أخلاق و تواضع النبي محمد صلى الله عليه و آله وسلم وسيرته العملية

691

تواضع الرسول

لا شك أن النبي الكريم صلى الله عليه وآله أروع عظيم عرفه التاريخ، وأكبر مصلح تعرفت عليه البشرية، حيث قام ببناء الفكر الإنساني، وتكوين الحضارة العالمية وصياغة المجتمع الإسلامي، وصنع الإنسان المسلم.

إن النبي صلى الله عليه وآله العظيم ألمع قائد مصلح ومربٍّ كبير حقق المعجز على مسرح الحياة، وقاد المسيرة الإنسانية نحو أهدافها وآمالها، وحمل أكبر مشروع إنساني عندما قال صلى الله عليه وآله (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)، فجاء بأعظم مدرسة متكاملة للإنسان احتوت المبادئ العالية والنبل السامية، واستوعبت جميع المكارم والأخلاق، مدرسة أشرقت بنورها وهداها فغطت أرجاء المعمورة، مدرسة رفدت المجتمع بالإيمان والوفاء والصبر والإحسان والقول الصالح وغذته بالوعي والضمير الحي والإنسانية، وقوضت كل أشكال الظلم والجور والاستبداد، وجرفت رواسب الجاهلية ونزعاتها، فقادت الأمة إلى ميادين الإيمان والحق والعدل.

وكيف لا يكون كذلك وهو الذي قال (ص) (أدبني ربي فأحسن تأديبي). فكيف يكون من كان الله تعالى أديبه، فكان أحكم الناس وأحلمهم وأشجعهم وأعدلهم وأعطفهم، لم تمس يده يد امرأة لا تحلّ له، وأسخى الناس، لا يثبت عنده دينار ولا درهم فإن فضل منه شيء ولم يجد من يعطيه ويجنّه الليل لم يأو إلى منزله حتى يتبرأ منه إلى من يحتاج إليه، لا يأخذ مما آتاه الله تعالى إلا قوت عامه فقط من قليل ما يجد من التمر والشعير، وينفق الباقي في سبيل الله، ولا يُسأل شيئاً إلا أعطاه، ثم يعود إلى قوت عامه فيؤثر منه حتى ربما احتاج قبل انقضاء العام إن لم يأته شيء، وكان يجلس على الأرض، وينام عليها، ويأكل عليها، وكان يخصف النعل ويرقع الثوب، ويفتح الباب ويحلب الشاة ويعقل البعير فيحلبها، ويطحن مع الخادم إذا أعيا، ويضع طَهوره بالليل بيده ولا يجلس متكئا، ويخدم في مهنة أهله ويقطع اللحم، وإذا جلس على الطعام جلس محقّراً، وكان يلطع أصابعه، ولم يتجشأ قط، و يجيب دعوة الحرّ والعبد ولو على ذراع أو كراع، ويقبل الهدية ولو أنها جرعة لبن، ولا يأكل الصدقة، لا يثبت وجهه في وجه أحد، يغضب لربه ولا يغضب لنفسه، وكان يشد الحجر على بطنه من الجوع، يأكل ما حضر، ولا يرد ما وجد، لا يلبس ثوبين، يلبس برداً حبرة يمنيّة، وشملة جبة صوف، والغليظ من القطن والكتان، واكثر ثيابه البياض، ويلبس العمامة، ويلبس القميص من قبل ميامنه، يلبس خاتم فضة في خنصره الأيمن، ويستاك عند الوضوء، يردف خلفه عبده أو غيره، يركب ما أمكنه من فرس أو بغلة أو حمار، ويمشي راجلاً بلا رداء ولا عمامة ولا قلنسوة، ويشيع الجنائز، ويعود المرضى في أقصى المدينة، يجالس الفقراء، ويؤاكل المساكين، ويناولهم بيده، ويكرم أهل الفضل في أخلاقهم، ويتألف أهل الشرف بالبر لهم، يصل ذوي رحمه من غير أن يؤثرهم على غيرهم إلا بما أمر الله، ولا يجفو على أحد، يقبل معذرة المعتذر إليه، وكان أكثر الناس تبسماً ما لم ينزل عليه قرآن أو لم تجر عظة، وربما ضحك من غير قهقهة، لا يرتفع على عبيده وإمائه في مأكل ولا ملبس، ما شتم أحداً بشتمة ولا لعن امراةً ولا خادماً بلعنة، ولا يأتيه أحد حرّ أو عبد أو أمة إلا قام معه في حاجته, لا فظ ولا غليظ، ولا صخّاب في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يغفر ويصفح، يبدأ من لقيه بالسلام، ومن رامه بحاجة صابره حتى يكون هو المنصرف، ما أخذ أحد يده فلا يرسلها حتى يرسلها الغير، وإذا لقي مسلماً بدأه بالمصافحة، وكان لا يقوم ولا يجلس إلا على ذكر الله، وكان أكثر جلوسه أن ينصب ساقيه جميعاً، يجلس حيث ينتهي به المجلس وكان أكثر ما يجلس مستقبل القبلة، وكان يكرم من يدخل عليه حتى ربما بسط ثوبه، ويؤثر الداخل بالوسادة التي تحته، وكان في الرضا والغضب لا يقول إلا حقاً. وقد ورد في كثير من الروايات نماذج من تعامله الكريم وصفاته العالية وأخلاقه السامية نذكر بعض منها:

