السيّد إبن طاوس الحلّي. أعبدُ أهل زمانه وأزهدُهم، صاحبُ الكرامات والمكاشفات، مَجمع الكمالات السّامية، هو والسيد الجليل بحر العلوم، أكثر العلماء تشرُّفاً بلقاء الإمام المهديّ عجّل الله تعالى فرَجه الشريف. كان نقيبَ الأشراف في بغداد في القرن السابع الهجري. هو ثاني أربعةٍ كبار، وصلت عن طريقهم أدعية رسول الله صلّى الله عليه وآله، وأهلِ البيت عليهم السلام، إلى الأجيال. صاحبُ المؤلّفات النّوعية الكثيرة الخالدة، في مجال التزكية، وأدبِ النفس، المعاملة مع الله تعالى وأوليائه سبحانه، وسائر الناسِ «عيالِ الله».
«.. حين تُقبِل عليه، فإنّك تشعرُ أنّ قلبك بدأ يتنوّر ويتغيّر، سوف تجدْه إنساناً عالِماً، عزيزاً، ذكيّاً، ودوداً، شفّاف القلب، يفيض بالمعرفة الصالحة الهادية، يمنحك مزيداً من قوّة العزم في مواجهة أشياء الدنيا وحوادث العالَم، وتجد أنّ المعرفة التي يوصلها إليك السيّد عليّ بن طاوس هي معرفة مغسولة بنور التعبُّد، معطَّرة بسعادة الإقبال على الله تعالى..». * هو السيّد عليّ بن موسى بن جعفر، المتّصل نسبه بالإمام الحسن المجتبى عليه السلام. * لقبُه رضيُّ الدِّين، وعُرف بابن طاوس نسبةً لأحد أجداده الذي لُقِّب بذلك لجمال وجهه. * وُلد في مدينة الحلّة بالعراق سنة 589 هجريّة في عائلة علميّة عريقة.
* والدُه: السيّد سعدالدِّين موسى بن جعفر بن الطاوس من الرّواة المحدِّثين، وأمّا أمُّه فهي بنت الشيخ ورّام بن أبي فراس المالكي الأشتري صاحب كتاب (تنبيه الخواطر ونزهة النواظر). * أجداده: الشيخ ورّام، صاحب الكتاب التربوي الشهير في عالم التزكية والمراقبة، وجدُّه لأمِّ أبيه الشيخ الطوسي، وقد صرّح السيد قدّس سرّه، بنسبته إليهما في (الإقبال) وغيره، ويُكثِر جدّاً من الرواية عن «جدّي أبي جعفر الطّوسي» كما يُعبِّر، كما يُكثر في كُتبه عادةً من النَّقل من خطِّ الشيخ الطّوسي قدّس سرّه. ويجدُ المُتتبِّع أنّ كثيراً من الأدعية والزيارات -بينها الزيارة الرجبيّة- قد أوردَها السيَد نقلاً عن خطّ جدّه الشيخ أبي جعفر الطوسي، رضوان الله تعالى عليهما. وقد جاء في مقدّمة (الإقبال): «كانت أُمُّه بنت الشيخ ورَّام بن أبي فراس، فهو جدّه لأُمِّه -كما صرّح به في تصانيفه- ، وكانت أُمُّ والدِه سعدالدين بنتُ إبنةِ الشيخ الطوسي، ولذا يعبِّر في تصانيفه كثيراً عن الشيخ الطوسي بالجَدّ أو جدّ والدي، وعن الشيخ أبي علي الحسن بن الشيخ الطوسي بالخال أو خال والدي» . * للسيّد أخوة فضلاء تدلُّ على ذلك ألقابهم التي اشتُهروا بها وهم: السيّد عزّالدين الحسن بن موسى بن طاوس، والسيّد شرف الدين أبو الفضائل