الأطفال .. ضحايا حوادث سببها الغفلة والإهمال
الحكمة – متابعة: فجأةً، تعالت أصوات صراخ البكاء مختلطة بحسرات الأم التي وقفت على ضوء النار المشتعلة في الطابق الثاني من المنزل، ومن بين ألسنة النار المتطايرة كان هناك صراخ ألم آخر تتخلله آهات متقطعة لجسد يحترق. ولم يكن الصراخ غير صراخ طفل التهمت بعض أجزاء جسده النيران، وحاول الهروب والنار مشتعلة فيه، فاضطرت الأم لاحتضانه ولفته ببطانية كانت قريبة منها.
غالبا ما تعود أمل، وهي الشقيقة الكبرى للطفل الذي رحل نتيجة حادث مأساوي بذكرياتها إلى هذا المشهد الذي حدث في أواخر آب من العام 2001، فتنسكب أحزانها ودموعها كسيل جارف مليء بالحسرات عن حادث لم ولن تنساه طوال حياتها.
وتروي أمل بحسرات تحرق القلب وبدموع ساخنة تفاصيل ذلك اليوم:
كان يوما صادما مليئا بالحزن والألم، فقد كنت منشغلة باعداد الطعام في الطابق الارضي عند الظهيرة، وكان شقيقي ذو التسعة اعوام يلعب عند باب المنزل قبل ان ينسحب بخطوات بطيئة نحو الطابق العلوي، وما هي الا لحظات، حتى سمعت الصراخ، وخرجت بخطى متعثرة بخوفي وقلقي باتجاه مصدر الصوت، وأصابني الذهول عندما رأيت شقيقي يحترق حيا ويتلوى ألما تحت لهيب أشعة شمس آب المحرقة، وكانت والدتي تحاول اخماد كتلة النار المتوهجة بيديها المغطاة ببقايا عجين الخبز، بعد ان لفته ببطانية كانت قريبة منها، ولكن من دون جدوى!.
تتابع الأحداث ..
وتضيف أمل بصوت تخنقه العبرات:
تتابعت الاحداث بعد ذلك بسرعة البرق الخاطف، فقد أسرعت النار بالتهام ملابس شقيقي وانتشرت حتى احرقت آخر جزءٍ من وجهه و افقدته ما تبقى من ملامحه الصبيانية، و كانت عبارة “بعد فوات الاوان” هي إجابة القدر على كل جهودنا المبذولة لانقاذه، وأكمل الجملة شقيق أمل الذي يكبرها بعدة سنوات عائدا بذكرياته الى يوم الحادث موضحا:
بدأ الزمن وكأنَّه قد توقَّف، ففيما كنت أحاول اخماد النار وكأنِّي في حلم يعرض بالتصوير البطيء، كان شقيقي المصاب يتحرَّك وكانت هناك صعوبة بالسيطرة عليها.
ويضيف متذكِّرا تلك الساعات العصيبة: استجمعت شتات افكاري المبعثرة من هول الصدمة، وبكل ما أوتيت من قوة استطعت إخماد النار وحملته بالبطانية، وسارعنا بنقله إلى أقرب مستشفى من منزلنا، لكن ذلك المستشفى لم يكن فيه ردهة لعلاج الحروق، مادفعنا لنقله الى مستشفى اخرى!
ويقول أحد منتسبي وزارة الداخلية “طالبا عدم ذكر أسمه”: عندما يتعرض الانسان الى حادث عرضي كأن يسقط من مكان مرتفع أو يتعرض الى صعقة كهربائية أو قد يصاب بحروق أو اختناق لاي سبب كان، يتم استقباله من قبل الملاكات الطبية الموجودة قي قسم الطوارئ لاتخاذ جميع الاجراءات اللازمة لإنقاذ حياته، وفي حالة فقدان المصاب لحياته نتيجة تلك الحوادث التي تعرف باسم (حالات الشرطة)، فيتم حينها اتخاذ اجراءات خاصة بعيدة عن صلاحيات المستشفى التي تمتنع بدورها عن تسليم الجثة حتى يتم تبليغ مركز الشرطة الذي وقع الحادث ضمن منطقة اعماله، للتأكد من سبب الوفاة.
لحظات حاسمة
ويصف شقيق أمل اللحظات المريرة عندما كان شقيقه ممدا على السرير في غرفة الطوارئ مقاوما الألم الذي يعتصره وجسمه مغطى بانتفاخات مليئة بالماء بين اللحم والجلد، لإصابته بحروق من الدرجة الثانية، والتي تكون شدتها أعمق من حروق الدرجة الأولى:
كان يتأوَّه الما وعطشا بصوت مرتعش، رفض الأطباء تلبية رغبته الأخيرة بإرواء عطشه المستمر خوفا على حالته الصحية وتعرضه للتسمم، و في لحظة ساد الصمت وتمركزت خلاله أبصارنا على حركة الأطباء وهم يحاولون إنقاذه، لكن مخالب المنية عجلت بقطف زهرة حياته مبكرا!. ويضيف انه لا ينسى تلك المشاهد التي هزَّت وجدانه من الأعماق وطبعتها بطابع الحزن الأبدي.
