الحكمة – متابعة: هناك دواعٍ تدفعنا للتركيز على معاونة الطبيعة والتكنولوجيا ليزدهرا معا، ونتوقف عن رؤيتهما كندّين في صراع دائم.
من السهولة بمكان تصور الطبيعة والتكنولوجيا وكأنهما منهمكان في مباراة للملاكمة استمرت لقرونٍ من الزمن. لكن القرن الحادي والعشرين شهد توجيه الضربة القاضية.
لقد انزوت كلمات مثل شجرة “البلوط”، و”أفعوان”، و شجر “الصفصاف” في قاموس أكسفورد الجديد، لتفسح الطريق لكلمات مثل “خدمة الإنترنت ذات النطاق العريض” (برودباند)، و الحاسوب “التماثلي”، و”قص” و”لصق”.
نحن نشكو من نشر أجهزة بث الموجات اللاسلكية (المعروفة باسم واي فاي) من حولنا، ورغم ذلك نعلن أن الحصول على خدمة الإنترنت من حقوق الإنسان. نبيّن يأسنا من الصيد الجائر وغير المشروع للحيوانات، بينما نساعد الجناة في تعقب الحيوانات النادرة عن طريق مواقع التواصل الاجتماعي.
ونحلم بالاسترخاء في جزر المالديف الهادئة، بينما نطالب برحلات جوية رخيصة بشكل غير مستدام لتوصلنا إلى هذه الجزر.
لا غرابة في أن تتضارب آراؤنا. وكما يشير الفيلسوف العلمي “كريستوفر بوتر” في كتابه “كيف تصنع بشرا” :”لم يكن البشر قط جزءاً من الطبيعة. كنا دوماً جزءاً من التكنولوجيا.”
منذ اللحظة التي سخّر فيها الإنسان المعاصر طاقة النار، مشينا على مسار الهيمنة على العالم ولم نتطلع إلى الوراء أبدا.
أما الآن، فمن أواني الطبخ، إلى سماعات الواقع الافتراضي، ليست التكنولوجيا إلا مجموعة من استراتيجيات طورها جنسنا البشري بغرض التأقلم مع حقيقة أننا كائنات واعية ذاتياً نعيش على كوكب مليء بالفوضى، وعدائي على الأغلب. ويجعل هذا التصور سعينا إلى الابتكار مجرد أمر “طبيعي” كما هي بنية عقولنا.
لذا، نجد أنفسنا وقد علقنا في موقع “ماي سبيس” على الإنترنت؛ نضحي في كثير من الأحيان بمواطننا الأصلية لصالح انتعاش قصير الأمد يسببه التغيير التقني وحل قصير الأمد لمشاكل اقتصادية وسياسية.
الكثير من اختراعاتنا الرقمية تُقصينا عن عالمنا وقد صنعت أساساً لإثرائه. ومع ذلك، فإن التقنية والطبيعة تقوم بتلقيح أحدها الآخر باستمرار بطرق إيجابية قوية.
إلهام طبيعي
تأمّل حقل العلوم المسمى بـ “تقليد الأحياء”، حيث يُستفاد من عناصر التصميمات الطبيعية وعملياتها لاستعمالها كنماذج لصنع مواد وأجهزة وأدوات جديدة. أحد أشهر الأمثلة على ذلك هو اختراع “فيلكرو” (أي مشبك الخطاف). فقد جرى تطويره من قبل المهندس السويسري “جورج دي ميسترال في عام 1941 بعد ملاحظته لكيفية التصاق نبات اللزيق بملابسه وبفروة كلبه عندما كان في الجبال.
تشمل أحدث التطورات في هذا الحقل صناعة شريط جراحي لحديثي الولادة. وقد صنع هذا الشريط على غرار بنية شبكة العنكبوت؛ وهناك تقليد الفيروسات في صناعة جزيئات بالغة الصغر، ذاتية التجميع، لإيصال الأدوية إلى الخلايا السرطانية مباشرة؛ وآخرها شاشة ملونة قارئة إلكترونية، فائقة الكفاءة وعاكسة وتستند إلى الطريقة التي تومض بها أجنحة الفراشات في الضياء الباهر.
كما أن هناك استخدام التقنيات في دعم مشاريع الحفاظ على البيئة وإدامتها. وقد ظهر مؤخرا مشروع “التكنولوجيا من أجل الطبيعة”، وهو يمثل شراكة فريدة من نوعها بين جمعية علوم الحيوان بلندن، وجامعة لندن، وقسم أبحاث مايكروسوفت.