محمّد بن موسى بن طاوس، والسيّد جمال الدين أبو الفضائل أحمد بن موسى بن طاوس من مشايخ العلّامة الحلي، وإبن داود صاحب (الرجال)، كان عالماً فاضلاً، له تصانيف عديدة في علوم الرجال والدراية والتفسير. * زوجتُه: هي زهراء خاتون بنت الوزير ناصر بن مهدي، تزوّجها بعد هجرته إلى مشهد الكاظم عليه السلام . * وأمّا أولاده، فهُم: النقيب جلال الدِّين محمّد بن عليّ بن طاوس، وقد كتب والده (كَشْف المَحجّة) وصيّةً إليه وهو صغير، تولّى النقابة بعد وفاة والدِه، والنقيب رضيّ الدين عليّ بن عليّ بن طاوس، سَمِيّ والده، يروي عن أبيه، وله كتاب (زوائد الفوائد)، وَلِي النقابة بعد وفاة أخيه محمّد. وللسيّد إبن طاوس بنات عدّة ذكر اثنتين منهنّ في كُتب له، إحداهما المسمّاة «شرف الأشراف»، قال عنها في كتابه (سعد السعود): «إبنتي الحافظة لكتاب الله المجيد، شرف الأشراف، حَفِظَتْه وعمرها اثنتا عشرة سنة». والأخرى «فاطمة»، قال عنها وهو يذكر مصحفاً كان عنده: «فيما نذكره من مصحف معظّم تامّ أربعة أجزاء، وقفتُه على ابنتي الحافظة للقرآن الكريم فاطمة، حَفِظَته وعمرها دون تسع سنين».
دراستُه
درس علومه الأولى في الحلّة على أبيه وجدّه لأمّه مُبدياً تفوّقاً على أقرانه، وفي ذلك يقول: «أوّل ما نشأتُ بين جدّي ورّام ووالدي “..” وتعّلمت الخطّ والعربيّة، وقرأتُ علم الشريعة المحمّديّة “..” وقرأتُ كُتباً في أصول الدين “..” واشتغلتُ بعلم الفقه، وقد سبقني جماعة إلى التعليم بعدّة سنين، فحفظتُ في نحو سنة ما كان عندهم، وفُضِّلتُ عليهم». ثمّ سافر إلى الكاظميّة؛ مشهد الإمامين الكاظم والجواد عليهما السلام، وأقام هناك متعلِّماً ومدرِّساً مدّة خمسة عشر عاماً. من أبرز أساتذته: السيّد فخار بن مّعد الموسوي، الشيخ محمّد بن نما الحلّي، الشيخ حسين بن أحمد السوراوي، الشيخ محمّد بن النجّار، الشيخ أسعد بن عبد القاهر الأصفهاني. ومن تلامذته: الشيخ الحسن الحلّي المعروف بالعلّامة الحلّي، الشيخ عليّ بن عيسى الأربلي، الشيخ حسن بن داود الحلّي، الشيخ جعفر بن نما الحلّي.
مكتبتُه
اهتمَّ السيّد إبن طاوس باقتناء الكُتُب ودراستها، فتكوّنت عنده مكتبة من نفائس المكتبات في زمانه، بل كانت بمثابة كنزٍ جامعٍ لكُتُب التفسير، والحديث، والدّعوات، والأنساب، والطبّ، والنجوم، واللّغة، والشعر، والرَّمل، والطِّلسمات، والعُوَذ، والتأريخ وغيرها، بما يزيد عن 1500 مجلّد. وكان رضوان الله عليه كثير الإهتمام بمكتبته والشغف بها حتّى أنّه وضع فهرساً لها سمّاه (الإبانة في معرفة أسماء كُتب الخزانة)، كما وضع له آخرون بعض الفهارس المشهورة.
