري.. ومن هم منقبو القبور.. وماذا وجدوا.. وكيف أثبتوا مسيحية القبور.. وماهي اللقى المكتشفة.. ومن هم أشهر العلماء والملوك النصارى في النجف؟… إلخ، هذه التساؤلات يجيب عنها المختصون من الباحثين في مجال التأريخ والآثار.

30-4-2012-b2

النجف أكبر مقبرة مسيحية

    يقول محمد بدن الميالي مدير مفتشية آثار محافظة النجف الأشرف ” التنقيبات التي أجريناها منذ سنوات وما زلنا، حول المقابر تؤكد أن النجف الأشرف تحوي أًكبر مقبرة مسيحية في العراق، مساحتها 1416 دونمً وتسمى ((أم خشم))، وهذه المقبرة لها امتداد واسع من محافظة النجف إلى المناذرة وصولًا إلى منطقة ((الحصية))، على طريق النجف – غماس، فهي مقبرة كبيرة جدًا، وهذا مجرد موقع واحد ومازلنا مستمرين بالتنقيبات”.

    ويضيف الميالي “عثرنا على دلالات موجودة على القبور المسيحية متمثلة بعلامة الصليب، كما عثرنا على قطعة حجرية كتب عليها ((عبد المسيح))، وهو شخصية مسيحية معروفة ما قبل الإسلام، في مدينة الحيرة، وعثرنا على لقى أثرية تعود إلى الفترة الفرثية والفترة الساسانية وفترة ما قبل الاسلام”.

    وأوضح الميالي ” إن القبور المكتشفة في موقع ((أم خشم)) هي خمسة أنواع : أولًا، القبور المغطاة بالجِرار الفَخَّارية، ويختلف عددها من قبر إلى آخر، وأقلها يضم ست جرار (فيها ستة موتى)، أما النوع الثاني فقبور مغطاة بنوع من الحجر، والثالث قبور مغطاة بطبقة من الطين، والنوع الرابع مغطى بطبقة من الفرشي، أما النوع الخامس فهي قبور نادرة عبارة عن تابوت فخاري على شكل جملوني، ومن هذا النوع أيضًا تابوت فخاري جملوني صغير لدفن الأطفال بقياس كل شخص”.

    وبخصوص المكتشفات الأثرية أكد الميالي أنه ” وقع اكتشاف قنانيَّ زجاجيةٍ تستخدم لحفظ العطور، وتختلف أنواعها من حيث صنعها، ففيها أنواع نادرة وبعضها كؤوس، إذ كانت الحيرة تشتهر بصناعة الزجاج في تلك الفترة، وتنفرد بهذه الصناعة.

    وتختلف اللقى الأثرية في القبور من ميت إلى آخر، حسب منزلة الميت الاجتماعية والاقتصادية فضلًا عن مهنته، فاللقى المكتشفة في القبر تدل على جنس الميت إن كان رجلًا أم امرأة، من خلال الحليِّ وأنواعها، وأغلب المكتشفات هي القنانيُّ الزجاجيةُ والقلائدُ من خرز العقيق، وجرارٌ فخاريةٌ مختلفة الأحجام، صغيرة وكبيرة، وأختام عليها رسوم حيوانية، وأوانٍ عليها كتابات قديمة.

    أغلب الجرار عليها علامة الصليب، وهذا دليل على اعتناقهم الديانة المسيحية، وبعض المكتشفات عليها كتابات يهودية،   لأنه حتى في العصور الإسلامية، بقيت هناك مناطق مسيحية ومناطق يهودية، وهذا يدل على التعايش الديني الذي كان سائدًا بين سكان المنطقة، والذي يفسر لنا اهتمام علماء الآثار الغربيين بموقع الحيرة منذ عام 1932 عندما نقبت أول بعثة ألمانية ذلك الموقع الأثري”.

    وزاد الميالي ” إن القبور المكتشفة في بحر النجف والمناذرة متشابهة، وتعتبر منطقة ((الدكاكين)) أو ((عين الشايع)) كما يسمونها في منخفض بحر النجف، أقدم المناطق، والتي تعود إلى فترة الساسانيين، أي إلى ما يقارب 2000 سنة “.