ويهدف المشروع إلى “التعزيز المضطرد لاستجابتنا للحفاظ على البيئة العالمية”، وذلك عن طريق الجمع بين علماء التكنولوجيا وعلماء الحيوان.
تشمل المشاريع الحالية مشروع يحمل اسم “فيتش كلايميت”؛ وهي خدمة مجانية وسريعة تتيح للخبراء الحصول على بيانات التغيرات المناخية الصحيحة الخاصة بأية منطقة جغرافية من مناطق العالم. وهناك مشروع آخر يدعى “ماتاكي” الذي يطور أجهزة جديدة لتسجيل سلوك الحيوانات في البرية.
ويقر لوكاس جوبّا، أحد مؤسسي المجموعة، بأن هناك تحديات لجمع علماء من اختصاصات تعتبر تقليدياً على خلاف، وخاصة فيما يتعلق بأمور مثل “اللغة، والمصطلحات، والدوافع المختلفة”، كما يقول جوبّا وهو حزين.
ويضيف: “كل النواحي تقريباً!” ولكنه يعتقد في نفس الوقت أن تجاوز هذه التحديات والاختلافات يستحق كل هذا الجهد والعناء.
ويوضح قائلاً: “تشمل قضايا المحافظة على البيئة، والتي هي بأمسّ الحاجة للتصدي لها حالياً، مراقبة المناطق المحمية، ومتابعة الأنواع والأصناف ذات القيمة التجارية العالية، وكشف مواقع المتاجرة غير المشروعة في الحيوانات البرية على الإنترنت.”
ويتابع: “لقد أثّرت التكنولوجيا بشكل إيجابي كبير على الطبيعة خلال العشر سنوات الأخيرة. وقد حدث ذلك من خلال قدراتنا الناشئة لتحقيق رصد شبه متواصل لممتلكات طبيعية نفيسة، مثل المحميات، وحيوانات وحيد القرن. إننا نخلق روابط قوية للمعلومات.”
بالطبع، لا تعني الطبيعة الاهتمام بجراء الحيوانات والشلالات فقط. فالتقنيات تساعد الناس على إدارة الجوانب القاسية والوحشية للطبيعة. إن استخدام علامة المربع مع موقع “تويتر”، وصور تحديد المواقع الجغرافية، ومبادلتها بالمجان عن طريق موقع “إنستغرام” قد أصبحت طريقة قيّمة لتبادل آخر التحديثات آنياً، كلما حصلت كارثة طبيعية وتكشّفت آثارها.
وهناك خدمة العثور على الأشخاص” لشركة غوغل، والتي دشنت لِلَمِّ شمل الأقارب خلال كارثة تسونامي اليابان عام 2011، وهي حالياً خدمة آنية مباشرة في النيبال. أما تطبيق “الوكالة الفيدرالية لإدارة الطوارئ” فإنه يتيح لأهالي المناطق المنكوبة تحديد خدمات الإغاثة اللازمة لتوفيرها لهم.
مدن خضراء
ثم هناك تخطيط “المدينة الخضراء”. يمكنك أن تتأمّل أبنية شاهقة وقد تحولت إلى مزارع عمودية، حيث تملأ المحاصيل السقوف والجدران؛ وتستعمل المساحات الفائضة لزراعة طحالب الوقود الحيوي؛ وتحول الأشجار لتصبح مصابيح لإنارة الشوارع بعد تطعيمها بجينات الإضاءة الحيوية.
وهناك مشروع “الجسر الحديقة” في لندن. وبرغم وجود من يستخفون بذلك المشروع، جرى تقديمه باعتباره أول خطوة عملية باتجاه تلك الرؤية الشاملة لمناظر الطبيعة التي تمتزج فيها المدينة بالريف. ومع التوقعات التي تبين تضخم عدد سكان المدن في كرتنا الأرضية بقرابة 2.5 مليار نسمة بحلول العام 2050، فإن الأمر لا يبدو بعيداً جداً.
من الواضح أن الأخبار ليست جميعها سيئة عندما يتعلق الأمر بالتكنولوجيا والطبيعة على نطاق واسع. ولكن، كيف تؤثر لعبة شد الحبل هذه علينا بشكل شخصي؟
إذا ما أخذنا في الاعتبار طبيعة الإدمان على الأجهزة الرقمية، يصعب أحياناً مجادلة اعتقاد السيد “بوتر” بأن “التقنية تطوِّر الحياة لنعيش داخل بيوتنا”. وعندما نغامر بالانطلاق خارجها، فإن الأجهزة النقالة والملبوسة ستبقينا محبوسين داخل رؤوسنا، حتى عندما نقوم بنزهة بهية على الأقدام في الأرياف.