مؤلّفاته
للسيّد مؤلّفات كثيرة تربو على الخمسين مؤلَّفاً، جُلُّها يُعنى بشؤون الأدعية والمستحبّات، مقتصراً على مؤلَّف واحد في الفقه هو (غياث سلطان الورى لسكّان الثرى) في قضاء الصلوات عن الأموات، وذلك تورُّعاً منه عن الفتوى على ما صرّح به حيث قال: «واعلم أنّه إنّما اقتصرتُ على تأليف كتاب (غياث سلطان الورى لسُكّان الثّرى) من كُتب الفقه في قضاء الصلوات عن الأموات، وما صنّفتُ غير ذلك من الفقه وتقرير المسائل والجوابات لأنّي كنت قد رأيت مصلحتي ومعاذي في دُنياي وآخرتي في التفرُّغ عن الفتوى في الأحكام الشرعيّة لأجْل ما وجدتُ من الإختلاف في الرواية بين فقهاءِ أصحابنا في التكاليف الفعليّة، وسمعتُ كلام الله جلَّ جلالُه يقول عن أعزِّ موجود عليه من الخلائق محمّدٍ صلّى الله عليه وآله: ﴿ولو تقوّل علينا بعض الأقاويل * لأخذنا منه باليمين * ثم لقطعنا منه الوتين * فما منكم من أحد عنه حاجزين﴾ الحاقّة:44-47. فَلَو صنَّفتُ كتاباً في الفقه يُعمل بعدي عليه كان ذلك نقضاً لِتَوَرُّعِي عن الفتوى ودخولاً تحت حظر الآية المُشار إليه، لأنّه جلَّ جلالُه إذا كان هذا تهديدُه للرَّسول العزيز الأعلم لو تقوّل عليه، فكيف يكون حالي إذا تقوّلتُ عليه جلَّ جلالُه وأفتيتُ أو صنَّفتُ خطأً أو غلطاً يومَ حضوري بين يديه؟». وللسيّد إبن طاوس مؤلَّف واحد أيضاً في علم الكلام سمّاه (شفاء العقول من داء الفضول)، فلم يَزِد على ذلك لرأيه بأنّ علم الكلام مُستحدَث بعد النبيّ صلّى الله عليه وآله، وأنّ الله تعالى ورسولَه يرضيان بالمعرفة بأصول الدِّين بدون تلك الأدلّة المطوّلة. أمّا أبرز تصانيفه في مجال الدعاء والمستحبّات: (الإقبال بالأعمال الحسنة فيما يُعمل مرّة في السنة) المعروف بكتاب الإقبال، (الأمان من أخطار الأسفار والأزمان)، (جمال الأسبوع بكمال العمل المشروع)، (زهرة الربيع في أدعية الأسابيع)، (فتح الأبواب بين ذوي الألباب وبين ربِّ الأرباب) وهو كتاب في الإستخارات، (فلاح السائل ونجاح المسائل)، (المُجتنى من الدعاء المجتبى)، (محاسبة النفس)، (مُهَج الدعوات ومنهج العنايات).
أقوال العلماء فيه
* تلميذه العلّامة الحلّي: «السيّد السند رضيّ الدين عليّ بن موسى بن طاوس، وكان أعبدَ مَن رأيناه من أهل زمانه». وقال: «وكان رضيّ الدين عليّ صاحب كرامات حكى لي بعضها، ورَوَى لي والدي البعض الآخر». * الحرّ العاملي صاحب كتاب (وسائل الشيعة): «حالُه في العلم والفضل والزهد والعبادة والثقة والفقه والجلالة والورع أشهر من أن يُذكر، وكان أيضاً شاعراً أديباً مُنشئاً بليغاً». * العلّامة المجلسي: «السيّد النقيب الثقة الزاهد، جمال العارفين». * المحدّث الميرزا حسين النوري صاحب كتاب (مستدرك الوسائل): «السيد الأجلّ، الأكمل الأسعد، الأورع الأزهد، صاحب الكرامات الباهرة، رضيّ الدين أبو القاسم وأبو الحسن عليّ بن سعدالدين موسى بن جعفر آل طاوس، الذي ما اتَّفقت كلمة الأصحاب على اختلاف مشاربهم وطريقتهم على صدور الكرامات عن أحد ممّن تقدّمه أو تأخر عنه غيره». وقال: «وكان رحمه الله من عظماء المعظِّمين لشعائر الله تعالى، لا يَذكر في أحد من تصانيفه الإسم المبارك إلّا ويُعقّبه بقوله جلَّ جلالُه». * المحدِّث الشيخ عبّاس القمّي: «إبن طاوس يُطلق غالباً على رضيّ الدين أبي القاسم عليّ بن موسى بن جعفر بن طاوس الحسني الحسيني، السيّد الأجلّ الأورع الأزهد، قدوة العارفين “..” وكان رحمه الله مجمع الكمالات السامية، حتّى الشعر والأدب والإنشاء، وذلك فضلُ الله يؤتيه من يشاء».
