الكوفة في منظور الإمام علي (ع)

575

صورة قديمة توضح معالم مدينة الكوفة المقدسة
صورة قديمة توضح معالم مدينة الكوفة المقدسة

الدكتور  خليل خلف بشير*

كانت السنة السابعة عشر للهجرة بداية عهد علمي جديد ليس في الكوفة وحدها وإنما في العراق كله ثم في العالمين العربي والإسلامي ، وبعد تمصير الكوفة شهدت نشاطاً علمياً كبيراً لا يقل عن النشاط السياسي والديني ،وقد ساعد على ذلك نزول القبائل العربية فضلاً عن موقعها التجاري المميز والأراضي الزراعية وتوفير وسائل العيش الرغيد على كثرة مستوطنيها ،وقد حفلت كتب التاريخ بالأخبار والحكايات التي تدل على أهمية مدينة الكوفة وعلو شأنها في التاريخ ولاسيما ما جاء حول مسجدها الجامع الذي يعد من المساجد الإسلامية المهمة، وذكروا أن مسجد الكوفة يمتد تاريخه إلى أزمنة سحيقة في التاريخ ويُعتقَد أن إبراهيم ( عليه السلام) صلى في هذا المسجد كما صلى فيه ألف نبي، وأن فيه عصا موسى وخاتم سليمان، ومقام إبراهيم ومقام جبرائيل وقد ورد أحاديث وأقوال لعدد من الأئمة الأطهار والعلماء ما لهذا المسجد من المكانة والفضل، منها قول الأمام جعفر الصادق”عليه السلام :(( والذي نفسي بيده لو يعلم الناس من فضله ما أعلم لازدحموا عليه)). وغير ذلك من الأقوال التي تؤكد مكانته السامية في نفوس المسلمين إذ يعده المسلمون رابع المساجد المحدودة في العالم الإسلامي ، المسجد الحرام ،والمسجد النبوي في المدينة ،والمسجد الأقصى ،ومسجد الكوفة. وبقيت الكوفة طوال حياتها صاحبة المركز العلمي الذي كان يساير مركزها السياسي، فأخذ اسم الكوفة والكوفيين يدخل في التاريخ العربي الإسلامي ، وبدأ شعاعها الفكري من جامعها العظيم الذي خطط مع تخطيط المدينة عام 17هـ. وكانت مدينة الكوفة قد بدأت بجامعها ونواتها العلماء الصحابة الذين هبطوا أرضها وكان عددهم ثلاثمائة من أصحاب الهجرة وسبعين من أهل بدر. وكان الإمام علي” عليه السلام” قد أتخذ الكوفة عاصمة بعد وقعة الجمل عام 36هـ،وصار مسجد الكوفة مركز الدولة وأخذ طابعاً علمياً واسع النطاق فكان” عليه السلام” قد ألقى في مسجد الكوفة قسماً من خطبه العظيمة التي ضمها كتاب نهج البلاغة. ومن ذلك قوله (عليه السلام ) في ذكر الكوفة (( كَأَنِّي بِكِ يَا كُوفَةُ تُمَدِّينَ مَدَّ اَلْأَدِيمِ اَلْعُكَاظِيِّ تُعْرَكِينَ بِالنَّوَازِلِ وَتُرْكَبِينَ بِالزَّلاَزِلِ وَإِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّهُ مَا أَرَادَ بِكِ جَبَّارٌ سُوءاً إِلاَّ اِبْتَلاَهُ اَللَّهُ بِشَاغِلٍ أَوْ وَرَمَاهُ بِقَاتِلٍ)) فقد خاطب أمير المؤمنين بهذا الكلام الكوفة فقال : (( كأني بك يا كوفة تمدين مد الأديم العكاظي)) وعكاظ :اسم سوق قرب مكة أو بين مكة والطائف تجتمع فيه العرب كل عام من مختلف المناطق لمدّة عشرين يوماً فكانوا يعرضون متاعهم، كما كانوا ينشدون الشعر وتتفاخر كل قبيلة على الأخرى،ويبدو أن ذلك كناية عن الحوادث الأليمة والمأساوية التي حلّت بالكوفة أو كناية عن ازدياد رقعة الكوفة واتساع مساحتها لاسيما وأنّ الجلد العكاظي واسع وجميل ومن أرغب الجلود لدى العرب، ولعل في هذا إشارة إلى جمال الكوفة وعمرانها في الأزمنة القادمة مقارنة بما عليها في زمان الإمام(عليه السلام،وقد ألمع بعض الدارسين إلى أنّ العبارة تشير إلى مستقبل الكوفة وتقسيمها إلى أجزاء متعددة، على غرار تقسيم الجلد العكاظي ودبغه وتوسيعه،ثم قال ((تعركين بالنوازل وتركبين بالزلازل )) وقد ورد هذا المعنى في الخطبة 108 في قوله (( تعرككم عرك الأديم )) أي يسلط عليكم بني أمية فيسومونكم سوء العذاب ،ونبوءته الثانية التي تمثلت بقوله(( إنّي لأعلم أنّه ما أراد بك جبار سوءاً إلاّ ابتلاه اللّه بشاغل ورماه بقاتل)) وفي ذلك إشارة إلى الأمراض العضال والآلام التي تشغل الظلمة وتصرفهم عن الناس فضلاً عن الحوادث التي تهجم على الإنسان من الخارج فتقتله وتقضي عليه.