    وحول كيفية دفن الموتى ومواد الدفن يوضح، ” تختلف المواد المستخدمة وأشكال القبور في الدفن، وأغلب القبور تعود إلى الفترة الفرثية التي تحوي توابيت فخارية كبيرة، إذ يكون القبر جملوني الحجم، بينما القبور الساسانية تكون على شكل جِرار فَخَّارية، متعددة، وأقل قبر يحتوي ست جرار (أي ستة موتى).

    وعن أهمية التنوع في الدفن يؤكد، ” إن التنوع في الدفن في منطقة ((أم خشم)) أكثر من تنوع الدفن في مقبرة ((المناذرة))، لوجود تعاقب في الدفن في منطقة ((أم خشم)) فالدفن يكون فرثيًا ساسانيًأ؛ أما في المناذرة فيعود للفترة الساسانية. وسبب أهمية منطقة ((أم خشم)) الآثارية هو وقوعها على ضفاف نهر الفرات والآنً هي تابعة إداريًّا لقضاء المشخاب.

    فالمناطق القريبة من الأنهار أكثر دفناً لقدسيتها، حسب اعتقادهم الديني آنذاك، كما أن العلامات الموجودة على الجرار تختلف، فبعضها عليها علامة الصليب، والبعض الآخر يكون الصليب معقوفًا، فضلًا عن وجود حروف مختلفة، ويعتقد الباحثون أن سبب اختلاف العلامات والحروف على القبور هو رمز العائلة التي ينتمي إليها الميت”.

    وأشار الميالي إلى مستوى حفر القبور ” مستوى حفر القبور في ((أم خشم)) و((المناذرة)) يتراوح من 115 سم إلى 150 سم، أي يصل إلى متر ونصف، وقد عثرت بعثة يابانية في ((عين شايع)) على أنواعٍ من القبور، ويبدو أن القبور في ((بحر النجف)) و((المناذرة)) و((أم خشم)) و((الحصية)) هي للدفن، أما ((الحيرة القديمة)) فهي للسكن وممارسة العبادات، حيث توجد فيها الكنائس والأديرة والسكان المسيحيون، وقد عثرنا على وثيقة مهمة تؤكد أن الدير المكتشف حاليًا يعود إلى ((عبد المسيح بن بقيلة)) من خلال عثورنا على حجرٍ بالخط القديم وهذا دليل مادي مهم”.

30-4-2012-b3

أكثر من 33 ديراً في النجف الأشرف

    أما مؤرخ النجف الأشرف المعاصر وأستاذ التاريخ، الدكتور حسن عيسى الحكيم فيؤكد أن ” المقابر كانت ترافق الأديرة، فكثيرًا من الناس كانوا يدفنون موتاهم في جزء من الدير لاكتساب قدسية المكان، فأينما نعثر على مقابر، فهذا يدل على وجود كنيسة أو دير قربها، وقد عثر في منطقة ((أم خشم))، بالقرب من منطقة ((أبو صخير)) على مقبرة كبيرة مازالت دائرة الآثار تعمل فيها”.

    وأضاف الحكيم “إن منطقة بحر النجف تحوي أكثر من مقبرة، لو أجري تنقيب فيها بصورة سليمة وصحيحة يمكن أن يكتشفوا آثار ((شيا)) التي لم يكشف النقاب عنها بعد، وهي لا تبعد عن النجف سوى 10 كم باتجاه ((الطارات)) على طريق النجف – كربلاء، وعندما تقف على آثار((شيا)) فإنك تشاهد المرقد الشريف للإمام علي  (عليه السلام) ، وهذه المنطقة فيها تلال قائمة، تعود إلى عهد المناذرة، وتحتاج المنطقة إلى مسح ميداني. وأملنا كبير بمديرية آثار المحافظة للقيام بهذه المهمة، وبطبيعة الحال إن انتشار الأديرة في أماكن متعددة يعني  وجود مواضع للدفن، ووجود أكثر من 33 ديراً، معناه مقابر كثيرة للمسيحيين في النجف الأشرف”.

    وتحدَّث المنقب الآثاري باسم كاظم عبود “بخصوص المقابر إن مقبرة النجف الأشرف كبيرة جداً، تبدأ من منطقة ((أم خشم)) و ((المناذرة)) وحتى مقبرة وادي السلام، فإذا أردنا حساب المساحة الكلية لمقبرة النجف دون تحديد العامل الديني، فهي أكبر من حجمها الحالي بكثير، إذ توجد قبور المسيحيين، وقبور فرثية قبل الديانة المسيحية تعود إلى ما قبل الميلاد”.