معارفُه القلبيّة
لا يملك المتصدّي للتعريف بالسيّد ابن طاوس قدّس سرّه أن يُغفل جانب علاقته النوعية بالله عزَّ وجلّ، التي هي سرٌّ من أسرار حياته المباركة عِلماً وعَملاً، وسنقتصر في بيان هذا الجانب على كلام ورد في ترجمته على الموقع الإلكتروني؛ (شبكة الإمام الرضا عليه السلام): «.. منهج المعرفة الإلهيّة التي فاز بها إبن طاوس، هو مبحث مهمّ من مباحث سيرة هذا الرجل الفذّ، وهو منهج حيوي أنيس، يَعتمد تهذيب الباطن وتطهير القلب والإستئناس بالتعبُّد والدعاء والمناجاة، لِيُصبح قلبُ الإنسان عندئذٍ محلّاً صالحاً لِنظر الله الخاص، وموضعاً قدسيّاً لتنزُّل المعرفة الإلهيّة النورانيّة من فوق. ولسانُ السيّد إبن طاوس يبوح بهذه النعمة المتنزِّلة عليه ويُحدِّث بها، لكنّه لا يبوح لنا بتفاصيلها، ولا بأسلوب تنزُّلها وتلقّيها، يقول عن معرفته النوريّة اليقينيّة الإلهاميّة: وكان من النِّعم التي أمر اللهُ جلَّ جلالُه بالحديث عنها والتعظيم لها أنّه جلَّ جلالُه ألهمَني معرفته بطريقٍ لا يحتمل خطرَ التلبيس، ولا يشتمل عليه كدَر التدليس، ومَن عرفني بالعيان ونور الإيمان وجدَ لسانَ الحال مصدّقاً هذا المقال، واستغنى بالوجدان عن إقامة البرهان، وقد أشرتُ في بعض كُتبٍ اغترفتُها من بحار كرم المالك اللّطيف إلى طرفٍ من كيفيّة ذلك التعريف. اهـ. ومن آثار معرفته الإلهاميّة أنّه كان يتفرّد بالتعرّف على ما لا يَتعرّف عليه إلاّ الندرة المستورة من أهل المشاهَدة واليقين، يقول مثلاً: واعلَمْ أنّ الله جلَّ جلالُه تفضّل علينا بأسرار ربّانية وأنوار محمّدية ومَبارّ علَويّة، منها: تعريفُنا بأوائل الشهور وإنْ لم نشاهد هلالَها، وليس ذلك بطريقة الأحكام النجوميّة، ولا الإستخارات المَرويّة، وإنّما ذلك -كما قلنا- بالأمور الوجدانيّة الضروريّة. اهـ. ثمّة حادثة أعلى وأغلى، تُنبّئك بما في صدر هذا الرَّجل من انكشاف الحقائق المحجوبة بنور اليقين، قال وهو يتحدّث عن الإمام المهدي عليه السلام خلال زيارة قام بها إلى سامّراء: وكنتُ أنا بسُرَّ مَن رأى، فسمعتُ سَحَراً دعاءه عليه السلام، فحفظتُه منه “..” وكان ذلك في ليلة الأربعاء ثالث عشر ذي القعدة سنة ثمان وثلاثين وستمئة. اهـ. وهو بهذا النموذج الفريد كان يحتفل كلَّ عام ويُصلِّي لله شكراً في ذكرى اليوم الذي بلغ فيه سنَّ التكليف، فهذا اليوم في نظره من الأيّام العظيمة في حياته، إذ شرّفه الله تعالى فيه بأنْ جعله موضع خطابه التشريعي، ومحلّ تكليف بالواجبات المقدَّسة».
