إن الآية المباركة ضمن أجواء تحريك العقل وهي تتحدّث عن أمرين الأول هو خلق السماوات والأرض والثاني ظاهرة الليل والنهار ثم تعقّب بعد ذلك على أن كلا هذين الأمرين هو آية أي علامة ولكنّها ليست لكل أحد وانما لذوي الألباب أي أصحاب العقول الخالية من شوائب الأوهام والخرافة والغفلة بمعنى أن الآية علامة للجميع ولكن الذي ينتفع بها ويتوقّف ويتأمّل فيها حتى ينتهي إلى الاعتقاد الصادق أو إلى شكر المولى هم أصحاب العقول. ونحن سنتحدث في أجواء هذه الآية ضمن إيحاءات متعددة
الإيحاء الأول: اهتمام الإسلام بالعقل
لم تعتن أية مدرسة فكرية بالعقل كما اعتنى به الدين الإسلامي واعتمد عليه في إثبات أهم مسائل الدين وهي التوحيد والنبوة والمعاد والعدل والإمامة وجعلت منه محوراً تدور عليه الخطابات السماوية في هذه الأمور وشجّعت على التمسك به .. فهي مدرسة تقدّس العقل وتحترمه لكن في الحدود التي يتحرك فيها. بل جعلت منه قوام شخصّية الإنسان المتدين (قوام المرء عقله) حيث أن الشخصية تتقوم بهذا العامل النوراني لتعطيه القدرة على المعرفة ومحاربة الضلالة ولأن العقل يوصل إلى الحق وهو مراد الشارع الذي طلب من الإنسان أن يتأمّل في آياته ولا يعطّل العقل (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّأُوْلِي النُّهَى) أي العقل الذي له دور القيادة والإدارة والنهي في الأمور الممنوعة والواضحة الحرمة ولربما أن في الآية إشارة إلى الوظيفة الثانية للعقل وهو التحريك وسيأتي الكلام عنه في الإيحاء الثاني. كما أن بعض الأحاديث تنفي أن يكون للإنسان دين إذا لم يكن له عقل (لا دين لمن لا عقل له) لأن العقل هو الطريق الأول لإثبات أصول الدين كما أن بعض الأحاديث أعطت مفهوماً جديداً للغنى والفقر وأنّ المعيار فيهما ليس هو المال بل المعيار هو العقل (لا غنى كالعقل ولا فقر كالجهل) فالفقير الحقيقي هو الجاهل.
العقل والإيمان بالغيب
قد يقول قائل أن الدعوات الدينية دعوات غيبية لا تحترم العقول وأنها ترفض مناقشة آرائها الدينية لأنها آراء قدسية من عالم الغيب إلى غير ذلك من هذه الدعاوى؟ فنقول أن الشريعة اعتمدت في منهجها على العقل السليم وهذا واضح وأن العقل لا يتنافى مع الإيمان بالغيب إذ يستدل عليه من خلال آثاره أو بعض المقدمات الموصلة إليه، فالعالم اليوم كله يؤمن بالكهرباء ونتساءل هل رأى أحدٌ الكهرباء؟ الجواب : كلاّ لكنهم يقولون نعتقد بها من خلال آثارها إذن الكهرباء غيب عن الحس لكنها ظاهرة عند العقل وليس كل ما غاب عن الحس يأخذ العقل منه موقفاً رافضاً وسلبياً هذه دعوى مبنية على أن المحسوسات فقط هي الموجودات وهذه قضية واضحة البطلان. كما نقول لهم هل رأيتم الجاذبية؟ كلا وألف كلا ولكنهم مجمعون على الاعتقاد بها ونسألهم ما هو منشأ الاعتقاد بهذه الظواهر الحسية كالكهرباء والجاذبية؟ والمنشأ واضح وهو التعرف عليها من خلال آثارها وعندما نأتي إلى عالم الغيب ونقول أن العقل دلنا على الاعتقاد بوجود الله وبقية الأمور الغيبية يتعجّبون فنسأل ما هو منشأ التعجّب؟ إذا كانت الآثار كافية للاعتقاد بوجود المؤثر فكما كان الأثر كافياً للاعتقاد بالكهرباء أليس في خلق السماوات والأرض وظاهرة الليل والنهار أثراً كافياً للاعتقاد بخالق هذه الأمور.