    ويضيف باسم “عثرنا على بعض اللقى المسيحية والصلبان والهدايا التي تدفن مع الموتى، كما توجد مقبرة مسيحية في منطقة ((أبو صخير))، وقلاع كقلعة الذرب، التي تعود للفترة العثمانية هذه القلاع تحتها إحدى المقابر القديمة التي تعود إلى ما قبل الميلاد والفترة الفرثية”.

    ويصف باسم ما يوضع مع الموتى ” توضع مع الميت قنانيُّ زجاجيةٌ صغيرة فيها بعض العطور، وأخرى فيها زيوت مقدسة تدفن مع الميت، كما يوضع صليب، فضلًا عن بعض الأشياء الحياتية من ملابس ومصوغات، تنفع الميت في العالم السفلي   بحسب اعتقادهم، كما عثرنا خلال فتح بعض المقابر على رقيم طيني في عصور ما قبل الإسلام، يوضع مع الميت، يبيِّنُ إن كان الميتُ عبدًا أم أَمَةً، وقائدًا أم حُرًّا، كما توضع معه عقود المشتريات خلال فترة حياته، أو قائمة ببيعه أملاكه، مكتوبة على الطين في الفترات البابلية الحديثة، وهذه المقابر منتشرة في أطراف مدينة النجف”.

النصارى وقدسية الدفن في أرض الحيرة

    تقول الباحثة سلمى حسين إن “الديانة المسيحية انتشرت في الحيرة، أحد أقضية محافظة النجف اليوم، واعتنق الناس المذهب النسطوري، في القرن الخامس الميلادي، أي ما يقارب عام 400م وأول ملك اعتنق المسيحية هو النعمان الأكبر سنة 420 م، المعروف بالسائح الأعور”.

    وتؤكد سلمى أن “الموتى من العلماء المسيحيين كانوا يدفنون في الحيرة، إذ تنقل لنا الروايات المعتبرة، أن هندًا أخت النعمان قامت بدفن البطريك ((أيَشوع بابا لارزني)) في ديرها المعروف بدير هند الصغرى، إذ كان النصارى يعتقدون بقدسية الدفن في أرض الحيرة، ومنهم البطرْيَرْك ((داديشوغ)) 456 م، و((أقاق)) 496 م، والبطريرك ((بابوي)) الذي صلبه ((هورمزد الثالث قيرو))، ودفن سنة 481 م في ((دير ساليق)) ، ثم قام ((قيور)) تلميذه بنقل جثمانه في ما بعد إلى الحيرة.

    ومدفون في الحيرة البطريك ((حزقيال جرجيس))، و((أحودمة)) الذي اغتيل بأمر من كسرى ((أنوشروان)) في 2 آب سنة 575 م، وكذلك ((عبد المسيح بن بقيلة)) الذي كان من أعيان النصارى، لذا تشير بعض النصوص إلى أنه كان مُعَمَّرًا وبقي على نصرانيته بعد الإسلام، وعقد صلحًا مع خالد بن الوليد، إذ انتشر الإسلام في سنة 14هجرية”.

    تقول الأميرة الراهبة ((هند الصغرى)) أخت ملك الحيرة ((ليس من قوم في ميسرة، إلا والدهر يعقبهم حسرة، حتى يأتي أمر الله على الفريقين))، وتحقَّقَ نبأ الأميرة، فتلك الأطلال تحكي للأجيال مجدَها الغابرَ، وهذه القبور المسيحية لابد أن تروي حكايات  عن تاريخ النجف الأشرف، تاريخ اعتناق المسيحية، ولابد للدولة العراقية أن تهتم كثيرًا، وهي دعوة لها كي تنهض بآثارنا وتحميها وتعيدها، بعد أن باتت نهبًا للسرَّاق الدوليين، الذين أرادوا أن ينهبوا حضارتنا، ويعبثوا بأمجاد مدينتنا… وعلى الحكومة أن تعتنيَ بالقبور المسيحية التي ستتحدث للعالم باسمنا، أننا شعب حضارة.

 

تحقيق: حيدر حسين الجنابي

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

*