وفي ما يخص الحوادث يشير الدكتور أحمد الرديني المختص في طب الأطفال إلى ذلك موضحا: إن السبب الرئيس في تلك الحوادث التي يتعرَّض لها الأطفال ناتج عن إهمال الأهل، أو عدم مبالاتهم بتلك المخاطر التي يمكن أن تشكل مصدر تهديد حقيقي على حياة الطفل، فأغلب الحوادث التي يتعرَّض لها الأطفال تكون نتيجة عدم أخذ الحيطة والحذر كما هو الحال في ترك بعض القطع الصغيرة من الألعاب التي يحاول ابتلاعها وتسبب الاختناق، هذا غير ترك الطفل من دون متابعة في المطبخ، مما قد يعرضه لحوادث الاحتراق، فضلاً عن أسلاك الكهرباء، والأدوات الكهربائية، والصعود إلى أسطح المنازل من دون رفقة، وتعرض الطفل للسقوط من ارتفاعات عالية تشكل خطراً على حياته.
التوعية الاجتماعية
وتعليقا على ما تقدم يرى الدكتور محمد عبد الحسن الأستاذ في علم الاجتماع أن تلك الحوادث تندرج من الإصابات البسيطة إلى الإصابات البليغة ذات الآثار الجسدية والنفسية التي تتراوح ما بين المتوسطة إلى المعقدة، وصولاً إلى تلك الاصابات التي قد تودي بحياة الطفل نتيجة الإهمال.
ويضيف عبد الحسن: علماً أن الحوادث التي يتعرض لها الأطفال في العراق من عمر(1-14) تعد ذات نسب عالية، ولذلك فإن وضع الحلول والمعالجات بات أمرا محتما كون الأضرار قد لا تقف عند حدود الطفل، بل إن آثارها السلبية سوف تمتد إلى عمود الهيئة الاجتماعية، ولعل البداية الحقيقية للحد من هذه الحوادث هو التوعية الاجتماعية والجماهيرية عبر وسائل الإعلام بمختلف مسمياتها وكذلك عبر منظمات المجتمع المدني، وصولاً إلى المؤسسات الفاعلة في الدولة وكل من موقعه وحسب إمكانياته.
ويبيِّن الرديني عند وضع الأشياء أمام الطفل يجب على الأب والأم أن يفكرا بتعامل الطفل مع تلك الأشياء، وبالنتائج المحتملة عن ذلك التعامل، فالطفل بطبيعته أكثر عرضة للحوادث المؤسفة نتيجة حركته المستمرة وحبه وفضوله الذي يدفعه لاستكشاف الاشياء بنفسه، كما إن بعض العادات المتبعة قد تكون مصدر خطر كنوم الطفل مع الأم، وقد تعرض كثير من الأطفال إلى الاختناق، أو التعرض للركل من قبل الإخوة والأخوات الذين ينامون معاً في مكان واحد، هذا فضلا عن بعض العادات السلبية مثل النوم على الأرض والذي قد يتسبب بالتعرض الطفل لللسع أو لدغ الحشرات، وكذلك ترك الأدوية والمستحضرات الطبية والنفط ومساحيق الغسيل لتكون في متناول الأطفال، وهذا من شأنه أن يشكل خطراً حقيقياً على حياة الطفل وبالذات في السنوات الاولى من حياته.
خبر الوفاة
وتقول أمل بصوت يملؤه الحزن:
لم ينتهِ اليوم بسماع خبر وفاته بل رافقتنا قصص أخرى منها إحالة المستشفى جثمان شقيقي إلى التشريح لغرض معرفة سبب الوفاة، وفيما كان البعض منشغلا بهذه الإجراءات الروتينية، كان ضباط التحقيق المختصون في القضايا الجنائية منشغلين في موقع الحادث لغرض العثور على دليل يرفع أصابع الاتهام عن العائلة، وبدؤوا باستجواب الشهود من الجيران، وكذلك الاستفسار عن سلوكيات العائلة للتأكُّد من أن ما جرى كان حادثا عرضيا وليس متعمدا، وفعلا كان الدليل واضحا، ففي المكان وجدوا الخزان المعدني الذي كان مليئا بالبنزين المعد لتشغيل مولدة الكهرباء الصغيرة، وكان الفقيد قد جلب الخزَّان من دون أن ينتبه إلى تسرُّب البنزين إلى ملابسه، فقد أراد أن يحرق مجموعة من الصور الورقية التي تستعمل في لعب الأطفال، ولما باءت محاولاته بإحراقها بالفشل، استعان بالبنزين غير مدرك لحجم مخاطر فعله، وبذلك سجلت القضية تحت عنوان حادث عرضي وانتهى الأمر.
ويؤكد منتسب وزارة الداخلية إن تسلسل الإجراءات الرسمية المتخذة بـ (حالات الشرطة) يبدأ بتوجه ضابط التحقيق في مركز الشرطة الذي وقع الحادث ضمن منطقة أعماله إلى المستشفى لغرض التحقيق وجمع المعلومات من ذوي المصاب، وبموجب كتاب رسمي يتم نقل الجثة إلى دائرة الطب العدلي لغرض التشريح وأخذ الصور والعينات، وتسلم الجثة إلى ذويها مع كتاب رسمي ليتم دفنها، وبعد أيام تسلم النتائج إلى قاضي التحقيق في المحكمة وبعد التأكد من كون سبب الوفاة حادثا عرضيا وعدم وجود جريمة في الموضوع يتم غلق التحقيق.
وتختتم أمل حديثها بحزن وألم:
على الرغم من مرور عدة سنوات على ذلك الحادث، إلا أن شعور والدتي بالذنب مازال حاضرا بكل قوة، فقد فشلنا بإقناعها بان كل ما جرى لشقيقي هو بقضاء الله تعالى وقدره.
(الصباح – هدى العزاوي)
س م