الإيحاء الثاني: العقل دعامة للدين
عزيزي القارئ إن العقل هو الدعامة الأولى للعقائد في الإسلام ومعرفة الشريعة المقدّسة ترتكز على العقل حتى عبّر عنه في بعض الروايات بأنه الرسول الباطني كما أن الرسول هو العقل الخارجي لشدّة العلاقة بين العقل والشريعة ولنقف قليلاً على سؤال مفاده. ما هو المراد من العقل؟ القوّة التي امتاز بها عن الحيوانات وارتفع بها على سائر الموجودات وتعطيه قابلية التمييز والمعرفة وهي من المواهب الفطرية والنعم الجليلة التي أودعها الله فينا كي يستغلّها الإنسان لصلاحه وسعادته في جميع أموره في الدنيا والآخرة ويربأ بنفسه عن التخلي عنها والهبوط إلى مستوى الحيوان أو ما دونه، إن للعقل دورين اساسيين.
أدوار العقل
الأول: الكشف والمعرفة وهذه هي الوظيفة الأولى له حيث أن للعقل القدرة على معرفة الأشياء المادية والمعنوية وتطوير هذه المعرفة وهذا البعد من العقل يتم تفعيله من خلال التأمل والتفكير المجرد ودراسة العلوم العقلية كالفلسفة والمنطق فكمال هذا العقل بالتفكير والنظر المجرّد عن العمل وبتعبير آخر أن علم العقائد من آثار هذا البعد وهذا ما يسمى بالعقل النظري.
الثاني: الإدراك والتحريك : في هذا المقام لا يكتفي العقل بالإدراك بل يبعث نحو العمل ويشوّق إليه وهذا البعد يسمى بالعقل العملي ومحوره إدراك حسن الأشياء وقبحها كإدراك أن العدل حسنٌ والظلم قبيحٌ وما يتفرّع عليهما وقد ورد (من كمل عقله حسن عمله) وأن هذا البعد يتم تفعيله من خلال العمل الصالح والعبادة والدعاء لأنه ليس مجرد إدراك بل يبعث نحو العمل ويتكامل مع العمل وكل ما كثر العمل ازداد العقل توهّجاً وقد يسمى هذا الأثر بالقلب.
الإيحاء الثالث: ما هي الحاجة إلى الدليل
إن صاحب كل دعوى لابد أن يأتي بدليل على مدعاه وهذا من الأمور الواضحة فإن الأدلة إنما يحتاج إليها للوصول إلى الحق فيرتفع عذر المكلف ولا يبقى له حجّة وهذا الأمر يتم بدليل واحد فإذا وصل إلى الحقيقة بأي وجه فرض فقد أقيمت الحجّة عليه وتمّت المسؤولية في حقه فمثلاً نرى اليوم من يدّعي الإخبار بالمغيبات ويدعي أنه يتصل بالجن هذا لا يعد دليلاً لذوي العقول الراجحة لأنه أمر خفي إذ لم نقل قام الدليل على بطلان هذا الطريق وهذا محل ابتلاء كثير من الناس إذ أنهم طالما يسرعون إلى تصديق أصحاب الدعاوى الجديدة أما لطيب نفوسهم أو لأنهم متأثرون بالميراث العرفي أو إلى غير ذلك من الأسباب وهذا على خلاف مقتضى طبع العقل وإرشاد هذه الآية.
الإيحاء الرابع : قبول الحق
إن العقل السليم إذا عرض عليه الحق يقبله أياً كانت الحقيقة سواء في الأمور العقائدية أو المذهبية أو الاجتماعية أما عدم قبول الحق فهي ظاهرة مرضية يسميها القرآن بالجحود (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ {النمل/14} والجحود من آثار العقل العملي كما قدمنا في الإيحاء الثاني وهذا الجحود له مناشئ متعددة فقد يكون بسبب الهوى والألفة لفكرة وعقيدة معيّنة كما حصل في زمن النبي (ص) عندما قابلوه في ميراث الآباء وكذلك ما يحصل في الحوارات المذهبية أو كما حصل في قضية الشورى وأن الأدلّة ظاهرة على حقانية أمير المؤمنين (ع) وأن الأئمة إثنا عشر إماماً أولهم أمير المؤمنين وآخرهم المهدي المنتظر (عجل الله تعالى فرجه الشريف) فقد ورد في صحيح البخاري أن الأئمة كلهم من قريش إثنا عشر أميرا، وعندما نسألهم عن ذكر هؤلاء الأمراء يتوقّفون والمذهب الوحيد الذي يستطيع الإجابة على هذا السؤال هو مذهب الشيعة الإمامية، وفي الآية إشارة إلى تلك القضية وهي قبول الحق لأن أولي الألباب عندما تأمّلوا في الكون وحقائقه وظهر لهم الحق آمنوا به وخضعوا إليه.