روي عن موسى بن جعفر عن أبيه عن آبائه عليهم السلام عن أمير المؤمنين عليه السلام قال إن يهودياً كان له على رسول الله صلى الله عليه وآله دنانير فتقاضاها فقال له: يا يهودي ما عندي ما أعطيك, فقال: فإني لا أفارقك يا محمد حتى تقضيني، فقال: إذاً أجلس معك فجلس معه حتى صلى في ذلك الموضع الظهر والعصر والمغرب والعشاء الآخرة والغداة وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله يتهددونه ويتواعدونه، فنظر رسول الله صلى الله عليه وآله إليهم فقال: ما الذي تصنعون به، فقالوا يا رسول الله يهودي يحبسك؟ فقال صلى الله عليه وآله: لم يبعثني ربي عزّ وجل بأن أظلم معاهداً ولا غيره، فلما علا النهار قال اليهودي: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وشطر مالي في سبيل الله، أما والله ما فعلت بك الذي فعلت إلا لأنظر إلى نعتك في التوراة فإني قرأت نعتك في التوراة: محمد بن عبد الله مولده بمكة ومهاجر بطيبة، وليس بفظ ولا غليظ ولا سخاب ولا متزين بالفحش ولا قول الخناء، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله (ص) وهذا مالي فاحكم فيه بما أنزل الله، وكان اليهودي كثير المال، ثم قال عليه السلام كان فراش رسول الله (ص) عباءة وكانت مرفقته أدم حشوها ليف، فثنيت له ذات ليلة فلما أصبح قال: لقد منعني الفراش الليلة الصلاة، فأمر (ص) أن يجعل بطاق واحد. وروي عن الإمام الرضا عن آبائه عليهم السلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام كنا مع النبي (ص) في حفر الخندق إذ جاءت فاطمة ومعها كسيرة من خبز فدفعتها إلى النبي (ص) فقال النبي (ص) ما هذه الكسيرة قالت: خبزته قرصاً للحسن والحسين جئتك منه بهذه الكسيرة، فقال النبي (ص) يا فاطمة أما إنه أول طعام دخل جوف أبيك منذ ثلاث.

وروي عن أنس بن مالك قال إن النبي (ص) أدركه أعرابي فأخذ بردائه فجبذه جبذة شديدة حتى نظرت إلى صفحة عنق رسول الله (ص) وقد أثرت به حاشية الرداء من شدة جبذته، ثم قال له: يا محمد مر لي من مال الله الذي عندك، فالتفت رسول الله (ص) فضحك وأمر له بعطاء.

وروي عن أبي جعفر عليه السلام: إن رسول الله (ص) اُتي باليهودية التي سمت الشاة للنبي (ص) فقال لها ما حملك على ما صنعت فقالت: قلت أن كان نبياً لم يضره وإن كان ملكاً أرحت الناس منه قال فعفا رسول الله (ص) عنها.

وروي عن أبي عبد الله عليه السلام إن رسول الله (ص) أتته أخت له من الرضاعة فلما أن نظر إليها سرّ بها وبسط ردائه لها فأجلسها عليه، ثم أقبل يحدثها ويضحك في وجهها، ثم قامت فذهبت، ثم جاء أخوها فلم يصنع به ما صنع بها، فقيل يا رسول الله صنعت بأخته ما لم تصنع به وهو رجل ؟ فقال: لأنها كانت أبرّ بأبيها منه.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

*