علاقته بالحاكمين
خلال الفترة التي قضاها السيّد في بغداد كان يتمتّع بمكانة مرموقة لدى العامّة والخاصّة، جعلت الخليفة العبّاسي المستنصر يتودّد إليه، ووَصل به الأمر أن يَعرض عليه تولّي الوزارة، فرفضها مبرِّراً ذلك بقوله له: «إن كان المُراد بوزارتي على عادة الوزراء، يمشون أمورهم بكلّ مذهب وكلّ سبب، سواءً كان ذلك موافقاً لرضا الله جلَّ جلالُه ورضا سيِّد الأنبياء والمرسلين صلّى الله عليه وآله أم مخالفاً لهما في الآراء، فإنّك من أَدخلته في الوزارة بهذه القاعدة قام بما جرت عليه العوائد الفاسدة، وإنْ أردت العمل في ذلك بكتاب الله جلَّ جلالهُ وسنّة رسوله صلّى الله عليه وآله، فهذا أمر لا يحتمله مَن في دارك ولا مماليكُك ولا خَدَمُك ولا حشمك ولا ملوك الأطراف، ويُقال لك إذا سلكتَ سبيل العدل والإنصاف والزهد: إنّ هذا عليّ بن طاوس علويٌّ حسني، ما أراد بهذه الأمور إلّا أن يعرف أهل الدهور أنّ الخلافة لو كانت إليهم كانوا على هذه القاعدة من السيرة، وأنّ في ذلك ردّاً على الخلفاء من سلفك وطعناً عليهم». إلّا أن المستنصر ألحّ عليه في قبول مناصب أخرى، منها منصب الإفتاء، ومنها نقابة العلويّين. يقول السيّد في ذلك: «فأوّلُ شَرَكٍ نصبه الشيطان ليُفرِّقَ بيني وبين الله جلَّ جلالُه صاحبِ الرحمة والإحسان، أنّه طلبني المستنصر للفتوى، ثمّ عاد الخليفة ودعاني إلى نقابة جميع الطالبيّين “..” وبقي على مطالبتي بذلك عدّة سنين، فاعتذرتُ بأعذار كثيرة». ومن مواقفه الصلبة تجاه متسلّطي زمانه، أنّ وزيراً كتب إليه يطلب منه زيارته وعرْض حوائجه وحوائج مَن يَعرف من أهل الحاجات عليه. فكتب إليه السيّد جواباً كان فيه: «كيف بقيَ لي قدرة على مُكاتبتك في حوائجي وحوائج الفقراء وأهل الضرّاء “..” وأنا مكلَّفٌ من الله جلَّ جلالُه، ورسولِه صلّى الله عليه وآله، والأئمّةِ عليهم السلام، أن أكرهَ بقاءك على ما أنت عليه حتّى يصل كتابي إليك، ومكلَّفٌ أن أريد عزلَك عن مقامك قبل وصول كتابي وقدومه عليك؟!». وموقف آخر يذكره لولده، يقول: «ولقد كرّر مكاتبتي ومراسلتي بعضُ ملوك الدنيا الكبار في أن أزوره في دارٍ يتنافس في دخولها كثيرٌ من أهل الإغترار، فقلت له مُراسَلة: أُنظُرْ إلى المسكن الذي أنت ساكنه الآن “..” فإنْ وجدتَ فيه حائطاً، أو طابقاً، أو أرضاً، أو فراشاً، أو ستراً، أو شيئاً وُضِع لله جلَّ جلالُه وفي رضاه، حتّى أحضُر وأجلس عليه وأنظُر إليه، ويَهون علَيّ أن أراه!». وقد لخّص ابن طاوس محنته السياسية هذه مع الحكّام بعبارة قال فيها: «إنّ مِن جملة ما بُليتُ به “..” معرفة الملوك بي وحبّهم لي، حتّى كاد أن يُفسد علَيّ سعادة الدنيا والآخرة، ويَحُول بيني وبين مالِكي صاحب النِّعم الباطنة والظاهرة “..” وما خلّصني من خطر إقبال ملوك الدنيا وحبّهم لي، وسلّمني من السموم القاتلة في قُربهم إلّا اللهُ جلَّ جلالُه على التحقيق، فأنا عتيقُ ذلك المالك الرحيم الشفيق». ونتيجة كلّ تلك الضغوط خرَج رضوان الله عليه من بغداد إلى موطنه الحلّة حيث بقي مدّة، ثمّ انتقل إلى النجف فبقي فيها ثلاث سنين، ثمّ انتقل إلى كربلاء، ثمّ عاد إلى بغداد سنة 652 هجريّة.