والحق أنّ ما تكهن به الإمام(عليه السلام (بشأن الكوفة قد حدث إذ اتسعت اتساعا كبيراً بعد الإمام ، وكانت على الدوام مركزا للفتن والحوادث المريرة، وقد هب أغلب الجبابرة للسيطرة عليها، إلاّ أنّ اللّه كان يبتليهم بأنواع البلاء ويدفع شرهم عنها، ولعل ذلك يعزى لكون الكوفة تشكل مركز استقطاب خلص المؤمنين من الشيعة الأوفياء لعلي بن أبي طالب(عليه السلام(، وإن كان بينهم بعض المنافقين. ومن هنا صرحت بعض الروايات بفضل الكوفة. أمّا من بين الأفراد الذين هموا بالكوفة بعد أمير المؤمنين(عليه السلام) زياد بن أبيه. فقد ورد في بعض الروايات أنّ زيادا لما حصبه أهل الكوفة، وهو يخطب على المنبر، فقطع أيدي ثمانين منهم، وهم أن يخرب دورهم، ويجمر نخلهم، فجمعهم حتى ملأ بهم المسجد والرحبة، يعرضهم على البراءة من علي(عليه السلام)) (وعلم أنّهم سيمتنعون فيحتج بذلك على استئصالهم وتخريب بلدهم. فخرج خارج من القصر فقال: انصرفوا، فانّ الأمير يقول لكم: إنّي عنكم اليوم مشغول; وإذا بالطاعون قد ضربه، فكان يقول: إنّي لأجد في النصف من جسدي حر النار حتى مات)).
وقد ردت عدة عبارات في نهج البلاغة بشأن الكوفة وأهلها، ومن ذلك الخطبة المذكورة التي أشارت إلى المكانة المقدسة للكوفة وأنّها ستشهد حوادث مريرة وأليمة، وأنّ اللّه حافظها من كل جبار عنيد في حين وردت بعض الخطب التي تذم الكوفة، ومن ذلك الخطبة 25 إذ خاطب الإمام)عليه السلام ( الكوفة قائلاً : (( إنّ لم تكوني إلاّ أنت تهب أعاصيرك فقبحك اللّه ))على أنّ هناك نصوصاً صرحت بمدح الكوفة، فقد جاء في الحديث عن أمير المؤمنين)عليه السلام(أنّه قال بشان الكوفة: ((هذه مدينتنا ومحلتنا ومقر شيعتنا ))، كما جاء في رواية أنّ الإمام الصادق(عليه السلام ) دعا للكوفة قائلاً )) : اللّهم ارم من رماها وعاد من عاداها)) ،وللجمع بين الروايات المادحة للكوفة والقادحة لها نقول إنّ الكوفة مقدسة وأهلها من خلص شيعة أهل البيت(عليهم السلام) ممن يتحلون بالورع والتقوى، إلاّ أنّ أجواء الكوفة تلوثت بفعل سيطرة بني أمية ودس العيون والجواسيس فيها وإعانة الظلمة وتسليط الفساق عليها وإيداع بيت المال إلى عبدة الأهواء. فإذا مدحت الكوفة فالمراد أولئك النجباء من الشيعة، وإن ذمت فلذلك الفساد الذي طالها من قبل بني أمية.

* المقال الفائز بالجائزة الثالثة في مهرجان السفير الثاني المقام في أروقة مسجد الكوفة.

ك ح

صورة قديمة جدا لمسجد الكوفة المعظم
صورة قديمة جدا لمسجد الكوفة المعظم
صورة قديمة جدا لمسجد الكوفة وتبين احد مراجع الدين في النجف الاشرف وهو بلقي كلمته على الناس في باحة المسجد المعظم
صورة قديمة جدا لمسجد الكوفة وتبين أحد مراجع الدين في النجف الأشرف وهو بلقي كلمته على الناس في باحة المسجد المعظم
صورة قديمة لمسجد الكوفة المعظم
صورة قديمة لمسجد الكوفة المعظم

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

*