الإيحاء الخامس: المناسبة بين الدليل والمدعى
إن الآية المباركة تجعل الأثر دليل على المؤثر وهو قانون بديهي وأقصد بالأثر خلق السماوات والأرض والمؤثر هو الخالق وكذلك تجعل من ظاهرة الليل والنهار ولعل المقصود فيه الحركة ومنه يستدل على وجود المحرّك أو دقّة النظام ونستدل منه على دقّة المنظم فلابد إذن من وجود مناسبة بين مقدمات التفكير والنتيجة التي ننتهي إليها فنكران الخالق أو الرسالة أو الإمامة هذا خلاف العقل والوجدان فمثلاً عندما ادعى النبي (ص) منصب النبوة وهو غيب أتى بدليل يناسب هذا المدعى أيضاً من عالم الغيب وهو المعجزة فهكذا إذا كانت الدعوى عقلية فنلجأ إلى الطريق العقلي وقضية الاعتقاد بوجود الله ليست من القضايا الحسية حتى يستدل عليها من خلال التجربة بل هي من القضايا العقلية التي يستدل فيها أما عن طريق آثاره أو عن طريق مقدمات عقلية بحتة.
الإيحاء السادس: وضوح العقيدة
إن الآية الكريمة فيها إشارة واضحة بأن حجج الله عز وجل إلى العباد تكون ظاهرة لا تحتاج في الأعم الأغلب منها إلى مقدمات عقلية معقّدة نعم قد تدخل هذه المقدمات في باب زيادة الأدلّة حتى يحصل تأكيد الاطمئنان وإلا فإن أصل حصول الاطمئنان متيسّر للجميع وأنه لم يفرض دينه على عباده حتى أوصله إليهم بأدلّة وافية تنتهي بالآخرة إلى البديهيات والوجدانيات التي من تبصّر أوصلته إلى الحقيقة، عندما سؤل إعرابي في زمن النبي (ص) لماذا آمنت بمحمّد قال ما أمرني بشيء ورأيت العقل ينهاني عنه ولا نهاني عن شيء ورأيت العقل يأمرني فيه بمعنى أن الإسلام ينسجم مع الفطرة والعقل فإنه أمر بالصلاة وبر الوالدين ومساعدة الفقراء والتعاون على الخير وصلة الرحم والصدق والأمانة إلى غير ذلك ونهى عن الزنا وشرب الخمر والكذب والغيبة إلى غير ذلك من الأمور التي هي واضحة لكل عاقل.
رفع شبهة
وهنا قد يسأل البعض عن سر الاختلاف بين الناس في أديانهم وأن هذا كيف يجتمع مع قوّة أدلّة الدين الحق فإذا كان بعض الناس تعمّد مخالفة الحق الواضح عناداً أو لمصالح مادية فإن اكثر الناس ليسوا كذلك بل يتبنى كل فريق دينه وعقيدته عن قناعة وبدافع منه وإصرار وقد يبلغ حد التضحية بكل غالي ونفيس وما ذلك إلا للاعتقاد بأن هذا هو الحق ولذا قد يذهب البعض أن الحق غير واضح وأن صاحب كل دين وعقيدة معذور فيما يعتقد إلا من تعمّد مخالفة الحق مع وضوحه؟ وجوابنا إن كثرة الخلاف في الحق لا تنافي وضوح الحق وهذا لا يعني أنه واضح للمخالف اي الذي اعتقد اعتقاداً باطلاً بل بمعنى وضوحه في نفسه بحيث لو أراد الإنسان الفحص عنه بالطرق العقلائية والنظر في الأدلة البسيطة وتحكيم الوجدان لوصل إليه وأما إنه لم يعرف الحق فهذا أما ناشئ من عدم اهتمامه بالفحص أو الوجود مانع عنده من الاستجابة للأدلة من مصالح مادية أو تقليد أعمى أو غير ذلك. اللهم اجعلنا ممن أنرت بصائرهم بالحق وجعلتنا في طريق رضوانك طريق محمد وآل محمد إنك حميد مجيد والحمد لله رب العالمين.