السيّد والمغول
حين كانت زُحوف القبائل المغوليّة في الطريق من خراسان -بعد احتلالها- إلى بغداد، كان للسيّد إبن طاوس موقف عظيم، يحكي مضمون هذا الرجل وصلابة إيمانه وطاقته الروحيّة العجيبة، كما يكشف عن نظرته المتقدّمة في محاولته احتواء «التَّتار» ودعوتهم إلى الإسلام في هذه الفرصة المُؤاتية. وفعلاً، بادَرت همّتُة العالية إلى التوجُّه بمفرده لملاقاة كبار زعماء المغول قبل أن يقتحموا المدينة الكبيرة، وقبل أن يحدث ما حدث من مقتلة فجيعة ومن أعمال التخريب. كان عازماً عزماً قويّاً أن يخرج بعمامته وعباءته لمخاطبة زعماء التَّتار ولتدبّر الأمور. ولكنّ «المستنصر» العبّاسي حال دون ذلك، وعَدَّ خروجَه إليهم لوناً من الضعف يُحسَب على سُلطته أمام قادة المغول. وفي ذلك يقول السيّد: «إنّه كان قد غلب التَّتار على بلاد خراسان وطمعوا في هذه البلاد، ووصلت سراياه إلى نحو مقاتلة بغداد في زمن الخليفة المستنصر -جزاه الله عنّي بما هو أهلُه- كتبتُ إلى الأمير قشتمر، وكان إذ ذاك مقدّم العساكر خارج بلد بغداد، وهم مبرزون بالخيم والعدد والإستظهار، ويخافون أن تأتيهم عساكر التَّتار، وقد نُودِي في باطن البلد بالخروج إلى الجهاد، فقلت له بالمكاتبة: إستأذن لي الخليفة واعرض رقعتي عليه في أن يأذن في التدبير، ويكونون حيث أقول يقولون، وحيث أسكت يسكتون، حتى أُصلح الحال بالكلام، فقد خِيف على بيضة الإسلام وما يعذر اللهُ جلَّ جلالُه من يَترك الصُّلح بين الأنام». ولكنّ الخليفة لم يأذن وأضاع الفرصة التي كان يقدّر السيّد إبن طاوس ضرورتها لِحَقْن الدماء، ولتقريب الأقوام الوثنيّة الزاحفة، من التعرّف على نور الإسلام. اقتربت بعدئذ هجمات القبائل المغوليّة، وما أَجْدَت استعدادات السلطة للدفاع عن بغداد، وسقطت العاصمة تحت سنابك خَيْل المغول. وكان إبن طاوس -خلال وقائع الغزو الدموي- قد سلّمه الله سبحانه ممّا في هذا الغزو من الأهوال، وسَلِم على يديه أناسٌ كثيرون. يقول رحمه الله تعالى: «تمّ احتلال بغداد من قبل التَتَر في يوم الإثنين 18 محرّم سنة 656، وبتنا في ليلة هائلة من المخاوف الدنيويّة، فسلّمنا اللهُ جلَّ جلالُه من تلك الأهوال». وإنْ لم تكن مساعي السيّد تكلّلت بالنجاح في دَرْء الهجوم المغولي عن بغداد، إلّا أنّه نجح في رفع السيف عن كثير من الناس بفضل حِنكته ومُداراته. فقد جاء أنّه لمّا تمّ احتلال بغداد، أمر هلاكو المغولي أن يُستفتى العلماء فيها: «أيّما أفضل، السلطان الكافر العادل، أم السلطان المُسلم الجائر؟» ثمّ جمع العلماء بما فيهم فقهاء العبّاسيين، فلمّا وقفوا على الفُتيا أحجموا عن الجواب، وكان السيّد حاضراً في ذلك المجلس، فلمّا رأى إحجامهم تناول الفتيا ووضع خطّه فيها بتفضيل العادل الكافر على المُسلم الجائر، فوضع الباقون خطوطهم بعده. وقد سبّبت فتياه هذه خيراً عميماً للأمّة، وكان من فوائد ذلك ما أشار إليه بقوله: «ظفرت بالأمان والإحسان، وحُقنت فيه دماؤنا، وحُفظت فيه حُرَمُنا وأطفالنا ونساؤنا، وسلِم على أيدينا خلقٌ كثير».
