اليوم جمعتني مصادفة عظيمة بالشاب “علي”، ابن محافظة الديوانية، الذي نجا بأعجوبة من مجزرة سبايكر التي نفذتها داعش مطلع حزيران الماضي في منطقة القصور الرئاسية في تكريت، وقد أُجرِيَتْ معه لقاءات تلفزيونية واعلامية كثيرة الى حد انه ملّ منها.
الزبدة التي خرجت منها بلقاء “علي” لم تكن الكيفية التكتيكية التي نجا بها بنفسه، (وهي طبعاً غرائبية تشبه مقطعاً من فيلم سينمائي هوليوودي، ابسط مشاهدها انه بقي ثلاثة ايام مختفياً في جرف نهر بين القصب وسط مجموعة قرى في تكريت) وانما ما وراء قصته العجيبة من دلالات طالما اكدناها مع مجموعة كبيرة من مثقفينا واعلاميينا الواثقين دائماً بإمكانية قيام مشروع عراق مدني تعددي بعد ٢٠٠٣…
“الشاب علي”، كان بين من تم رميهم بالرصاص من شبان سبايكر، ولم تصبه رصاصة، لكن دم من كانوا قربه انتثر عليه فألقى بنفسه على الارض وسط جثث الشهداء، فنفعت الخدعة، ثم كان ان اختفى في الليل بين القصب بمحاذاة جرف النهر، ثم اضطر بعد حرق جماعات داعش القصب الذي كان يختفي فيه لكي يتأكدوا من خلوه من أي هاربين.. اضطر الى عبور النهر ليلاً وان يطرق اول باب يصادفه في المجهول الذي ينتظره في الضفة الأخرى من النهر، وكان هذا البيت بالمصادفة لأسرة من البوعجيل كما اخبرني علي. ولما ادخلوه وطمأنوه واعطوه ملابس جديدة واكرموه، قاموا بنقله خفاءً لأسرة اخرى من عشيرة اخرى نسيت اسمها، تقطن في منطقة ابعد من مكان الحدث، للتأمين عليه، ثم قامت تلك الاسرة بإبعاده هي الأخرى الى مكان ابعد، وكان هذه المرة عند الشيخ خميس جبارة شيخ الجبور في ناحية العلم، الذي قتلت داعش اخته وقتها في الحادثة المشهورة، وكانت القاعدة سابقاً قد قتلت أباه لرفضه التعاون مع القاعدة.. وقد بقي الشاب علي في بيت الشيخ خميس جبارة اياما كثيرة (أظنني سمعت من علي انها ثلاثة اسابيع) حتى صنعوا له هوية احوال مدنية منحوه فيها اسماً جديداً يشير الى انه من ابناء تلك المناطق (بمعنى انه “سني”).. حتى تم اجلاؤه الى اربيل بمعية اسرة فيها نساء واطفال من تلك المناطق، لتسهيل عبوره في السيطرات، حتى عاد من اربيل الى اهله في الديوانية.
في اتصال هاتفي بالشيخ خميس جبارة، سمعت منه بصورة مباشرة ان “الشاب علي” لم يكن هو الشخص الوحيد الذي آوته بيوت ابناء محافظة صلاح الدين، وبدأ يذكر لي بعجالة عدد الجنود “الشيعة” الذين فتح لهم “السنة” ابوابهم هناك وآووهم، وأخفوهم عن أنظار داعش، ثم قاموا بتسريبهم فرادى ومثاني تحت جنح الليل، وبمراحل متتالية، لكي يصلوا الى أهلهم في الوسط والجنوب سالمين… ثم أرسل لي الشيخ خميس صورة الشاب علي (أنشرها هنا) عندما كان مخفيّاً في بيتهم وهو يؤدي الصلاة مع أحد أبناء الشيخ خميس، صلاة شيعي بجوار صلاة سنيّ في بيت لا يملك إزاءه المطارَد الخائف إلا أن يثق بمروءة أهله، وكان حقاً إن بيت هذا الشيخ وسائر البيوت التي آوت الشاب علي وآوت غيره من “الشيعة”، في تكريت وسائر المدن المنكوبة بداعش، بمحافظات الموصل وديالى والأنبار، لكي يصل الشباب المستهدفون الى أهاليهم، أقول.. كانت بيوت إخواننا السنة هذه عند المروءة وكرم النفس والشعور بوحدة المصير الذي يجمعنا معاً في بلادنا.. وكانت مصداقاً لما يردده العراقيون منذ التاسع من حزيران الماضي: إن داعش لا تمثل سنة العراق .