نقابتُه للطالبيّين
عُرِضت نقابة الطالبيّين على السيّد إبن طاوس مراراً في زمن المستنصر العباسي، إلّا أنّه كان يعتذر عن قبولها تفادياً منه لأيّ منصب رسمي، ولكنّه لَمّا رأى مصلحة في قبولها إثر سقوط الدولة العباسيّة، وانتشار الفوضى في البلاد، وخوفه على العباد، تولّاها رعايةً منه لشؤون السادة والعلماء، واستطاع أن يُنقذ من الناس والمؤلّفات ما استطاع إنقاذه، وأَنجد ما تمكّن من إنجاده. وقد حُفَّ تولِّيه النقابة بأجواء احتفاليّة، يقول عنها الشيخ عباس القمّي: «رأيتُ في كتابٍ من كُتب الأنساب: أنّه لمّا تولّى السيّد رضيّ الدين النقابة وجلس على مرتبةٍ خضراء، وكان الناس عقيب واقعة بغداد قد رفعوا السواد (الشعار العباسي) ولبسوا لباس الخضرة، قال عليّ بن حمزة العلوي الشاعر: فذاك عليٌّ نجلُ موسى بنِ جعفر شبيهُ عليٍّ نجلِ موسى بنِ جعفر فذاك بدَستٍ للإمامة أخضر وهذا بدست للنقابة أخضر لأنّ المأمون لَمّا عهد إلى الإمام الرضا عليه السلام، ألبَسه لباساً أخضر وأجلسه على وسادتين خضراوين، وغيّر السواد الذي هو شعار الدولة العباسية». كان ذلك سنة 661 واستمرّ نقيباً حتى وفاته في صباح اليوم الخامس من شهر ذي القعدة عام 664.
مدفنُه
اختُلف في مكان دفن السيّد إبن طاوس وتعدّدت الآراء بشأنه، فمِن قائل إنّ قبره غيرُ معروف، إلى أنّه مدفون في الحلّة في خارج المدينة في بستانٍ نُسِب إليه، وقولٍ إنّه في داخلها، إلّا أنّ أقرب الأقوال أنّه مدفون في النجف في مشهد أمير المؤمنين عليه السلام، حيث كان قد أوصى بذلك، وقد صرّح هو قدّس سرّه في كتابه (فلاح السائل): «وقد كنتُ مضيتُ بنفسي وأشرتُ إلى مَن حفر لي قبراً كما اخترتُه في جوار جدّي ومولاي عليّ بن أبي طالب عليه السلام، متضيّفاً ومستجيراً ووافداً وسائلاً وآملاً، متوسّلاً بكلّ ما يتوسُّل به أحدٌ من الخلائق إليه، وجعلتُه [القبر] تحت قدمَي والديّ رضوان الله عليهما، لأنّي وجدتُ الله جلَّ جلالُه يأمرني بخَفْض الجناح لهما، ويوصيني بالإحسان إليهما، فأردتُ أن يكون رأسي مهما بقيت في القبور تحت قدميهما». كما أنّ صاحب كتاب (الحوادث الجامعة) -المعاصر لتلك الفترة- يذكر في حوادث عام 664 هجرية ما نصُّه: «وفيه تُوفِّي السيّد النقيب الطاهر رضيّ الدين عليّ بن طاوس، وحُمِل إلى مشهد جدّه عليّ بن أبي طالب عليه السلام».